قراءة في ملفّ الأصدقاء | بقلم : هاني نديم

08:16 مساءً السبت 20 يناير 2024
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

20 يناير 2024

في موقفٍ حصل معي في غرفة تدخين المطار جعلني أفكر بكتابة هذا، التقيت برجلٍ خمسيني قال لي، أتعلم؟ صديقي في قارةٍ أخرى مكتئب وحزين، أخذت إجازة من عملي الصعب حتى أراه وأعود! يا آلهي كم أحببت هذا الموقف وهذا القول. صرت أبحث عما أكافئ الرجل به، جلبت له قهوة و”كيك” وقدّمت له كتابي الذي كنت سأقرأه في الطائرة وقليلاً وأذهب معه لصديقه!

يشكو الناس جميعاً من قلّة الصديق على هذا الكوكب، جميع الأعراق والأثنيات والحضارات، الإغريق والرومان والفرس والأزتك والفراعنة والإنكا وقبائل الزولو والعرب العاربة حتى تفضّل علينا صفي الدين الحلّي وبشرّنا بوهم وأسطورة الصديق، إذ قال:

أيقنت أن المستحيل ثلاثةٌ

الغول والعنقاء والخلّ الوفي!

ولكن ما تعريف الصديق المستحيل هذا، هل نريد صديقاً نعلقه بروازاً فينفع، أو سجادة “ندعس” عليها وقت غضبنا فينفع؟ أعتقد أن المستحيل هو أن نسقط كل مكتسباتنا ونقائصنا على شخصٍ آخر ونطلب منه أن يطبقها بالحذافير.

منذ مدّةٍ عاد إليّ صديقٌ قريبٌ قديم، عاد إليّ وأنا واقفٌ على أرجلي، راسخٌ وثابت، بينما كان قد تركني في عزّ حاجتي إليه ومركبي مرتجٌّ تحتي والموج عال.. شعرت وكأنني أشاهد فيلماً بالأبيض والأسود، ركيك التمثيل ومتوقّع المشاهد، كنت حيادياً اتجاهه وكأنني أشاهد فيلماً بالأبيض والأسود!

انتبه! ليس كل من تناول معك سندويشة “همبرغر” أو لعب معك لعبة “طرنيب” هو صديق ولو مشي إلى جانبك سنوات طوال، احذر! امسك ملفّه وراجعه باهتمام، فمن الوارد جداً أن يكون قد أضرّ بك أكثر مما نفعك بكثير. راجع ملّفه لتتخفف في هذا الطريق الطويل من الأشباه والمزيفين.

الصديق هو زجاجة عطر نادرة، ماسةٌ لا تتكرر إن حظيت على واحدة منها في الحياة فأنت محظوظ كما قال بالتازار جارسيان، وهو ما ورد في هذا المقطع من قصة قصيرة لموبوسان: قلت لأنطوان إن داء السكري سيقطع ساقي اليمنى، فأجابني، وماذا يعني؟ أنا قدمك!

والصديق أيضاً من قال عنه مارسيل بروست بستاني يروي حديقة روحي اليابسة لتزدهر. حتى داروين صاحب التطور يقول لك: صداقات الرجل هي واحدة من أفضل المقاييس لقيمته.

كيف عرفت أنهم أصدقاء؟ لقد كانا يتكلمان حتى في صمتهما. هذا ما قاله سومرست موم.

من هو الصديق؟ أقول: إنه من يشحذ سيفي قبل سيفه، ويمشي ورائي مكان ما يجب أن يمشي ورائي، ويمشي أمامي مكان ما يجب أن يمشي أمامي، وهو إلى يميني طيلة العمر بخذلانه وانكساراته والضعف فيه والقوة، لا فرق ولا أولويات. وهو في يوم العواصف ومارد الأمواج منارتي والمرسى.

في غرفة تدخين أخرى في مطارٍ آخر، كان هنالك إعلان هائل الحجم لعلبة دخان  camel.. تذكرت فرانك سيناترا، “أول ذا العيون الزرقاء” الذي أوصى بدفنه مع علبة دخان “الجمل” وزجاجة جاك دانيال، كما أوصى بكتابة عبارة “الأفضل قادم” على شاهدة قبره..

وهو من كبار المخذولين بأصدقائه، أولم يخصص ثلثي داره لتكون مدرجا لطائرة صديقه ريغان رئيس البلاد الذي لم ينزل بطائرته هناك ولو لمرة واحدة ولم يزر آول.. أول ذا العيون الزرقاء؟

عموماً.. لا تخصص ثلثي روحك لأحد.

كتبت مرةً: أصدقاؤك القدامى الذين شاركوك علبة السردين بصلاحيتها المنتهية والحداء للحذاء المستعار حتى يعود… أصدقاؤك الذين مضوا واحداً إثر آخر بغصةٍ وابتسامةٍ كأقساط البيت الذي هدّمته الحرب قبل أن تدير مفتاحك في بابه.

أصدقاؤك الخائن غيابهم، من تركوك تجرب أشباه الأصدقاء وتفتح متحفاً للخيانات والصغائر
الطاعن سرابهم؛ من شرّدوك في هذا الدوّ نصف ميت وهم يرتعون في حدائق الموت البديعة

أصدقاؤك الأولون، أصدقاؤك الآخرون، أصدقاؤك الميتون يضحكون الآن
كلما اصطكّت أسنانك وأنت تقول لعابرٍ ما: يا صديقي!

في الرحلات الطويلة، تلك التي تقطع فيها المفازات والوحوش والجبال والصحارى، كل متاعٍ زائد، خسارة قريبة. كل متاعٍ ناقص احتمال لاختراعه.

في تلك الرحلات سترهقك ريشةٌ زائدة على طول الطريق، سيتعبك زولٌ فائضٌ عن الحاجة، ويربكك صوت الطيور البعيدة.. تخفّف.. تخفّف!

نفسك تكفيك، ستعرفهم من وجوههم المرسومة بمؤقت الراحلين، ستعرفهم من كلامهم الذي لا يقول شيئاً، وسوف تصل إن لم تتلفت وأنت ترمي حمولتك الزائدة. ولا تتحسر على من ردموا آبارك، قربة ماءٍ تكفيك. شعر امرأةٍ طويل يكفيك. وصديقٌ واحدٌ حين تنام يحمل سيفك، وحين يصيح لا يجفل له فرسك.. يكفيك.

اليوم، لم أعد أستطيع النظر في الوجوه جميعها، إلا تلك التي لمعت في ظلام أيامي كالشهب..

هامش:

وثيقة الحياة تقتضي أن يكون لديك
صديقٌ
وطريقٌ
وامرأةٌ جميلةٌ تُحسن حبس الريح في النايات

وثيقة الموت تقول:
مُتْ وأنت وقوف
على أعلى قمّةٍ متْ..
لا تمت بين الجروف


ينشر في إطار بروتوكول التعاون مع مجلة نص خبر

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات