خيمةُ الشِّعر

12:22 مساءً الأحد 20 أغسطس 2023
غريدالشيخ

غريدالشيخ

غريد الشّيخ محمد، كاتبة، مُعجمية، صاحبة دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر، بيروت

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

فصل من كتاب (أيّام مع عبد العزيز خوجة)

تأليف: غريد الشَّيخ

(رَغَد البطلة الرَّئيسة التي تحلم أنها تقابل الشعراء وتذهب معهم إلى أماكنهم، عبد العزيز خوجة الشاعر السّعودي ابن مكّة المكرّمة، قيس ليلى، جميل بُثينة، عمر بن أبي ربيعة)

ليلُ الصَّحراء يُضيئه بدرٌ، فتكبرُ السّماءُ وتَصفو، ويُصبحُ المدى أوسع فأوسع.

خيمةُ الشِّعرِ بيضاءُ لا كما خيامُ أفراد القبيلة المَحبوكةُ مِن شَعرِ الماعز الأسود، أمّا أشعّةُ القمر ونيران القِرى فترسمُ أخيلةً تنعكسُ على أشجار النَّخيل وبعض شُجَيرات الأثل الصّحراويّة.

سألت (نوف) الصَّغيرةُ أمَّها وهي تُمسكُ بطَرفِ ثَوبها الطّويل الأسود:

– بدأت سهرةُ الشُّعَراء؟

أجابت الأمُّ وهي تُشيرُ بنَظراتِها إلى شاعرٍ يدخلُ الخَيمة للتَّوِّ:

– اسمعي الغناءَ، إنَّها قصيدةٌ للشَّاعر المُضِيفِ الَّذي يدخلُ الخيمةَ الآن.

سألت الصَّغيرة:

– هو الشَّاعرُ عبد العزيز الَّذي تحدَّث رئيسُ القبيلةِ عنه؟

– هو… تعالي نقترب من الخيمة ونسمع الغناء.

جلستا قريبًا مِن الخيمة الّتي لم يكتمل عددُ مَدْعُوِّيها بعد، ومع ذلك، فقد اخترقَت رائحةُ القهوة العربيّة الَّتي تغلي في حفرة “الرّبعة” حاسّةَ الشَّمّ لَديهما، فأنعشتهما، وزاد انتعاشهما بهبوب نسائم الصَّحراء العليلة الَّتي لا يعرفُ حَلاوتَها إلاَّ كلّ مَن مَرّ بالبوادي أو سكن فيها.

ساد الصَّمتُ إلَّا مِن صوتِ المُنْشِدِ يُغَنِّي:

(كلُّ نَبْضٍ في حنايا النَّفسِ يَدعو حُبَّها

وكأنَّ اللَّهَ لم يخلقْ نساءً غيرَها

وكأنَّ القلبَ لم يَخْفِقْ غَرَامًا قبلَها

وكأنَّ الحُبَّ قد حَلَّ على الأرض لها)

بعدها، سَمعتا صوت الشَّاعر المُضيف يُنشدُ:

(أنا المَجذوبُ والمجنونُ والعاشقْ

أنا الدَّرويشُ لا شاكٍ ولا آبِقْ

أنا الشِّرِّيدُ لا المَطرودُ لا المارقْ

أنا الباكي على الأبوابِ لا السَّارقْ

أنا الشَّحَّاذُ هل مَنْ يسمعُ الطَّارقْ

أنا المأخوذُ في عينينِ كالبارقْ)

ردّ صوتٌ على التَّرحيب بالتَّرحيب:

– أهلًا بك يا أخا العرب في عالم العُشَّاق والمجانين.

همست أمُّ نوفٍ في أُذنِ ابنتها الّتي وضعت رأسها ذا الجدائل السَّوداء الطّويلة على رُكْبَتَيْها:

– صوتُ جميل بن مَعْمَر.

وجاء صوتٌ آخر:

(يا مُوقِدَ النَّارِ يُذْكِيها ويُخْمِدُها

قُرُّ الشِّتاءِ بأرياحٍ وأمطارِ

قمْ فاصْطَلِ النَّارَ مِن قلبي مُضَرَّمَةً

فالشَّوقُ يُضْرِمُها يا مُوقدَ النَّارِ)

سألت نوف أمَّها:

– جميل أيضًا؟

– بل قيس بن المُلَوَّح.

وعاد صوت جميل ليخترقَ سُكون ليل الصَّحراء:

(ألا أيُّها النُّوّامُ وَيْحَكُمُ هُبُّوا

أُسائِلُكم هل يقتل الرَّجُلَ الحُبُّ؟

فقالوا: نعم حتَّى يَسُلَّ عِظامَهُ

ويتركَه حَيْرانَ ليس له لُبُّ)

وعاد صوت عبد العزيز ينشد:

(أنا الهَيَّامُ في كَوْنٍ بلا عنوانْ

أنا الرُّبّانُ في أُفقٍ بلا شطآنْ

أنا ماضٍ أنا آتٍ بلا أزمانْ

أنا رَفَّات نَوْرَسةٍ على طوفانْ)

فردّ قيس:

(وحَسْبُ اللَّيالي أنْ طَرَحْنَكَ مَطْرَحًا

بدارِ قِلًى تُمْسي وأنتَ غَريبُها)

فقال عبد العزيز:

(أنا مَن طافَ في المَلَكوتِ كالطّائرْ

ويَحْمِلُنِي جَنَاحا عاشِقٍ حائرْ

وزوّادي حنينٌ قاهرٌ ساهرْ

وفي رَحْلِي غَرامٌ غابرٌ حاضرْ

ألا مَن يفتحُ الأبوابَ للزَّائرْ)

نهضت (نوف) مِن جلستها وقت مَرَّت شابّةٌ سمراءُ بِشَعرِها اللَّيليّ الأسود وعِطرها الفَوّاح حاملةً حقيبة مليئة بالأوراق والكتب، مُتَّجِهّةً نحو الخيمة، وسألتْ أمّها الّتي أشرقَ وجهُها بابتسامة واسعة وهي ترقبُ الفتاة:

– هي الكاتبة التي تحدّثتْ عنها نساءُ القبيلة؟

– نعم… هي رغد…

– جاءت تستمع؟

– تستمع وتشارك وتكتب…

– أريدُ أن أصبحَ مثلها…

ضَمَّت أمُّ نوف رأس ابنتها إليها وقالت:

– ستصبحين… ولكن… أصغي.

دخلت رغد الخيمة، فاستُقْبِلَتْ بِفنجان قهوة عربيّة رشفتْ منه بعد أن جلست في صدر الخَيمة حيث أفسحَ لها الشُّعراء العُشَّاقُ مكانًا. وقبل أن تقولَ أيَّ شيء راح جميل يشكو مُتَأَوِّهًا:

(أيبكي حمامُ الأَيْكِ مِن فَقْدِ إلْفِهِ

وأصبرُ؟ وما بي عن بُثَيْنَةَ مِن صَبرِ

يقولون: مسحورٌ يُجَنُّ بِذِكْرِها

فأقسمُ ما بي مِن جُنونٍ ولا سِحْرِ)

أجابه عبد العزيز وهو يصبُّ للضَّيفةِ المَزيد مِن القهوة:

(كأنّي فوق أجنحةٍ مِن الرّيحِ

تُقَلِّبُني ولا أشكو تَباريحي

وتَمْخُرُ بي إلى جُرحي وتَجريحي

كأنِّي أمتطي شَوقي على رُوحي

على الأبواب كم ضَلَّت مفاتيحي

فما ردّوا وما حَنُّوا لِتَنويحي)

عَلَّقَت رغد:

– ما بين شاكٍ مِن صَبرٍ لا يَجِدُهُ، ومُنتظرٍ على الأبواب للدُّخول إلى العالَم المَسحور، يبدو هاجسُ الحبّ مُسَيطرًا على القلوب ومُحَرِّكًا قرائحَ الشّعر… أسمعُ، مِن بين الكلمات، آهات عذاباته.

ابتسم الشّعراء، وابتسمت (نوف) خارج الخيمة سائلةً أمّها ثانية:

– هي لا تُنْشِدُ الشّعر؟

– بل تقول نثرًا.

– ليست شاعرة؟

– بل كاتبة.

– آه…

في تلك اللَّحظة، اكتمل وجود الشّعر إذ دخلَ عُمَر بن أبي ربيعة رافعًا رأسَه عاليًا حتَّى يكادُ، كما علّقت الصَّغيرة، يُطاوِلُ سماءَ البادية وسَقفَ خيمةِ الشِّعر. وانطلقت مِن الدَّاخل أصواتُ ترحيبٍ بالشَّاعر الَّذي ألقى نظرة سريعة على الموجودين ثمّ استقرَّت نظراته على الفتاة السّمراء قائلًا:

– جئتُ أُخْرِجُكِ وأُخْرِجُهم مِن أجواءِ الآهاتِ، وأدعوكِ وأدعوهم إلى أجواءِ الحبِّ الحقيقيّة.

استنكر جميل وقيس معًا قولَ عمر، أمّا الشّاعر المُضِيف، فقد ارتسمتْ في عينيه ابتسامةٌ لم يُدْرَ كُنْهُها لكنّها دلَّتْ على أنَّ الجلسةَ بدأت تحلو.

نظر عمر إلى رَغَد مِن جديد ووَجَّهَ حديثَه إليها:

(فلمّا فَقَدْتُ الصَّوتَ منهم وأُطْفِئَتْ

مصابيحُ شَبَّتْ بالعِشاءِ وأَنْوُرُ

وغاب قُمَيْرٌ كُنتُ أرجو غُيُوبَه

ورَوَّحَ رُعْيانٌ ونَوَّمَ سُمَّرُ

ونفضتُ عَنّي النّومَ أقبلتُ مِشْيَةَ الــ

ـحباب ورُكني خيفةَ القوم أَزْوَرُ

فحَيَّيْتُ إذ لاقَيْتُها فتَوَلَّهَتْ

وكادت بمَكنونِ التّحيّةِ تَجْهَرُ

وقالتْ وعَضَّتْ بالبَنانِ: فَضَحْتَني

وأنتَ امرؤٌ مَيسورُ أمرِك أَعْسَرُ

أَرَيْتَكَ إذ هُنّا عليكَ ألمْ تَخَفْ

رقيبًا وحولي مِن عَدُوِّكَ حُضَّرُ

فوالله لا أدري أَتَعْجِيلُ حاجةٍ

سَرَتْ بك أم قد نامَ مَنْ كُنتَ تَحْذَرُ

فقلتُ لها: بل قادني الشَّوقُ والهوى

إليك وما عَينٌ مِن النّاسِ تنظرُ)

وتنحنح، ثم التفت إلى جميل، فقَيس، فالشّاعر المُضيف ورفع سَبَّابَتَه قائلًا لِرَغَد:

– أجواءُ الحُبِّ الحقيقيّة تعني المُغامرة والمُخاطرة للوصول إلى المحبوبة الّتي يقود إليها الشّوقُ والهوى… الشَّوق والهوى.

قال جميل:

– دعنا مِن قِصَصِكَ أو مِن مُذَكَّراتِك اليوميّة… فالحبُّ الحقيقيّ لا يُوصِلُ إلى المَحبوبة بل يُوصل إلى الموت…

هزَّ قيس رأسه موافقًا، بينما علَّق الشاعر المُضيف:

– أعوذ بالله.

ضحكت رَغَد، وادَّعى عُمَر الجديّة وهو يتلو قصيدة جميل التي لَخّص جوابه أجواءها:

(قد مات قَبلي أخو نَهْدٍ وصاحبُه

مُرَقِّشٌ واشتفى مِن عُرْوَةَ الكَمَدُ

وكلُّهم كان مِن عِشقٍ مَنِيَّتهُ

وقد وَجَدْتُ بها فوق الّذي وجدوا

إنَّي لأرهبُ أو قد كِدْتُ أعلمُهُ

أن سوف تُورِدُني الحَوضَ الَّذي وردوا

إنْ لم تَنَلْنِي بمعروفٍ تَجُودُ به

أو يدفع الله عنّي الواحد الصَّمدُ)

وما إن أنهى عمر تلاوةَ قصيدة صديقه حتَّى عاد قيس فأكّد:

(قتيلٌ مِنَ الأشواق أمّا نهارُه

فباكٍ وأمّا ليلُه فأَنينُ

له عَبْرَةٌ تَهمي ونِيرانُ قلبِه

وأجفانِهِ – تُذْرِي الدُّموعَ – عيونُ

فيا ليتَ أنّ الموت يأتي مُعجّلًا

على أنَّ عشقَ الغانيات فتونُ)

تأوَّه جميل:

– هو ذا الحبّ الحقيقيّ…

قال عُمَر ساخرًا:

– بكاءٌ وأنين.

قال جميل:

– وموتٌ… اسمع:

(يهواكِ ما عشتُ الفؤاد فإنْ أَمُتْ

يتبع صدايَ صَداكِ بين الأَقْبُرِ)

عَلَّق قيس:

– الله… الله…

صبَّ عمر كأسَ ماء وشربه، ثمّ التفت إلى (رَغَد) التي كانت تُصغي إلى الحوار الشّعريّ الدَّائر قائلًا:

– أرأيتِ الحُبَّ الحقيقيّ؟…. بكاءٌ وأنين وشكوى وقتل وموت وأقبر… ما أجمل هذه الأجواء وما أحراها أن تدفعَ بكلِّ مَن لم يُجَرِّبِ الحُبَّ أن يفعل… كانت حَبيباتُ العُذْريّينَ مَحظوظاتٍ وكنّ يشعرنَ بشيء اسمه السّعادة…

ضحكتْ رَغَد وقد بدا في عينيها إعجابٌ خَفِيٌّ بالشَّاعر الَّذي أضفى على أجواء الجلسة مَرَحًا جَذَّابًا، وعَرَفَتْ لِتَوِّها لماذا أَحَبَّ دائمًا ولماذا أُحِبَّ دائمًا.

لكنَّه سرعان ما قَطَّبَ رافعًا سَبَّابَتَه في وجه الشّاعِرَينِ العُذريّينِ قائلًا:

– الحبُّ الحَقيقيُّ، يا صَدِيقَيَّ، هو الّذي يُحْيينا لا الّذي يميتنا، هو، كما قال مُضيفنا “أنوارٌ تشعُّ، ويدٌ تُرَبِّتُ”.

والتفت إلى الشّاعر المضيف قائلًا:

– أَتْحِفْنا، يا ابنَ القوم، يا ابنَ مَكّةَ كما أنا ابنُها، بتلك القصيدة التي تَرُدُّ بها على صديقينا البدويَّين بل على أصدقائنا العُذْرِيّين.

قال المُضيف:

– أنا لا أردّ، بل أشرحُ وجهةَ نَظري في الحبّ.

قال عمر:

– وجهةُ النّظر موقف، والموقفُ رَدٌّ.

ضحكَ المُضيف:

– ليكن ما تريد.

(أغمضتُ عيني كي يراكِ فؤادي

فسمعتُ آهاتي عليكِ تُنادي

أدركتُ أنّي في هَوَاكِ مُتَيَّمٌ

وعَرَفْتُ أنّكِ غايتي ومُرادي

وشَعَرْتُ أنوارًا تشعُّ بخاطري

ويدًا تُرَبِّتُ خافقي بوِدادِ

أفنيتُ نفسي في ضِيائِك نَشْوَةً

وإليكِ يا أَمَلي تركتُ قِيادي

أيقنتُ أنَّ الأُنْسَ في هذا الهوى

والحُبُّ في عينيكِ خيرُ جهادِ”

علّق عمر:

– عظيم.

وعلّقت رغد:

– أعجبتني إحالَتُكَ فِعْلَ الرُّؤيةِ مِن العَينِ إلى الفُؤاد.

بينما قال جميل:

– أمَّا أنا، فأعجبني إعجابُكَ بقولي:

(يقولون جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ

وأيُّ جهادٍ غيرهنّ أريدُ

لكلِّ حديثٍ بينهنَّ بَشاشةٌ

وكلُّ قتيلٍ عندهنَّ شهيدُ)

قال عبد العزيز:

– لكنّني لم أصلْ إلى ما وَصَلْتَ إليه مِن مرتبة الشّهادة الّتي ينالها قتيل الهوى…

قال عمر:

– يأبى أصدقاؤنا العُذْريّون إلاّ ذكر الموت والقتل.

فردّ جميل:

– لأنّنا نعيش هاجسَ التّهديد، هاجسَ القتل، هاجسَ المَوت. أمَا سمعتَ ما قلتُه:

(أحلمًا فقَبْلَ اليوم كان أوانُه

أَم اخْشى فقبلَ اليومِ هُدِّدْتُ بالقَتلِ)

قال عمر:

– أنتم تجلبون لأنفسكم الهمَّ والغَمّ.

ثم التفت إلى رَغَد:

– أخبريني يا أستاذة… أنتِ مِن أنصارِ الحبِّ الَّذي يُودي إلى الموتِ بعد المعاناة أم من أنصار الحبّ الذي يخلقُ الدّافعَ إلى المُغامرة للوصول إلى الفَرح الَّذي أعتقدُ أنَّه غاية الشَّوق والهوى؟

أجابت:

– يبدو أنّني سأرتبكُ في الإدلاء بِدَلْوي بين شعراء الغزل الحِجازيّينَ البَدو منهم والحَضَر.

أثار كلامُها سؤالَه الَّذي وَجَّهَه إليها:

– لستِ حِجازِيّة؟

– بل دِمَشْقِيَّة.

– شآمِيَّة.

قال المُضيف:

– أخذَنا الحديثُ يا عُمَر فما عَرَّفناكَ بالأستاذة.

ضَحِكَ عُمَر ثمّ قال للضَّيفة:

– عَرَفْنا الشَّأمَ منذ انتقلَ السّلطان السّياسيّ مِن عندنا إليها… لقد انصرفْنا، وقتها، عن الاشتراك في الحياة العامّة بعد أن كنّا منشأَ الخلافة الّتي امتدّ سلطانُها على الأرض…

وصمتَ لحظة قال بعدها:

– في الحقيقة… نحن – بداوةً وحَضَرًا – لم ننصرفْ عن الاشتراك في الحياة العامَّة، بل… وقَرَّبَ رأسَه منها هامسًا:

– صُرِفْنا عنها.

ضحكَ المُضيفُ، وضحكت رَغَد، وعلّقَ جميل:

– مَنْ يسمعُكَ تهمسُ بِعبارة “صُرِفْنا عنها”، يعتقدُ أنَّ هذا الصَّرفَ أدّى بكَ، أو بكم أنتم الحَضَر، إلى ما أدّى بنا مِن حُزن وكآبة يكادان يصلانِ بنا إلى حافة اليأس.

قال قيس:

– بل وصلا بنا.

قال عُمَر رافعًا كَتِفَيْهِ:

– كان أغلبُكم فقراء.

قال قيس:

– وكنتم أغنياء.

قال عمر:

– السُّلطانُ السّياسيّ أُخِذَ منّا ومنكم.

عَلَّقَت رَغَد:

– لكنّ المال، وجوده وعدمه، هو الَّذي غَيَّرَ رَدّات الفعل، فانصرفَ البَدوُ الفُقراء إلى الغزل العفيف التَّقِيِّ الّذي ظلّ متمسّكًا بالدِّينِ في محاولةٍ لاعتراضٍ ضِمْنِيٍّ على انتقال مَركزِه، وهكذا نشأ الحبُّ العُذْرِيّ، بينما انصرفَ الحَضَريّون إلى اللّهو كما أعرف…

اعترض عمر:

– لم نَلْهُ.

قالت:

– هكذا تقولُ كتب التّاريخ.

قال:

– كتبُ التّاريخ تقولُ لَهونا بينما نحن أَحْبَبْنا… أنا أحببتُ!

قال جميل:

– أَحَبَّ كلَّ النّساء: هند، دَعْد، الثُّريّا، فاطمة و… و…

وتنقّلَ بينهنّ دون أسفٍ أو حُزنٍ فقال:

(سلامٌ عليها ما أَحَبَّتْ سلامَنا

فإنْ كَرِهَتْه فالسَّلامُ على أُخرى)

التفت عُمَر إليه:

– أعتقدُ أنّكَ القائل: “لكلِّ حديثٍ بينهن بشاشةٌ”

قال جميل مُوَجِّهًا حديثَه إلى رَغَد مُؤَكِّدًا صدقَ حُبّه:

– لكنّني ما أحببتُ إلَّاها…

سأل عبد العزيز جميلًا:

– إلَّا رغد؟…

فالتفت عمر إلى الشَّابّة السّمراء:

– رَغَد؟… رَغَد؟… اسمٌ حلو…

قال قيس غامزًا:

– لامرأةٍ حُلوة.

ابتسمتْ رَغَد وقالت:

– أخرجوني مِن دائرةِ النّساءِ اللَّاتي تَغَزَّلْتُم بِهِنّ…

قال قيس وجميل معًا:

– نحن أَخْرَجْنا كلَّ النّساءِ إلَّاهُما…

أمّا عمر فقد قال:

– لو كنتِ في زماني…

قالت:

– لَرَفَضْتُ أن أُضَافَ إلى قائمةِ أسماءِ النّساءِ اللّواتي…

قاطعها عُمَر:

– بل لَكُنْتِ أرسلتِ لي كما أرسلتْ مُعْظَمُ سيّدات المجتمع، أو لَتَرَصَّدْتِنِي كما تَرَصَّدْنَنِي…

استنكرت:

– أنا؟…

قال غامزًا:

– وإن لم تَفْعَلِي، لَفَعَلْتُ.

ضحك الجميع، وعلّقَ جميل:

– عُمَر هو عُمَر.

فأجاب:

– الحبُّ الحقيقيُّ بحثٌ دائمٌ عن الجمال، وبالتّالي، هو بحثٌ دائمٌ عن الشِّعر.

التفتت الفتاة إلى المُضيف:

– موافق؟

قال:

– اسمعي ما قلتُ:

(اقلبْ رَمادكَ مَرَّةً، سافرْ على أملٍ شَريدْ

لا بدَّ مِن جَمْرٍ يشعُّ مِنَ البعيدْ

لا بدّ من ذِكرى تُضمِّخُ خفقةَ القلبِ الوحيدْ

اقلبْ رمادَك بين زَخَّاتِ الدُّموعْ

لا بدَّ مِن آهٍ تُدَثِّرُها الضُّلُوعْ

إن لم تجدْ جمرًا ولا نارًا

هناك بَقِيَّةٌ مِن فَوْحِ أطلال الرّبيعْ

بعض النَّسائمِ تلفحُ الوجدانَ في ليل الصَّقيعْ

اقلبْ رمادَكَ في ثَنايا الرُّوح في دَمِكَ المُباحْ

إمّا يطيرُ مع الرِّياحْ

إمّا يعيدُ لك الجراحْ

اقلبْ رمادَكَ ربّما يأتي صباحْ)

قالت رَغَد:

– قَلْبُ الرّمادِ بحثٌ عن هند أو دعد…

علّق عُمَر:

– أو رَغَد.

قال المُضيف:

– يُعْجِبُني إخلاصُ العُذريّينَ، إخلاصُهم لمحبوبةٍ واحدة، ولمبدإِ العفّة.

اعترض عُمَر:

– مبدأُ العفّة أمرٌ لا يُمْكِنُ البَتّ به… هو ذا صاحبُنا جميل قد حاول اجتيازَ حاجز العفّة وقت قال:

(تعالي نَبِعْ في العامِ يا بَثْنُ دِينَنا

بدُنيا فإنّا قابلًا سنتوبُ)

لكنَّها هي الّتي رفضتْ وقالت:

(فقالت لَعَنَّا يا جميلُ نَبيعُه

وآجالُنا مِن دونِ ذاك قريبُ)

أطرقتْ رَغَد خَجِلَةً، فأنشد عبد العزيز مُبَرِّرًا قولَ جميل الّذي ارتبك وما عاد يقدرُ على الرَّدّ على اتِّهامات عُمَر الَّتي أدانته:

(نحتاجُ بعضَ الوقتِ أيضًا للجنونْ

نحتاجُ أيضًا لِلنَّزَقْ

لِلَّهْوِ كالأطفالِ في أشيائِنا حتّى الغَرَقْ

حتَّى تَشِعَّ عُيونُنا كالبَرْقِ مِن وَهْجِ الأَلَقْ

أحتاجُ أن أغفو على صدرٍ حَنونْ

إنّي تَعِبْتُ مِنَ السِّباقِ مِنَ اللُّهَاثِ مِنَ اللَّحَاقِ بمَنْ سَبَقْ

أحتاجُ في عينيكِ أن أرسو على شَطٍّ جديدٍ في الأُفُقْ

هيّا لكي نَجْنِي مِنَ الأزمانِ بَعضًا مِن ثواني

هيّا نُلَمْلِمْ حُبَّنا المفقودَ في دَربِ الأماني

هيّا إلى بعض الجنونِ)

التفتت رَغَد إلى جميل:

– لماذا رفضتْ بُثَينةُ عرضَ الجُنون أو عرضَ النَّزَق الَّذي بَرَّرَهُ الشّاعرُ الحجازيّ أجمل تبرير؟

أجاب قيس:

– لئلّا تفقدَ أشعارَه فيها طبعًا.

فعلّق عُمَر:

– بل أعتقدُ أنّها كانت تُفَضِّلُ أن يموتَ أو يُقتَلَ فترتاح مِن كلِّ هذا البُؤس الّذي يحملُه لها هذا الحبّ.

علّقتْ رَغَد وهي تشمل الشّاعرينِ العُذريّينِ بنظرة تقدير:

– لا أعتقد… عُمَر يُغالي.

فقال عبد العزيز:

– عُمَر يَمزح.

قال عمر:

– بل أنا جادٌّ، فالحبُّ لقاءٌ، وبدون اللّقاءِ لا حُبَّ… الحبُّ لقاءٌ يجبُ أن يتمَّ… لقد دُعِيتُ مرارًا ولَبَّيْتُ مرارًا. وَعَدْتُ بالزّيارةِ وقمت بها:

(لا بل نزورُكُم بأرضِكم

فيطاعُ قائلُكم وشافعُنا

قالت: أشيءٌ أنتَ فاعلُه

هذا، لَعَمْرُكَ، أم تُخادعنا؟

باللهِ حدّث ما نُؤَمِّلُه

واصدقْ، فإنَّ الصِّدقَ واسعنا

اضربْ لنا أَجَلًا نُعِدُّ له

إخلافُ موعده تقاطعنا)

سألت رَغَد:

– وما أَخْلَفْتَ؟

– وما أَخْلَفْتُ.

– وما تقاطعتما؟

– وما تقاطعنا.

كرّرت رَغَد بداية قصيدة عبد العزيز:

(نحتاجُ بعضَ الوقتِ أيضًا للجنون

نحتاج أيضًا للنَّزَقْ…)

هنا تشجّع الشّاعر المُضيف وأنشد:

(جَمَحَتْ ثمَّ استراحتْ لِلقيادِ

ثمَّ لانَتْ ثمّ عادت للعِنادِ

مُهْرَةٌ ثارتْ غَرامًا وإباءً

هو طبعٌ في نبيلاتِ الجِيادِ

قُبلةٌ كانت شفاءً وحياةً

وفؤادٌ لكؤوسِ الحبِّ صادي

يا رعاكَ اللهُ رِفقًا كيف أنجو

كلُّ نبضٍ في حنايايَ يُنادي

إن تَمَنَّعْتُ فخُذْنِي لا تَسَلْني

قبل ضمِّ الحُلْمِ في لَيلِ البعادِ”

تهلّلَ وجه عُمَر، وقال شِعرًا مِن عندِه يُوافقُ فيه الشّاعرَ المُضيف:

(هَوِيتُكِ واسْتَحْلَتْكِ نَفسي، فأَقْبِلِي

ولا تَجْعَلي تَقريبَنا منكم بُعدا)

ثم التفتَ إلى الشَّابّة قائلًا بحماسة:

– هو ذا… قربٌ لا ابتعاد… فرحٌ لا يأس… إقبالٌ لا جموح، لقاءٌ يكسر القَيد…

قال الشّاعر المُضيف:

– ذكّرتني يا عمر، وقت ذكرتَ كسر القيد، بما قلته:

(غَرِّدي… يا لُحُونَ الهَوى الغَرِدِ

أَغْمِضِيني على حُلْمِكِ الرَّغِدِ

مثلَ نسمةِ شَوقٍ على المَرقدِ

تُنْعِشُ اللَّيلَ بالطِّيبِ للمَشهدِ

مثل حلمٍ أجيءُ… سابقًا مَوعدي

نلتقي خُلْسَةً في سُها السَّهَدِ

أَكْسِرُ القَيْدَ عن خافقٍ مُجْهَدِ

قلتُ أَسْرِي فِدَا الحُبِّ لِلمَعْبَدِ

أُوقِدُ النَّفْسَ نَذْرًا على المَوْقِدِ

يا هوى… ها هو اليومُ لي مَولدي

أَرْتَجي مَوئِلًا مِن غَرَامٍ نَدِي

مثل طفلٍ وحيدٍ، مثل قلبٍ صَدِي

جئتُ يا واحتي باحثًا عن غَدِي

تشتكي أضلعي مِنْ هَوًى سَرْمَدِي

ضلَّ حتّى التقى صُدْفَةً مَقْصَدي)

علّق عُمَر:

– سُرِرْتُ أنْ ما زالَ في الشِّعر العربيّ مَنْ يتغزّلُ كما كنّا نفعل.

ابتسم الشّاعر المُضيف شاكرًا:

– أعتقدُ أنَّكَ تنسى أنّنا اليوم، كما كنتم، شعراء عرب.

قال عمر:

– ولكنَّكم تعيشون الزَّمَنَ القَلِقَ.

أجاب:

– القَلَقُ أيضًا يخلقُ الدّافعَ للإبداع.

قال قيس:

– هو الَّذي يفعل.

وقال جميل:

– قَلِقْنا فأَبْدَعْنا.

قالت رَغَد مُوَجِّهةً كلامَها لعُمَر:

– أنتَ أيضًا قَلِقْتَ فأبدعتَ… قلقتَ مِن وجودِ الواشي، قلقتَ مِن وجود أهل الحبيبات، قلقت مِن مرور زمن ساعات الحبّ، فقصصتَ علينا، إلى جانب قصص حُبِّكَ الَّتي أصرّيتَ أن تصفها كلّها بالصَّداقة، قصص قلقك.

لمعت عينا عمر… سألها هامسًا:

– قلتِ لي شاميّة؟

اتّسعت ابتسامتُها:

– نعم.

أخفضَ صوتَه أكثر:

– لو كنّا نعرفُ أنَّ حفيداتِ مَن انتقلَ السّلطانُ السّياسيّ مِن عندنا إليهم يحملنَ هذا القدرَ مِن الذَّكاء، لتركنا بإرادتِنا، كما قال شاعرنا المُضِيف عبد العزيز، قِيادنا.

ضحك الجميع وشكرت رَغَد عُمَر الَّذي عادَ فسأل:

– أتأتينَ ثانيةً إلى ديارنا؟

أجابتْ:

– لا أدري.

– ما رأيكِ أن أقترحَ عليك موسمَ الحجِّ المُقْبِل؟

رَغَد:

– موسم الحجّ!!

جميل مبتسمًا:

– هل نسيتِ يا أستاذة أنّه صاحب التَّمنّي المشهور:

    (ليتَ ذا الدَّهر كان حتمًا علينا       كلَّ يَومينِ حجَّةً واعتمارا)

لملمتْ رغد أوراقَها وساعدَها عُمَر في ذلك بينما كان الكلُّ يستعدُّ لمغادرة الخيمة، وعاد فقال:

– أعطني، إذن، مكان نزول قبيلتكِ.

صافحته:

– سعدتُ بلقائك.

وأكملتْ فصافحت الجميع، وعادت رائحةُ القهوة العربيّة تنبعثُ مِنَ الفناجين الَّتي تُوَزَّعُ على الضّيوفِ شُكرًا لاجتماعهم.

ربَّتَتْ والدةُ (نوف) على وجه الصَّغيرة وأنهضتها بحنان بالغ:

– هيّا إلى خيمتِنا.

سألت الصّغيرة الَّتي كانت تغطُّ في نوم عميق:

– انتهتْ جلسةُ الشِّعر؟

أجابتِ الأمُّ وعيناها تلمعانِ بِشِدَّة:

– كيف تنتهي وما زالت الدِّيارُ تُنْجِبُ الشُّعَراء؟

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات