دولة المواطنة.. ودولة أي شيء آخر

12:23 مساءً الأحد 3 مارس 2013
إبراهيم المصري

إبراهيم المصري

شاعر وصحافي

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 في الجولة الأولى من الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، جاء في الأخبار أن مواطنات مصريات محجبات، طردن مواطنة مصرية قبطية من طابور التصويت، بعد أن علمن أنها سوف تصوِّت بـ..لا على الدستور. وإن كان الخبر صحيحاً فإن له شبهة طائفية، كما أن له علاقة بحُجةٍ تسوقها جماعة الإخوان وتابعوها من جماعات الإسلام السياسي، وهذه الحُجة مفادها أن (الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية) التي يدعون إليها، لا تشبه (دولة الحكم بالحق الإلهي) التي كانت سائدةً في أوروبا القرون الوسطى، وأن تاريخ الإسلام لم يعرف (الدولة الدينية) وإنما كانت دولة الإسلام دولةً مدنية.. وبالتالي لماذا الخوف من (الدولة المدنية بمرجعيتها الإسلامية)

والحقيقة أن هذه الحُجة كلها قائمة على التدليس، أولاً من الصحيح أن ثمة فرقاً بين الحكم بالحق الإلهي وبين دولة الخلافة، لكن هذا لا يعني أن الحكم بالحق الإلهي (كان دولة دينية) وأن دولة الخلافة كانت (دولة مدنية) ولا يعني ذلك أيضاً حُكمَ قيمة على أيٍّ من الدولتين، فلكلٍّ منهما سياقه التاريخي والجغرافي والثقافي الذي نشأت فيه.

وثانياً: جاء جميع الخلفاء إلى (السلطة) إمّا بأهل الحل والعقد وهو نادر، وإمّا بالتوريث، والمغالبة أي بالقوة المحضة، وتجيز النظرية السياسية في التاريخ الإسلامي أن يأتي الحاكم بالقوة المحضة وهو ما يردده بعض السلفيين اليوم ويجيزونه ويخضعون له.. وكانت وظيفة الخليفة أن يقيم العدل في دولة الخلافة (بالشريعة الإسلامية) وأن ينشر الإسلام (بالجهاد والغزو)

وثالثاً: إذا جاز الأخذ بمفهوم الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، فإن ذلك سوف يصل بنا إلى (الشريعة الإسلامية) وهو مصطلح يغطي تاريخاً من الفقه الديني، لا يساوي في المراكز القانونية لرعايا دولة الخلافة أو دار الإسلام، وهذا بالضبط جوهر الدولة الدينية:

فهناك الخليفة.. الذي يشترط البعض أن يكون (عربياً قُرشياً) لا ماليزياً كما يرى مرشد الإخوان السابق مهدي عاكف. وهناك الرجل في مقابل المرأة، ثم الرجل الحر والمرأة الحرة في مقابل الرجل العبد والمرأة الأَمَة، وهناك المسلم في مقابل الذمِّي، والمسلم والذمِّي في مقابل الكافر، وليس ذلك فقط، بل هناك المسلم السني في مقابل المسلم الشيعي في دولة الإسلام السني، والعكس في دولة الإسلام الشيعي، ترتب إذن مثل هذه الدولة مراكز قانونية مختلفة لرعاياها بدءاً من الخليفة وانتهاءً بالرعية، وهذا عكس دولة المواطنة التي يتساوى فيها المواطنون في مراكزهم القانونية ولا يُخل بهذه المراكز إلا ارتكاب جريمة، كأن يُحرم مواطنٌ ما من الترشح لرئاسة الدولة لأنه ارتكب فعلاً جنائياً، لا لكونه امرأة أو قبطياً أو شيعياً.

يختلف مفهوم دولة المواطنة إلى حد كبير، فهو وإن كان يحفظ حق اختلاف المواطنين في العقيدة، فهو لا يجعل العقيدة مقياساً للتفرقة بينهم، لأنه معني بالدولة الحديثة المُعرّفة بحدود جغرافية وباعتراف دولي وعضوية في الأمم المتحدة وبالتزام بالقانون الدولي والاتفاقيات الدولية، وبأن المواطنة تعني عقداً هو (الدستور) يرتب حقوق وواجبات الجميع والعلاقات بين الحاكم والمحكوم وبين السلطات القائمة على إدارة الدولة.. ويعتبر المواطن مصدر السلطات، وهي تعمل لأجله في الحياة الدنيا، لا لأجل أن تذهب به (مُقيَّد اليدين إلى الجنة) كما أن دولة المواطنة تعني أن يأتي الحاكم بالإرادة الحرة للمحكومين وباختيارهم له من بين متنافسين على المنصب، يتساوى في ذلك (رئيس الدولة وعضو المجلس المحلي وعمدة القرية والمحافظ)

قد يقول قائل إن دولة الخلافة تجاوزها التاريخ، وإنها كانت مرتبطة بظرفها، وإن الحديث عن (الشريعة الإسلامية الآن) لا يعني بالضرورة العودة إلى الماضي أو إلى أي شكل من أشكال الدولة الدينية، وهذا في الحقيقة موقف (الحالمين).. فمن ناحية ثمة بيننا من جعل هدفه (دولة الخلافة) ولا أقل من ذلك كما يتصورها، حتى أن البعض يرى أن دولة طالبان هي النموذج المثالي للحكم، ومن ناحيةٍ أخرى، فإن جماعة الإخوان أكبر الجماعات تأثيراً من بين تيارات الإسلام السياسي تجعل الخلافة هدفاً بعيد المدى تسعى إليه، لتتوجه بما تسميه (أستاذية العالم)

وبالعودة إلى خبر المواطنة المصرية القبطية التي طُردت من طابور الاستفتاء، فإنها قد تشعر أنها منبوذة في دولة عنصرية، تقصيها لكونها قبطية، ولكونها ترفض دستوراً لا يعطيها حقوقاً متساوية مع الآخرين، أو تشعر بالخوف من (دولة دينية تسعى إليها جماعة الإخوان وتابعوها ـــــــ تحت شعار تطبيق الشريعة) وهذا الرفض يشاطرها فيه نحو نصف الذين أدلوا بأصواتهم على اختلاف أسبابهم.. لكن الرافضين يُواجهون بطيفٍ من التهم أقلها (الفلول) وأكبرها (الكفر) بما يُفقد الدولة أي معنى في كونها دولة مواطنة تساوي بين جميع المصريين في المراكز القانونية، وبالتالي يُفقد مشروع الدستور الجديد حُجيته في المساواة بين جميع المواطنين.

ولا يعني مفهوم المراكز القانونية أيضاً، أن جميع مواطني الدولة يمكن أن يشغلوا (المنصب ذاته.. رئيس جمهورية، نائباً في البرلمان، محافظاً) وإنما يعني تحديداً ألا يتم حرمان مواطن من الوصول إلى منصب، طالما استوفى شروط الكفاءة، التي تؤهله لشغل هذا المنصب، على ألاّ يكون من هذه الشروط (الدين.. الجنس.. العرق، أو أي محدد آخر يرسخ للعنصرية والتمييز) ولن يعدم أصحاب تيارات الإسلام السياسي القدرة على القفز فوق دولة المواطنة بقولهم: إن للجميع على سبيل المثال أن يشغلوا جميع المناصب ما عدا (الولاية الكبرى ـ أي رئاسة الدولة ـ أي “الخليفة”) لكي نعود إلى نقطة الصفر، التي تعني في الحقيقة الاحتراب الأهلي بين مَنْ ينادون بدولة المواطنة المدنية الديموقراطية الحديثة، وبين مَنْ يقبلون هذه الدولة على (مضض) فيما هم يمكِّنون للدولة الدينية في الدستور وفي إشاعة المفاهيم المغلوطة عن الشريعة الإسلامية التي قد تعني مقاصدها العليا في حفظ النفس والمال والعِرض والعقيدة لكل المواطنين، أو تعني أطناناً من كتب الفقه القديم والحديث التي تؤصل في الحقيقة لدار الإسلام في مقابل كل ما عداها، وفي الإمساك بمفاصل الدولة والمجتمع ريثما تحين لحظة الكشف عن قصدهم الحقيقي.. وهذه معركة لا اختيارات فيها: إمّا أن تكون مع دولة المواطنة التي تساوى في المراكز القانونية بين مواطنيها، أو تكون مع دولة أي شيء آخر.. لا علاقة له بالدولة الحديثة ولا بمقاصد الشريعة العليا، ولا بالمساواة في كرامة البشر، ولا بتمكين الناس من حاضرهم ومستقبلهم بعيداً عن الوصاية الدينية.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات