قمر مريض يُضيء مساحة لا تزيد على الشبرين

09:31 صباحًا الخميس 14 مارس 2013
حسام مصطفى إبراهيم

حسام مصطفى إبراهيم

كاتب وصحفي، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

(قصة قصيرة)

عندما شعر “الجبالي” بالحركة المُقلقة في الغرفة المجاورة، تصوّر أنه وهم جديد، السبب فيه الحمى التي تفتك برأسه، وتريه ما لا عين رأت، منذ تسلّمت جسده وفرمته بجنازيرها منذ أكثر من أسبوع، فزفر وبالغ في إطباق جفنيه، لكن تكرار الأمر، جعله يتقلّب في سريره غير قادر على اجتلاب النوم الذي أوصى به “محسن” -طالب الطب الذي تبرّع بالكشف عليه مجانًا أمس- فنادى بصوت واهن -لم يسمعه هو نفسه- على زوجته، التي لم تجب، فعادت سَكْرة التعب تجره إليها بألف ذراع، وتغيّبه عن الوعي بضع دقائق.

رأى نفسه يركب ظهر أسد، ويصعد به قمة شجرة، لكن القرود ظلت تأكل الموز وترميه بالقشر، حتى تعثر الأسد وسقط وهو يزأر في غضب ويتوعد القرود والخنازير والتماسيح والكلاب الضالة والعساكر بالموت، وعندما همَّ الأسد بالقيام، سقط في فخ أحد الصيادين ومات، تاركًا إياه في جوف حفرة عميقة مليئة بحراب مسمومة، وأفاعٍ زاحفة نحوه، هذا غير ثمار جوز الهند التي راحت طيور سوداء ضخمة وغربان وبوم وحدادي تلقي بها فوق رأسه، فتتفجر، ناثرًة دخانا خانقًا وكثيفًا، لا يلبث أن يتحول بعد لحظة إلى عِصيّ وشوم وأحزمة جلدية عريضة، بمقدمات حديدية مسنونة، وجرادل مليئة بفضلات آدمية.

مرة أخرى يشدّه الصوت الذي ارتفع قليلاً، فتبيّن فيه أصواتًا مألوفة، وقرر أن ينهض، ليستطلع الأمر، وبالمرة يبلّ ريقه الجاف بشربة ماء.

بصعوبة وتؤدة وبحلاوة الروح والرغبة في تغيير النومة المتعبة، يتكئ بكوعه على السرير، ويرفع جذعه، ثم يشدّه للخلف، ويستقيم راكنًا ظهره على الحائط الأسمنتي البارد.

سعل مرة أو اثنتين، قبل أن يرفع البطانية بصعوبة، ويقوم من تحتها، لم يجد “الشبشب” الذي اعتاد وضعه هناك، فسار نحو الباب ومد يده وفتحه ببطء، وخرج حافيًا.

الدنيا تهتز، وتظهر لعينيه بشكل مخالف لما اعتاد عليه، كم مرة نصحه صاحب الفرن ألا يسرف في السهر أمام النار الموقدة، ثم يخرج فجأة لهواء الطريق، وكان يضحك منه ويقول: “حديد على حديد.. يفعل الله ما يريد”، وها هو الحديد اليوم يلين ويكاد ينقصف عمره!

يرتفع الصوت من جديد، فيتمكن من تحديد مصدره، غرفة ابنته “حياة”، البنت الوحيدة التي قبلت أبوته، وجاءته على كَبر، بخطى وئيدة تتراجع أكثر مما تتقدم للأمام، مترنحة ومائلة، يسير متسندًا على الجدار والثلاجة والتسريحة.

هل لازالت مستيقظة حتى الآن؟ وأين زوجته؟

يمد يده، ويفتح الباب بهدوء حتى لا يزعجها لو كانت نائمة، ومن فُرجة صغيرة، وعلى ضوء “الونّاسة” الخافت المتسلل من الصالة، يتأكد أنها لم تكن نائمة، وإنما تتمدد عارية تحت رجل، وبجوارها أمها تحت رجل آخر!

…………….

في المدرسة، رفع يده ذات مرة، وضرب الواد “محمود” على الرغم من ضخامته التي يهابها كل العيال، لأنه تكلّم كلامًا لا يليق على الأَبْلَة، وعندما اشتكاه “محمود” للناظر، وادّعى أنه هو الذي تفوّه بالألفاظ البذيئة، وصدّقه الناظر لأن أباه صاحب عمارات، ويتبرّع كثيرًا للمدرسة، قرر ألا يرجع الفصل مرة أخرى، واشتغل بالأجرة في غيط “أبو العلا”.

ويوم جاءت شرطة المرافق وأمسكت بـ”أم خليل” وقلبت فَرْشتها التي تبيع عليها الأمشاط والفلايات والمناديل وجِلَد الحنفيات، تصدى لعساكر الدورية، وأكل علقة ساخنة، لم تهمه، وهو ينتزع منهم ما قدر عليه من البضاعة، ويصر على أن يأخذوه مكان الست الكبيرة التي تعول ستة أبناء.

وعندما شاهد الولد الجامعي الرقيع الذي يعمل في تكييس الخبز مساء، وقد زنق البنت المائعة “أحلام” بنت “المصيلحي”، في ركن مظلم من الفرن، نصف عارية، ضربهما ضربًا مبرحًا، ترك علامات حمراء وزرقاء في جسديهما، وأخبرهما أنه سيفضحهما، لكنه صان السر بشهامة، وإن لم يكف عن مراقبة البنت، وإرسال رسائل صامتة لها طوال الوقت.

……………………

كانت زوجته تتأوه بصوت لم يسمعه منها في لحظاتهما الخاصة من قبل، والبنت ترد على أمها، بأصوات أعلى، وأكثر دربة، والسرير يئن من الحمل الثقيل، والضوء الواهن المتسلل من شق الباب يلقي بظلال كثيفة تجعل من الصعب تبيّن شخصية الرجلين.

تحسس “الجبالي” تجاعيد وجهه، فلسعته الحرارة المتوهجة، وعاد يدقق أكثر في تفاصيل مهملة، مموهة وغائبة في نصف ظلام، بنطلون جينز وآخر قماش وبادي أبيض وجاكت رجالي وبلوفر رخيص أسفل السرير، ملابس زوجته وابنته متكومة بلا ترتيب فوق بعضها في الركن الأيسر، يبدو أنهما خلعتاها في وقت واحد، ولاعة بلاستيكية على الترابيزة الصغيرة يمين السرير وعلبة سجائر كيلوباترا ودبلة فضية واقعة بين الجدار والسرير.

…………………….

أول مرة يدخل السجن، عندما شدّه الصوت العالي للشباب الثائر المار من أمام الفرن، وهم يهتفون ضد الاعتداء على العراق، ترك العجين المختمر والزبائن وصوت المعلم “رؤبة”، واندفع معهم يهتف بسخط، ويُنفّس عن الغل المكبوت الذي يشعر به ضد الأمريكيين ولاد الكلب!

أحس بحرقة ورجفة وهو يهتف، فطفرت الدموع من عينيه، وبدا له هواء هذا الصباح مختلفًا عن غيره، وشمسه وناسُه وشوارعه التي بدت متسعة وقريبة، تحمل ألف وعد وحكاية وقصة تستحق أن يسمعها الناس بعد ألف سنة من الآن.

لكنه مع أول طلقة رصاص مطاطية، شعر بالخوف، وعندما اندفع الغاز المسيل للدموع كنافورة، تحصد ماءها من عيون المتظاهرين، قرر أن الوقت قد حان للانسحاب، لكن عدة أياد ثقيلة ومدرّبة، امتدت إليه وسحبته من عنقه، فوجد نفسه في التخشيبة بصحبة العشرات ممن لا يعرفهم.

مر يومان دون أن ينفتح باب الزنزانة، أو يتسلل إليها ضوء الشمس، أو يسمع شيئًا سوى اللغط الدائر من حوله عن ضرورة الصمود والدفاع عن القضية، شعر بالجوع والعطش وتسلخ جلده من خشونة الأرض التي ينام عليها، واضطر لقضاء حاجته في الجردل الصدئ الذي امتلأ لآخره، وسال ماؤه على الأرض السوداء القذرة، ووصل للأقدام.

ثالث يوم، نادوا اسمه مع غيره، واقتادوهم للباشا كما كانوا ينادونه، وبمجرد أن دخلوا من الباب، انهالت الشوم والعصي والأحزمة الجلدية على رؤوسهم وأعناقهم والأماكن الحساسة من أجسادهم، وسط غمامة من دخان سجائر فاخرة تعبق المكان، وخيط من عطر حريمي فاغم.

وبعد انتهاء الوجبة الدسمة، وخروجه بجرح قطعي في الوجه سوف يلازمه بقية حياته، سحبوهم من أقفيتهم مرة أخرى، وأعادوهم لزنزانة أكثر ضيقًا، تبدو لفرط رطوبتها وحرّها اللافح وكأنها مبنية تحت الأرض!

حتى هذه اللحظة لم يكن قد تكلم مع أحد، أو فهم أي شيء، وعندما هَمّ بقول شيء ما، رغم إنهاكه المدوّي والدموع الني تقاتل للفرار من عينيه، عاد الباب ينفتح من جديد، ويدخل عسكري خشن عملاق، تقدّم منه مباشرة، وأمسكه من رقبته، وصرخ: “عايزين تقلبوا نظام الحكم يا ولاد الكلب؟..ليه؟.. البلد ما فيهاش رجالة؟”

وبحركة واحدة من يده –التي تشبه المخلب- مزّق سرواله وضربه فارتطم بالحائط وسقط بلا حراك، كان “الجبالي” فاقد النطق، يتنفس بصعوبة وبلا قدرة على تحريك عضلة من جسده، والعملاق يتقدم منه وفي عينيه نظرة تشفٍ ووحشية، تتصاعد باستمرار، وهو يمزق باقي ثياب “الجبالي” ويلصق وجهه بالحائط، فيكسر أنفه، ويتلذذ بصراخه الذي لم ينقطع، حتى بعد أن تركه ينزف، وانتقل لغيره!

…………………………

بعد ثلاثة أسابيع، نادوا اسمه مسبوقا بسُبِّةٍ بذيئة، ودخل عسكري أسمر ممصوص، ضربه بالقلم على وجهه وبالرِجل في بطنه، ثم أمسكه من ياقة جلبابه، وسحبه خلفه في عنف، كان المعلم “رؤبة” ينتظر في حجرة الباشا ووجهه شاحب، وما إن رآه حتى أخذه بالحضن، وربت كتفه، انتهت الإجراءات سريعًا، ووجد “الجبالي” نفسه حرًا، والباشا يقول له بسخرية: “اسكت.. مش طلعت مظلوم!!… يلا خيرها في غيرها بقى”.

…………………

عندما سمع أصواتا عالية تنبئ بمظاهرة جديدة تمر من أمام الفرن، أغلق أذنيه، واستدار لطاولة العجين، أخذ قطعة ضخمة أكبر مما تصلح لرغيف واحد وألقاها في الفرن، وجبينه يتصبب عرقًا، أقنع نفسه أنه من حرارة النار.

في الفجر، فوجئ بضربات هائلة على باب بيته، بكعوب بنادق كما تخيل، أتبعه سقوط الباب مهشمًا تحت وطأة أجساد تندفع بلا عدد نحو هدف واحد، عرفه عندما امتدت الأيدي من كل مكان وقبضت على رقبته، وأمام باشا جديد أوقفوه، وبعد عدة صفعات وركلات وإطفاء السجائر في جسده العاري، وشوي جلده بماء ساخن أحرق نصف ظهره، وجد نفسه يعود لنفس الزنزانة التي لم ينس تفاصيلها أبدًا، وعندما ظهر العسكري الخشن العملاق، مد “الجبالي” يده وخلع سرواله بنفسه، ووقف واضعًا وجهه في الحائط.

……………………..

اختلط الأمر على “الجبالي”، فلم يعرف هل الآهة العالية المباغتة التي لعلعت ثم انطفأت، ثم عادت في نغمة أكثر حدة، لزوجته أم لابنته، لكنه لاحظ سقوط الولاعة البلاستيكية من على الترابيزة إثر رفسة عصبية من قدم ابنته، وهي -فيما يبدو- تصل لقمة شهوتها.

تراجع “الجبالي” بظهره، وأغلق الفُرجة الصغيرة، محاذرًا أن يصدر عنه أدنى صوت، مشى مترنحًا، وفتح باب البيت، استقبلته الريح بإبر حادة وعشوائية، والقمر بنور باهت مريض يضيء مساحة لا تزيد على الشبرين أمامه، تذكّر أغنية قديمة كانت أمه تغنّيها له، راح يدندن بها، ويهز رأسه مع الإيقاع، ويسرع من خطوته، وهو يسمع صوت باب يُغلق من خلفه في عنف.

One Response to قمر مريض يُضيء مساحة لا تزيد على الشبرين

  1. ahmd رد

    14 مارس, 2013 at 2:38 م

    القصة رائعة، ومليئة بالإيحاءات على المستوى السياسي، كما أن لغتها قوية ومعبرة، تحية للأستاذ حسام وأتمنى أن أقرأ له المزيد.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات