شبلي النعماني: رحالةٌ هندي في المشرق العربي

12:38 مساءً الثلاثاء 26 ديسمبر 2023
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

لم يكن رحالتنا الهندي وحده الحالم بالمشرق العربي وسحره الآتي عبر الحكايات والأساطير، لكنه كان يقصد تلك الجغرافيا المغايرة باحثا عن أمر  يخصه، ويرتبط بحياته العلمية والفكرية؛  فالعلامة محمد شبلي الملقب بالنعماني، والذي درس العربية والفارسية والأردية، اهتم بتاريخ الأمة الإسلامية، وكان يتقصى في مؤلفاته ما يراه مبعث عظمتها، لذلك مثلت الرحلة لحواضر الإسلام الكبرى سعيا منه للوقوف على سر  هذه العظمة، سواء في مؤسساتها التعليمية، أو مكتباتها، أو الاستفادة بلقاء أعلامها الأحياء.

محمد شبلي النعماني

وقد ارتبط محمد شبلي (1857 – 1914) بحركة عليكرة للإصلاح الاجتماعي ـ  التي أسسها سيد أحمد خان (1817  ـ 1898) ـ ثم انفصل عنها ليدعم ندوة العلماء في دار العلوم، ساعيا للتوفيق بين التعليم القديم والتعليم الحديث، وقد سافر إلى البلاد الإسلامية  في 1892، لكنه لم يدون بعضا من تلك الرحلة إلا بعد عامين كاملين، ملبيا اقتراح سيد أحمد خان في رسالة يخبره أن ظروف الرحلة وما يحكيه عنها، شيق وجذاب ويمثل مادة جيدة لكتابة “سفرنامة”.

كان ما دوّنه محمد شبلي بداية في 1894 يحمل عنوان: “حالة التعليم في مصر”، قبل أن يقرر في 26 مارس 1893 تسطير رحلته مقتصرا على الجوانب العلمية والاجتماعية فقط، لتظهر الطبعة الأولى من كتابه “سفر نامة روم ومصر وشام”، بالأردية، والتي ترجمها إلى العربية جلال السعيد الحفناوي، معتمدا على أحدث طبعاتها المصححة الصادرة في 1986 اهتم بإصدارها الدكتور محمد رياض الأستاذ بجامعة العلامة إقبال المفتوحة بإسلام آباد. (صدرت طبعته الأولى في القاهرة ضمن المشروع القومي للترجمة،  2003)

والرحلة التي استغرقت من مؤلفها ستة أشهر ليتم جولته، وانتظرت أربع سنين لينجز تدوينها، لم تأخذ من شبلي سوى حفنة أيام من الاستعداد، وهو أمر أدهش رفاقه الذين طالبوه بالتأني الكافي، لكن سفر أستاذه بمدرسة العلوم (جامعة عليكرة) العالم والمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد (1864 – 1930) جعل من مريده شبلي متلهفا للرحلة معه.

عمل أرنولد في كلية عليكرة عشر سنوات، ثم درس في الكلية الحكومية في لاهور منذ 1898، أستاذا للفلسفة، وكان الشاعر محمد إقبال من أقرب طلابه هناك، وعمل منذ عودته إلى الهند في 1904 مساعد أمين مكتبة المكتب الهندي حتى 1920، ثم أستاذا للغة العربية في جامعة لندن آخر حياته، وقد ألقى في الجامعة المصرية بالقاهرة حين زارها محاضرة عنوانها “الفنون الجميلة عند المسلمين” (1930)

ضم شبلي أجازتي عمل معًا ليضمن السفر مدة ستة أشهر، وكان منذ خروجه في 26 أبريل 1892 مرافقا لأستاذه، حتى إذا تغيرت مواعيد سفر رحلتيهما، لتبحر باخرتهما في اليوم التالي لوصولهما إلى بومباي: “كان ثمن التذكرة على تلك الباخرة من بومباي إلى بورسعيد في الدرجة الثانية 310روبية، وكان من أكبر أخطائي أننني لم أحصل على تذكرة العودة، ونتيجة لذلك فإنني عند الإياب من بورسعيد إلى بومباي دفعت 21 جنيه، أي ما يعادل 335 روبية“.

في بورسعيد كان متعهد الركاب في شركة الملاحة يهوديا يتحدث بطلاقة العربية والإنجليزية والفرنسية، ومن المثير ـ كما يكتب شبلي ـ أنه تمكن من الحديث بالأردية بسهولة تامة، ذلك لأنه عاش فترة في الهند!

يصف شبلي بورسعيد: “ميناء صغير وجميل، والسكان هنا ينقسمون جغرافيا إلى قسمين: القسم المتصل بالبحر، ويقطنه عمومًا التجار الأوربيون، وفيه كثير من الفنادق الكبيرة والمقاهي والمسارح وغيرها، وتقع أحد المقاهي على شاطيء البحر مباشرة وأمامها ساحة كبيرة منظمة ومرتبة للغاية، بها طاولات صغيرة مطعمة بأحجار المرمر  والكراسي ملتصق بها ومتحلقة حولها، وتقدم القهوة والشاي وشرائح الخبز الجاف والزبدة في كل وقت، ويوجد في هذا القسم دكاكين كثيرة وهي فخمة للغاية، وفي القسم الثاني من الميناء يسكن معظم السكان الأصليين، لكن للأسف كل شيء هنا في حالة مزرية“.

يافا خلال زيارة شبلي

في رحلته البحرية مرت الباخرة بيافا في 15 مايو، ووصلت بيروت اليوم التالي، وكان شبلي في شوق لزيارتها، لكنهم لا يسمحون لأحد بالنزول بدون جواز سفر، وهو ما لم يحضره رحالتنا لتعجله السفر الذي أشرنا إليه، وعند الشاطيء قال لهم إنه لا يريد الإقامة:

“وكان من بين هؤلاء الناس رجل يعرف الله علم أنني من أهل الهند، فترفق بي، بعد أن فطن أنني غريب عن الوطن، وسلمني لشخص يتجول بي في المدينة“.

بيروت ساحة المصلّى و منازل آل سرسق، سنة ١٨٨٩  

يقول شبلي بعد جولة بين المقاهي ودكاكين الكتب في بيروت:

من أكثر الأشياء التي أعجبتني هنا أن جميع البقالين والحرفيين وحتى الحمالين والعمال في أحسن حال وملابسهم  نظيفة، وهم يتجولون ثلاث أو أربع ساعات هنا وهناك ثم يعودون، بعد ذلك أهديت المرشد نصف روبية، وودعته متجها إلى الباخرة“.

بعد توقف مماثل في قبرص، ينفق شبلي نصف الحديث عن رحلته في القسطنطينية؛ مؤسساتها العلمية ومكتباتها، قبل أن يعود مجددا إلى بيروت، ليأخذ منها مبغاه هذه المرة في البقاء لفترة أطول.  وليجد الرحالة الهندي فرصة للتأمل، واستخلاص المشاهدات من وجهة نظره:

اللغة هنا هي اللغة العربية عموما، فالنصارى واليهود وغيرهم يتحدثون اللغة العربية، وكذلك الملابس والمظهر، ويعد هذا أفضل محاسنها، ولا تحاك الحلة بأقل من عشرة أو أحد عشر مترا“. 

خادمة عربية في بيروت، 1889

والمثير في يوميات شبلي أنه يرى الأمور إيجابية حين ترتبط بالحفاظ على اللغة العربية، واحترام التقاليد الإسلامية، وينظر إليها سلبا إذا لمس عكس ذلك، ومن هنا حرص على تسجيل تقديره في بيروت حين “اهتمت جماعة من النصارى باللغة العربية اهتماما بالغا، وهي تستحق منا كل الشكر والتقدير، فقد قام هؤلاء الناس بجهد حثيث، فجمعوا دواوين العرب من هنا وهناك وطبعوها ونشروها، وعن طريق اللبنانيين وصلت إلينا دواوين الخنساء، وعنترة بن شداد العبسي وإسماعيل أبي العتاهية، وابن هانيء، وأبي فراس … وغيرهم“.

وكباحث في التعليم دوّن شبلي – عبر عدد من الجداول – إحصاءات للمدارس في بيروت، مصنفة بدينها ومذاهبها، ومصروفاتها السنوية للإقامة بها، وعدد طلابها، وتاريخ افتتاحها، وفي جدول ثان قارن بين الحالة التعليمية للمسلمين مقارنة بالتطور العلمي للأمم الأخرى: فقد كان مجموع الطلاب ألفين وعدد الطالبات خمسمائة، في حين كان عددهم للنصارى واليهود وغيرهم 6730 طالبا و5665 طالبة.  

ومن نهج شبلي في عواصم الشرق العربي زيارة المؤسسات التعليمية والإفاضة بوصفها، ومنها “الكلية السورية العلمية” في بيروت، التي أسسها أساقفة الروم الكاثوليك في عام 1875، ويسكن أكثر مدرِّسيها الستين داخل حرم الكلية، وفيها مطبعة “وهي نفس المطبعة التي ذاع بها صيت بيروت في جميع أنحاء العالم بفضل طباعتها الفاخرة“. وفي هذه المطبعة “كانت جميع الأعمال تتم عن طريق الآلة؛ حيث تسحب لفافة الورق ذاتيا ثم يوضع الحبر  الأسود على الحروف، ويطبع الورق من الجانبين ثم يسقط على الأرض، ويتم إعداد قوالب الحروف هنا، وقد صاغ إلياس (المشرف على المطبعة) عدة حروف أمامنا، وقد نالت مصانع الحروف هنا شهرة عريضة وتُطلب من جهات بعيدة … ويوجد في المطبعة أيضا مصنع للتجليد يجهز مجلدات فاخرة مذهبة وتنهمر  عليه الطلبات من مصر  والشام“.

وبعد وصوله إلى جافا (يافا) وإبداء إعجابه بالميناء والفاكهة والحدائق، يركب الرحّالة الهندي عند الغروب القطار الذي يحمله إلى القدس على بعد 40 ميلا، عبر سلسلة من  الجبال، في طريق ممهدة ونظيفة رغم تعرجاتها، وهي سلسلة تمتد نحو 12 ميلا  وحين تنتهي تظهر مشارف القدس، ليواصل شبلي زياراته ولقاءاته ومشاهداته:

هذا هو مكان القيامة (كنيسة القيامة) الذي تدفقت عليه أوربا كلها في زمن من الأزمان،  فترة من الوقت، وهي كنيسة واسعة جدا، ويعتقد المسيحيون أن المسيح عليه السلام صُلب في هذا المكان، ودفن فيه، ومن هنا صعد إلى السماء. يدير شئونها الآن النصارى، ولكنها تقع تحت الحكم التركي فإن بوابها مسلم؛ لأنها ذكرى انتصار صلاح الدين على ستمائة ألف من الأوربيين.” 

في بيروت يعطيه العالم عبد الباسط أفندي رسالة يسلمها إلى ابن عمه الشيخ عبد الحليم، وكان يدرس في الجامع الأزهر، فأرسل إليه الرسالة من اللوكاندة (الفندق) الذي أقام فيه، فحضر الشيخ عبد الحليم نفسه إليه في اليوم التالي بالفندق ، وقال له:

لو أنك جئت إلى هنا للبحث في المسائل العلمية ولقاء العلماء والشيوخ فإن الإقامة في اللوكاندة غير مناسبة، ويعتبرها العلماء هنا عيبا فادحا. وهكذا ذهبتُ إلى الأزهر طبقا لنصيحته، وأخلى لي حجرة فسيحة في رواق الشاميين، وقد أقمت هناك أكثر من شهر، وكان الشيخ عبد الحليم يقيم معي في معظم الأوقات تقريبا، وكان ينجز لي جميع احتياجاتي، وأصبح مرشدي وأنيسي“.

محطة الترام، العتبة الخضراء، القاهرة، القرن 19

وتخرج عيون شبلي إلى الشارع لتراقب وتدون وتوثق وتسجل “الحالة الإجمالية للقاهرة”:

هذه المدينة هي عاصمة مصر، بل عندما تستعمل كلمة مصر في لغة الحوار اليومية في الوقت الحاضر فإنه يراد بها هذه المدينة … وعدد سكانها الحالي 374838 نسمة، وشوارعها واسعة، والمنازل عموما مرتفعة وجميلة، وعندما كنت أتجول في أسواقها البهيجة خيل إليّ كأنها بومباي، والمقاهي هنا كثيرة ومريحة ومسلية للغاية، ومنظر الملابس والهندام هنا لا يسر؛ فهي غير متناسقة، فالعوام يرتدون جلبابا طويلا أزرق وتظل ياقته مفتوحة، ولا يرتدون البيجامة والمئزر قط، في حين يرتدي الخواص العباءة والقفطان، لكن لأن العباءة لا تكون ملونة فإن الرقبة تظل مفتوحة، وتبدو قبيحة، بينما يستعمل المتعلمون تعليما حديثا الجاكت والبنطلون، وهذه الطريقة تزداد قبولا وانتشارا يوما بعد يوم“، ويعيب شبلي على ملابس النساء الثريات “اللاتي يلتزمن بالمودة الحديثة يرتدين الملابس الأوربية، وهن كذلك يربطن البيشة على برقعهن القبيح المنظر، وعلى البرقع تتدلى خرقة سوداء مثل الخرطوم من بداية الأنف وحتى الصدر، وتوجد حلقة من المعدن أو الذهب لتثبيت هذه الخرقة التي تتدلى على الجبهة، وتستعمل بدلا من الزينة“.

ولم يفت شبلي أن يروي طرفا من حديث الأعمدة في رواقات الأزهر، وأن يثبت تقرير التعليم المفصل الصادر في 1888، ومنها أن مدرس الطب (كلية الطب) كانت مصاريفها السنوية حسب يونيو 1888 بقيمة 8412 جنيها، وكان عدد الطلاب بها 182، يدفع المصاريف منهم 79 طالبا، برسوم سنوية مقدارها 6 جنيهات، ولا يدفع الرسوم 74 طالبا، ويتلقى المنح 22 طالبا.  وقد تقرر منذ 1888 تدريس الجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية باللغة الفرنسية أو اللغة الإنجليزية  في المدارس التجهيزية (تبدأ بعد المرحلة الابتدائية وهي خمسة صفوف) وكان عدد الدارسين باللغة الإنجليزية  800 زادوا إلى ألفين، مع عدد مماثل يدرس هذه المواد باللغة الفرنسية.

تتنقل زيارات شبلي بين دار العلوم وفصولها، ومدرسة الحقوق ومحاضراتها، ومدرسة الترجمة وأقسامها، ومدرسة الطب ومبانيها ومشرحتها، وصولا إلى المكتبة الخديوية، بذخيرتها الثرية من الكتب النادرة، وكنوز مطبعة بولاق، ومختتما بزياره للآثار بين الأهرام، والقلعة والمتحف، ولكنه تمنى زيارة سجن يوسف عليه السلام، فلم يستطع!

ومما يعيد شبلي تكراره كلما تحين الأمر هو بيان معارضته أي مظهر للتقدم أو الثقافة غير التقليدية، لذلك يقول بعد مشاهدته لمسرحية زنوبيا ملكة اليونان:

المسرح في رأيي سواء في الهند أو في مصر والبلاد العربية المشاركة فيه خلافا للوقار  والأدب، لكن يبدو أن لكل شيء قيمة في الدول الإسلامية“. ورغم حضوره لحلقات ذكر الدراويش الراقصة بمناسبة المولد، لكنه يرفض بعض الطقوس كذلك: “يبدأ هذا الاجتماع في أول الشهر (ربيع الأول)، ويتضاعف يوما بعد يوم إلى أن يبلغ الزحام مبلغه في الليلة الثانية عشرة؛ فلا تجد موقع قدم إلا بشق الأنفس، وفي الصباح يجتمع الناس في مشهد الحسين (رضي الله عنه) وعلى رأسهم ممثل الحكومة والمفتي وشيخ الأزهر، ويلقي أحد العلماء خطبة عن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يقف طبقا للعادة أثناء ذكر مولد الرسول (ص) ثم ينتهي المجلس … لقد أعجبتني هذه الطريقة في الاحتفال أيما إعجاب .. لأن الحماس والسعادة التي يجب التعبير عنها في مولد الرسول (ص) يجب أن تكون بهذه الطريقة … لكن هناك عدة أمور جديرة بالاعتراض أولها عرض الألعاب النارية في اليوم الحادي عشر، وهذا الأمر لا يليق بهذه المناسبة المقدسة“.

هكذا تقدم  رحلة شبلي أمرين، أولهما القراءة المعاصرة لزمان الرحلة لمدن مركزية في المشرق العربي، أما الأمر الثاني فهي القراءة الخاصة بالآخر المسلم، الذي يمكن أن يجد مساحات مشتركة في اللغة والدين أينما حل بالعالم الإسلامي، ولكن تظل له مساحته المغايرة الرأي والتقدير تجاه العادات والتقاليد، ولتقدمالرحلة كعادتها، مسبارا لرؤية التاريخ واختبارا لمسيره، وسؤالا للحاضر ومدى استعداده للتغيير.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات