المسجد المعاصر كما يتصوره راسم بدران

08:55 مساءً الإثنين 1 أبريل 2013
كامل يوسف حسين

كامل يوسف حسين

كاتب وناقد من مصر، رئيس قسم الترجمة، جريدة البيان، الإمارات العربية المتحدة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

من مخططات  المعمار العربي راسم بدران

إذا كان هناك بعد محدد في إبداع المعمار العربي راسم بدران جعل الباحثين والدارسين يتوقفون عند جهوده طويلاً، فإن هذا البعد سيتمثل في  حرصه على الوصول إلى لغة معمارية غير غربية، تقوم على أساس معطيات دينية واجتماعية وثقافية، يتم من خلالها وبصورة أصيلة تحديد معالم هوية مختلفة. وفي هذا الإطار العريض، سنلقي نظرة عاجلة على جانب واحد في إبداع بدران، وهو مساهماته المعمارية في السياق المسجدي.

هنا لابد لنا من أن نلاحظ أن هذه المساهمات هي من التعدد بحيث أن مجرد الإطلال عليها من شأنه أن يستغرق الكثير من الجهد والعديد من الصفحات،على نحو يفوق بكثير ما هو متاح هنا.

الحقيقة الأساسية، في هذا الصدد، هي أن المسجد جزء لا يتجزأ من المدينة الإسلامية، وهو على وجه الدقة المبنى الأول في المباني الأربعة، التي يؤكد وجودها أننا حيال مدينة إسلامية، وهي على التوالي المسجد الجامع، يليه السوق الذي يتواصل تقليدياً مع مجال المسجد، ويلي ذلك القصر أو مقر الحكم ثم أخيراً البيت الذي تتعدد وحداته في إطار تقاليد وأعراف وضوابط امتدت عبر أكثر من ألف عام.

وكما نعرف، فقد ثار الكثير من الجدل والنقاش حول الشكل المناسب للمسجد الجامع في سياقه الحديث، مؤخراً. وعلى سبيل المثال فإن المسجد الجامع في العاصمة الماليزية الجديدة، بوترا جايا، يحدد العديد من القضايا التي يدور حولها هذا النقاش، فهو يضم قبة هائلة والعديد من المآذن بالإضافة إلى الصحن الممهد الذي يحط ببيت الصلاة المسقوف. ومنذ إنشاء مسجد الدولة التجديدي، المشهور بمسجد نجارا، في كوالا لامبور في أوائل الستينيات، والذي لا يضم قبة، لم يسر على دربه إلا عدد محدود من المساجد. وقد شارك في هذا النقاش من يعتقدون أن المسجد ينبغي أن يضم مجموعة محددة من الأجزاء، من ناحية، وأولئك الذين يدعون إلى التجديد من ناحية أخرى.

هذا الاستقطاب الحاد بين ما يدعوه الكثيرون من دون أن يواكبهم الصواب بــ «التقليد» و«الحداثة» لا ينبغي أن يحول بيننا وبين رؤية مجال رحب آخر للبحث، وهو على وجه الدقة المجال الذي حرص راسم بدران على استكشاف آفاقة.

دعنا، إذن، نتابع مساهمة راسم بدران في هذا النقاش الكبير حول المسجد المعاصر، من خلال إطلالة، ولو عاجلة، على خمسة مشروعات محددة، نعتقد أن كلاً منها جدير بتناول تفصيلي، لكننا سنكتفي بقراءة عاجلة لما قدمه المعمار العربي الكبير في كل مشروع من هذه المشروعات الخمسة:

أولاً – مسجد الدولة الجامع الكبير في بغداد:

على الرغم من أن هذا المشروع لم يقدر له أن يشق طريقه للتنفيذ، ولا نحسب أنه سيرى النور يوماً، إلا أن مساهمة بدران في المسابقة الدولية التي عقدت لتصميم هذا المسجد، والتي فازت بالمركز الأول، تستحق التوقف أمامها طويلاً.

كان برنامج المشروع الذي طرحته الحكومة العراقية، ممثلة في بلدية بغداد، يتضمن إنشاء مسجد جامع، صرحي الأبعاد، يوضح النطاق الهائل للانجازات التقنية التي حققها العراق، وتضمنت مقتضيات البرنامج تشييد مسجد جامع على مساحة ثلاثين ألف متر، لاستيعاب مصل واحد في كل متر مربع منها، في إطار بيت صلاة هائل، بالإضافة إلى عشرين ألف مصل آخر في صحن مفتوح، فضلاً عن اضطلاع المسجد الجامع بوظائف أخرى عدة، حيث يضم مدرسة ومكتبة ومقر إقامة للإمام وللعاملين بالمسجد، فضلاً عن تسهيلات استقبال للشخصيات المهمة وكبار الزوار.

لا يتردد جيمس ستيل، أستاذ العمارة في جامعة ساذرن كاليفورنيا، في الإعراب عن اعتقاده بأن بدران فاز بالمركز الأول في هذه المسابقة على الرغم من كراسة الشروط والمواصفات، وليس بسبب الاستجابة لها وتلبية مقتضياتها، وكما هي الحال في العديد من المسابقات التي فاز فيها، فقد حقق التميز بمخالفة، وليس بإتباع، القواعد المسكوت عنها، وبصفة بالغة الوضوح في استراتيجياته المتعلقة بالتصميم الأساسي. في وهذه الحالة بدأ التناقض بتحطيم المعمار الصرحية ما قصد به أن يكون رمزاً لقوة الأمة والرئاسة، وجعله أكثر إنسانية وتعاطفاً مع الإنسان العراقي العادي. وهذا يبدو أوضح ما يكون في مقياس المشروع، الذي يشبه قرية عراقية تقليدية، القطاع السكني من مدينته المشيدة، هكذا فإن الصرح الواحد الهائل تم تحويله إلى نسيج حضري مدهش.

والتناقض الثاني الجلي هو اختيار بدران للإشارات المرتبة تاريخياً، والتي تعكس الإشارات المنتمية إلى بلاد الرافدين بالإضافة إلى الإشارات الإسلامية، بما في ذلك المشهد الطبيعي المحيط بالمسجد، فالتصميم يقتضي إنقاذ مجموعة من الأشجار موجودة بالفعل في الموقع واستخدامها لتأطير المدخل الرئيسي، وتستمر أشجار النخيل في الإطاحة بجانبي الطريق المفضي إلى المسجد نفسه، وهذه الأشجار تستحضر أصول حضارة بلاد الرافدين، التي اعتمدت على مياه النهرين، اللذين كفلا الزراعة وبقاء البشر على امتداد ألون السنين، وهكذا فإن هذه الأشجار استحضار للبدايات وللتاريخ الطويل في هذه المنطقة وليس مناضيها القريب نسبياً فحسب.

أخيراً، فإن بدران من خلال فرضه لشبكة حداثية تضفي النظام على الموقع بكامله قد أعلن بشكل كامل قطيعة مع الماضي السابق للصناعة، أو على الأقل أعلن عزمه إطلاق جدل محتدم معه. ونظم الشبكات الفرعية التي تشكل الأجزاء المختلفة والتي تهيمن على الأنماط التقليدية، مثل قاعة الصلاة ذات الأعمدة الحاملة مع مسافات أكبر كثيراً، والتي تنفذ بالأسمنت المسلح، وتحل محل غابة الأعمدة الموجودة في المساجد الأقدم.

وعلى الرغم من أن تصميم بدران، كما نعرف جميعاً، لم يقدر له أن ينفذ قط، إلا أنه نشر في مجلة «معمار» التي ترعاها مؤسسة أغا خان، جنباً إلى جنب مع مساهمات كبار المعماريين العالميين في المسابقة، من أمثال روبرت فنتورا ودنيس سكوت براون، وقد كفل تصميم بدران له شهرة دولية لا يستهان بها.

ثانياً – المسجد الجامع وقصر الحكم في الرياض:

بعد ثلاث سنوات من فوز بدران في مسابقة قصر الدولة في بغداد، فاز بالمركز الأول في المسابقة الدولية لإعادة تطوير قلب الرياض القديم، حيث اختير ليكون المعماري المسؤول عن مشروع تطوير قصر الحكم. وكانت كراسة الشروط والمواصفات في هذا المشروع مماثلة بصورة ملحوظة لمشروع بغداد، من حيث أن المشروعين كليهما يتضمنان مسجداً وقصراً، وتفاعل المقدس مع العلماني وكذلك مكون أكثر شيوعاً. وتضمنت كراسة مشروع قصر الحكم إنشاء مسجد يتسع لعشرين ألف مصل، ينقسمون ما بين بيت صلاة يستوعب أربعة عشر ألف مصل وصحن يتسع لستة آلاف مصل. ويحل المسجد الجديد محل مسجد قائم شيد على إطلاق مسجد آخر بدوره.

الآلية نفسها في العمل التي اعتمدها بدران في مشروع بغداد سيعتمدها في الرياضي، حيث يقدم قراءة معمقة في التاريخ الحضاري والمعماري لموقع المشروع، وفي حالة الرياض، تعمق بدران في دراسة العمارة النجدية، بما في ذلك النماذج القائمة، كما في أطلال مسجد الذرعية.

ويركز بدران نفسه في رؤيته لمشروع قصر الحكم على ما يسميه بالتوازن بين القيم والاحتياجات، وهو يرى أن هذا المشروع بعد من أوضح المشاريع في حياته العملية للتوازن بين القيم الموروثة وبين الاحتياجات المعاصرة المتغيرة، والمسجد والقصر محاولة لإيقاظ القيم والذكريات الخاصة بمكان تاريخي مهم ذي تراث ثقافي واقتصادي واجتماعي وسياسي بالغ الثراء. وهذا التوازن يتجلي في أربعة مجالات عامة، هي الثقافة والمورفولوجيا والإيكولوجيا والتكنولوجيا، وفي كل مجال من هذه المجالات ثم تحديث الأعراف الموروثة.

ولكي نقترب من الكيفية التي كان المعمار الكبير يفكر بها، في صياغته لمشروع على مثل هذا القدر الهائل من التعقيد، قد يكون من المناسب أن نعود إلى نقاشاته، التي تمتد بلا انتهاء مع المسؤولين عن هيئة تنمية الرياض، حيث تحدث مطولاً عن اعتزامه إعادة إقرار العلاقة التاريخية بين المسجد وقصر الحكم، لتأكيد الصلة القائمة بين الأساس الديني للقانون في الإسلام واستلهام القائمين على تنفيذ القانون لروح الشريعة في كل ما يصدر عنهم. كما أكد المعمار على التماثل بين الصلة التي تربط المسجد بالمدرسة في الماضي وغرمه إبرار ذلك التوازي، بالنظر إلى المتحف الذي تنص على إنشائه كراسة المواصفات على أنه نموذج معاصر للمدرسة، كما أمعن التفكير في العديد من عناصر التصميم الأخرى، مثل كيفية ترجمة الحميمية في المسجد الدرعية، ولكن على نطاق ممتد في الرياض، وما هي البني والمواد المناسبة في ضوء المساجد القديمة المشيدة في إطار التقاليد المعمارية النجدية، وأخذاً في الاعتبار بالعناصر المناخية المحلية، وكيف يمكن إعادة إدخال المهارات الحرفية في المفردات المعمارية، وكيف يمكن تحقيق التوازن بين الإضاءة الطبيعية والإضاءة الاصطناعية.

وتوضح الرسومات الإيضاحية لتصميم بدران لمجمع قصر الحكم كيف كان يصارع العديد من القضايا ذات الأهمية البالغة للمخطط، فقد اتخذ القرار الرئيسي المتعلق بربط المسجد بقصر الحكم، ولكنه صارع المسألة الصعبة المتعلقة بالمسافة بينهما، كما أعاد إدخال الاتصال بين المسجد والنشاط التجاري، الذي كان موجوداً في السابق هناك، كما في العديد من أرجاء العالم الإسلامي، قبل الميل الراهن إلى عزل المسجد وسط مرآب كبير للسيارات.

في التصور النهائي للمشروع، وكما هي الحال في مسجد الدولة ببغداد، قرر بدران تنظيم بيت الصلاة الكبير في الرياض وفق نظام هندسي يسمح للأعمدة والعقود بأن تتكرر موازية لحائط القبلة. وهذه العقود تعيد إلى الذاكرة نظيرتها في مسجد الدرعية، ومن حيث الحجم أفرغت في أهاب يكفل بها الاتساق مع المقياس الإنساني، وتوظف الأعمدة لاحتواء تسهيلات أنظمة التهوية والتكييف، بحيث يظل بيت الصلاة مفتوحاً، ويعاود الظهور هنا نظام الإضاءة الذي وضع تصوره في جامع بغداد، والذي يسمح للإضاءة الطبيعية بأن تنهل إلى داخل بيت الصلاة، ولكن بشكل معدل هذه المرة.

وتم تجهيز الأعمدة من الأسمنت المسلح مسبق التجهيز، في تطبيق مباشر لاعتقاد بدران بأن التجديد يتفق مع روح انجازات العمارة النجدية في هذه المنطقة.

ويلاحظ أن المسجد الجامع ليست له قبلة، وهذا أمر منطقي بسبب الارتباط الضريحي للقبة، الذي لا يلقى ترحيباً في المنطقة، وقد تم استبدال عنصر لقبة لتحل محله زيادة في الإضاءة من السقف في منطقة القبة. وبدلاً من وجود مئذنة كبيرة، عمد بدران إلى اختيار استغلال مئذنتين صغيرتين تؤطران اتجاه مكة المكرمة، الأمر الذي يعني أنهما توازيان الشارع الرئيسي.. ويلاحظ أن قاعدتهما المنحدرة وشكلها المستطيل يعيدان إلى الذاكرة شكل، وإن لم يكن نطاق، مئذنة مسجد الدرعية.

ولم يكن من قبيل الصدفة أن يفوز مجمع قصر الحكم بجائزة أغاخان للعمارة في عام 1995، الأمر الذي أكد الجهد الكبير والفائق الذي بذله بدران في هذا المشروع، وبصفة خاصة ما أجراه من أبحاث على العمارة النجدية والأمثلة القائمة في الدرعية، التي يتعين القيام بتحليلها وإعادة تفسيرها.

مسجد الملك عبدالعزيز في الخرج

ثالثاً – مسجد الملك عبدالعزيز في الخرج:

يلفت نظرنا، على الفور تقريباً، أن العديد من المفاهيم والأفكار، التي استلهمت من تقاليد العمارة النجدية، وتم توظيفها في مجمع قصر الحكم بالرياض، قد استخدمت أيضاً في مسجد الملك عبدالعزيز في الخرج، إلى الشمال من الرياض. ويعكس هذا المشروع العديد من العناصر ذاتها، ولكن على نطاق أصغر كثيراً.

كان هناك مسجد قائم في موقع المشروع، ولكن تم هدمه إلى جوار العديد من المباني الأخرى لإيجاد مركز جديد، يتضمن مسجداً وساحة عامة وقصراً للحكم وسوقاً للخضر، وتم إدراج فضاءات مفتوحة مترابطة لزيادة حيوية المنطقة، وإيجاد أماكن يتجمع فيها الناس ويتريضون، وزرعت أشجار نخيل لتلقى بظلالها، وأوجدت العقود المقنطرة مناطق انتقالية بين الفضاءات المفتوحة والمغلقة، وربطت عناصر التسهيلات في برنامج المشروع بجانب المسجد، تماماً كما هي الحال في مجمع قصر الحكم، لإيجاد علاقة الاعتماد المتبادل ذاتها.

وتوضح رسوم بدران لأشجار النخيل، التي قصد بها دعم الأشجار الموجودة في المواقع تفهمه للصلة بين الأشجار وأعمدة بيت الصلاة الحاملة للسقف، باعتبارها المعادل المعماري للأشجار أو الواحة. كما توضح الرسوم الخاصة بنظام تكييف الهواء، المرتبطة بكل عمودين توأم، أنه قصد به العمل كعرق – وصل، وهو تطوير إضافية للتقنية، التي وظفت لأول مرة في مسجد الرياض الجامع، وهي تمد تطور بين الصلاة إلى نظام مركب للبناء، يضم البنية وتكييف الهواء معاً.

ويلاحظ أيضاً أنم سجد الخرج يضم تصوراً أكثر وضوحاً للمئذنة، مقارنة، بما هو موجود في قصر الحكم، وهو تصور قائم على حواف الخناصر والمزاوجة الثنائية.

رابعاً – مسجد علي بن أبي طالب:

على الرغم من أن معظم مدن منطقة الخليج هي مدن حديثة، شيدت بكاملها، أو على الأقل في الجانب الأعظم منها، في فضاءات صحراوية مفتوحة، وبدون ضوابط مفروضة قسراً على تخطيطها الحضري، إلا أن نلاحظ في كثير من الأحيان التوتر الناشئ في مواقع المساجد بين الضرورات المتعلقة بتوجيه المسجد إلى اتجاه مكة المكرمة من ناحية وشبكة المدينة المتعامدة، الأمر الذي يلقى عبئاً إبداعياً حقيقياً على كاهل المعمار الذي يعهد إليه بتصميم المسجد الجامع فيها.

هذا هو، على وجه الدقة، أحد التحديات الأبرز التي كان على المعمار راسم بدران التعامل معها في تصميم مسجد علي بن أبي طالب في قطر، وإلى حد ما في مسجد الخور في قطر أيضاً.

ويلفت نظرنا أن بدران عمد في حالة مسجد علي بن أبي طالب إلى استخدام حد خارجي لإيجاد التصالح بين التوجيه وشبكة المدينة، وذلك بأن لجأ قاصداً إلى اختراق حدود الموقع الموجودة في كراسة شروط ومواصفات العميل، موجوداً في غمار ذلك جيباً داخلياً يكون بمثابة الوساطة بين المسجد والشارع، ويؤدي إلى مخطط المسجد، بالطبع، إلى إيجاد توتر، كما أن إضافة العناصر التكميلية بينه وبين سور الحد الخارجي تؤدي إلى اعطاء انطباع بمدينة صغيرة مسورة، داخل حي قائم بالفعل، وهذا يعيد إلى الأذهان الاستراتيجية المماثلة التي اتبعها بدران في مشروع مسجد الدولة في بغداد، حيث لا وجود لقيود متعلقة بالموقع.

مسجد الأمين في بيروت

خامساً – مسجد الأمين في بيروت:

في عام 2000 كان على المعمار راسم بدران أن يفكر طويلاً قبل أن يتقدم باستجابته لتحد مزدوج من تحديات العمارة، في سياقها المسجدي، وهذا التحدي نابع من أنه في غمار تصميمه لمسجد الأمين في بيروت كان عليه التعامل مع السياق القائم للمجمع المراد تشييده، وأيضا للطبيعة الحساسة للمشروع، التي تعود إلى تاريخ بيروت الاقتصادي والاجتماعي – الثقافي.

هنا أتيحت له الفرصة لربط مسجد الأمين، الذي طلب منه تصميمه، بكنيسة موجودة بالفعل تقع في اتجاه شاقولي من موقع المسجد. وكما كان الحال في مسجدي علي بن أبي طالب والخور في قطر، كان اتجاه القبلة في مسجد الأمين يختلف عن كل من شبكة الشوارع واتجاه الكنيسة، الأمر الذي استدعى جهدا ابداعياً أكبر من المألوف من المعمار الكبير، لإيجاد السياق المناسب الذي يندرج فيه المبنيان.

وتروي الرسوم الإيضاحية التي أبدعها بدران قصته الاستراتيجيات التي قام بتوظيفها لتحقيق ذلك، أي لإيجاد سور متواصل يكون بمثابة الحد الخارجي للمسجد والذي يناظر في ارتفاعه السور المحبط بالكنيسة واستغلال مئذنتين رفيعتين ومستدقتين على الطراز التركي، ترددان صدى برجي الأجراس في الكنيسة المجاورة.

تكشف هذه الرسوم أيضاً أن العلاقة التداخلية أكثر عمقاً ورهافة مما تبدو عليه للوهلة الأولى، حيث أنه عمد أيضاً إلى استخدام الفضاء بين المبنيين كفناء ناقل للحرارة، لاجتذاب النسيم السائد نحو المسجد، الذي صمم للتسريع بعملية تدفق الهواء هذه. وتعد الخناصر المستدقة التي تستخدم لإحكام محيط قبة المسجد مع بيت الصلاة ذي الخطوط المستقيمة الذي تعلوه هذه القبة إيماءة مراوغة أخرى، وتقر مستوى آخر  من الحوار مع المثلثات الموجودة في أعلى المبنى المقابل على الجانب الآخر من الشارع.

هذه المشروعات الخمسة يجمعها كلها إيضاحها لمدى تعمق راسم بدران في التعامل مع القضايا الكامنة وراء تصميم المسجد المعاصر، والتي كانت قضايا بالغة الأهمية، منذ فوزه بالمرتبة الأولى في مسابقة مسجد الدولة في بغداد، في أوائل الثمانينيات.

هذا التعمق غذى العديد من الأفكار البناءة، التي يمكن أن تفيد الكثير من المعنيين بهذا الميدان. وهناك فكرتان من أكثر الأفكار أهمية في هذا الصدد، ترتبطان بالجوانب الرمزية، والجوانب السياقية، التي كانت مثاراً للجدل والنقاش في الماضي القريب.

نلاحظ أن التركيز على القباب والمآذن باعتبارها أجزاء جوهرية من تصميم أي مسجد قد تم تحديه في كل من هذه المشروعات الخمسة، التي تصدى لها بدران. وقد تجلى موقفه باعتباره أكثر نزوعاً للتأمل وأقل دوجماتيكية، وبصفة خاصة في غمار الاستجابة لكل حالة ولكل سياق، فهو بينما استخدم هذه العناصر بالطرق المناسبة المرتبطة بالظروف، فإنه قام بتحويرها لتتوافق مع متطلبات محدودة، ومع التأثير الثقافي الجماعي للمجتمعات المختلفة المعنية.

ويعد مشروع مجمع قصر الحكم هو المثال الأكثر ووضوحاً لهذه النوعية من التحويل، حيث أن تحليله المعمق للأمثلة المعمارية السابق قد مضى به إلى استنتاج أن هذه الأشكال سيتعين اعادة النظر فيها هناك. والتطور الذي قاده إلى الوصول إلى هذا الاقتناع يعد من الأمثلة الداخلة حقاً في هذا الصدد.

وعلى مستوى أكثر جذرية، هو مستوى التخطيط الحضري، قدم بدران بديلاً دقيقاً تاريخياً، ومتدفقاً بالحياة، للنموذج السائد القائم على اعتماد مبنى ؟؟ واحد وسط مرآب سيارات كبير، وهو النموذج الموجود على امتداد العالم اليوم، والذي يشكل ازعاجاً لتيار بكامله من الفكر المعماري الإسلامي، الذي يشدد على اندراج المسجد الجامع في صميم النسيج الحضري للمدينة.

ونلاحظ، أخيراً، أن رسم بدران عمد في كل تصميم أبدعه للمساجد، وبغض النظر عن مساحتها، إلى إعادة تكريس الصلة المهمة بين الاستخدامات المقدسة والعلمانية، التي ميزت مثل هذا النمط من المباني في الماضي، وليس هذا بالانجاز القليل، في عالم تحتاج العمارة فيه إلى كل فكرة ملهمة من هذا النوع.

يبقى، أخيراً، القول إنه على الرغم من الانجازات المعمارية الكبرى التي حققها المعمار العربي ورسم بدران، وبصفة خاصة في سياق العمارة الدينية، إلا أننا نعتقد أننا لانزال على موعد معه ليقدم للعالمين العربي والإسلامي المزيد والمزيد من الانجازات المعمارية.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات