إذا نظرت لصورة قمر صناعى لشبه الجزيرة الكورية فى الليل ستلاحظ شيئاً صادماً: فى النصف الجنوبى بريق شبكة من الأنوار ترسم منظومة الطرق والقرى وتتقاطع فى بؤر المدينة والتجمعات الصناعية، أما فى النصف الشمالى فستجد نقطة واحدة خافتة حول العاصمة بيونج يانج، فى وسط ظلام شبه تام- ظلام النظام الشمولى، الذى يهتم فقط بمركز القوة والحكم.
من المفروض ألا يكون ذلك غريباً علينا، فنحن فى بلد يستورد الملايين من سيارات الـ«هيونداى» ومنتجات «سامسونج» من موبايلات وتليفزيونات… إلخ، وكلها مصنوعة فى كوريا الجنوبية. فى المقابل لا ينتفع المواطن من منتجات كوريا الشمالية، لأنها لا تصنع أى شىء مفيد له. مع ذلك ستجد بعض النخب عندنا تستورد الأفكار من نظامها الشمولى، وتبدى الإعجاب به لأنه ينتج صواريخ الـ«سكاد»، أو لأنه نجح فى تفجير قنبلة ذرية، أو لأنه نظام «مقاوم» وليس «عميلاً» للولايات المتحدة مثل نظيره الجنوبى.. ولا تبالى لحظة بالثمن الذى يدفعه الشعب فى سبيل «نهضة» غامضة الهدف ومنعدمة المردود، باستثناء تثبيت سيطرة وتعظيم كيان الحكم والدفاع عنه.
ففى حين كان النظام الشمالى يبنى برنامجه النووى، أدى سوء إدارته إلى مجاعة راح ضحيتها نحو مليونى شخص، أى حوالى واحد من بين كل عشرة من السكان. وفى أعقاب هذه المأساة- ومن أهم أسبابها «هلوسة» العالم البديل الذى ابتكره الشمال الشمولى وفرضه على الناس، فى حين كان يستورد قادته أحسن الطعام والشراب وحتى الطهاة من أوروبا واليابان لأنفسهم- وفى زمن ظل فيه سكان كوريا الشمالية يأكلون الشعرية المصنوعة من مسحوق عروق وأغصان الشجر المجففة بدلا من القمح، قرر النظام الكورى الشمالى إثبات نخوته، وتثبيت هيبته وشرعيته، عن طريق تفجير قنبلة ذرية. أين العظمة فى ذلك؟
إن التضحية باستقلالية وحرية الفرد فى سبيل أهداف جماعية فى ظل حكم شمولى ليس فيها الكثير من الفائدة إذا كان الهدف هو صيانة كرامة الفرد وحقه فى حياة كريمة، حتى بافتراض بعض «الإنجازات القومية». فقد يحلم قطاع من النخب عندنا بالـ«هيبة» المتمثلة فى إنتاج أسلحة ثقيلة وثقل عالمى أكبر، لكن الحلم ينتهى فى كابوس إذا اقترن بعبئه النظام الشمولى، حيث يعود «الإنجاز» على النظام وقادته على حساب كرامة الفرد.
وليس بالمصادفة أن يكون صعود كوريا الجنوبية المذهل فى العقود الماضية قد تزامن مع انفتاح سياسى وإقامة مجتمع يعطى فرصة للفرد أن يبدع ويبتكر ولا يكون أداة فى ماكينة هائلة مدارة من أعلى تحت شعارات خلاصية ضبابية هدفها قمع الفرد والسيطرة عليه.. فما لم يفهمه زعيم كوريا الشمالية عندما طالب الجنوب بالاعتذار عن المظاهرات التى دنست صور جده هو أن الحكومة الجنوبية ليست مسؤولة عن أفعال الأفراد.
لكن كيف يمكن أن يتصور ذلك وهو يدير مجتمعاً تفرض فيه العقوبة على من لا يؤله النظام، بل على كل من لا يضع صورة «القائد العظيم» فى مكان مرموق فى بيته ويعتنى بها جيداً، حتى لا يتعرض للعقوبة من قبل لجان التفتيش؟!
تماما كما لا يتخيل الكثير كيف لا تكون الحكومات الغربية مسؤولة عن إهانة مواطنيها للرسول. فربما لا يداهمنا خطر عبادة الفرد حالياً فى مصر، لكن التجربة الكورية تشير إلى أن هذه الظاهرة تبدأ بعبادة الفكرة..
هكذا وصل مجتمع من المفروض أنه مبنى على المادية الماركسية إلى عبادة أصنام «كيم إيل سونج»، وهكذا يمكن أن يصل نظام مبنى على مرجعية دينية شمولية، تعد بالخلاص ولكنها قد تنتهى باستعباد البشر. وأى مجتمع مغلق لا يسمح بالتعددية- حتى إذا كان ذلك باسم الدين- مهدد دائماً بالسقوط فى وحل الشمولية.. من أهم التحديات التى تواجهنا إذن التخلص من الإعجاب بـ«إنجازات» الأنظمة الشمولية وزعمائها، فى كل صورها وبصرف النظر عن المبررات.
(نشرت (المصري اليوم) مقال الأستاذ عمرو الزنط ، بتاريخ 19 أبريل 2013)
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.