محمود بيرم التونسي: مذكرات في المنفى

11:28 صباحًا الإثنين 13 مايو 2013
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في قسم من مجلته (الشباب)، كان محمود بيرم التونسي يستعيد ـ بقلمه الساخر وحسه الساحر ـ ذكرياته في فرنسا، وبالتحديد في مدينة مرسيليا، حيث عاش في منفاه. وقد وردت هذه الذكريات فيما أسماه (مذكرات المنفى)، وكانت بضع مئات من الكلمات، أو صفحة واحدة من حجم الجريدة، في كل عدد. وقد جمع هذه الذكريات ناشر تونسي، مجهول، متقصيا مصادرها في (الشباب) وغيرها، وإذا به يضمها بين دفتي كتاب جعل عنوانه : (مذكرات في المنفى)، وكتب في مقدمته ما يلي: “عاد محمود بيرم التونسي من منفاه بفرنسا إلى  تونس سنة 1932 وبقي بها إلى  سنة 1938 وكان أثناء هذه الفترة من حياته يقوم بنشاط كبير في الميدان الصحفي. من بين ما كان ينشره مقالات متسلسلة عن ارتساماته وتجاربه بالمنفي، فنشر أولا بجريدة (الزمان) تحت عنوان مرسيليا حلقات عن هذه المدينة فتحدث عنها حديث من عرفها من الداخل وعاشر أبناءها. ولما أعاد نشر جريدته الشباب، وتكلم عن حياة المنفي بطريقته الخاصة، فلم يطنب عن مآسيه وآلامه، بل كان دائما يفاجئنا بنظرته الفطنة إلى  الحوادث والأشخاص ويبهجنا بفكاهته اللاذعة فكان لهذه المقالات طابع أدبي ممتاز لولاه لما أقدمنا على نشرها. وإننا نتابع التعريف بأدبنا وجعله في متناول الجميع وسوف يلي هذا الكتاب تآليف أخرى للمرحوم ما تزال مجهولة لدى عامة القراء”. ولست أرى بين يدي أية تآليف أخرى للتونسي، على منوال هذا الكتاب، الذي لم تصدر منه سوى خمسين نسخة فقط!  ورأيت وأنا أتصفح (الشباب) معكم ألا أقتصر على ما جاء فيها للتونسي عن منفاه، بل أضع ذلك الإصدار النادر كاملا، لأنه يدور في فلك الإبداع النوعي لشاعرنا محمود بيرم التونسي، مبقيا على العناوين التي جاءت في أصول الجريدة والكتاب.

 

 الدرجة الرابعة

17 اوت 1919

وجدتُ تذكرة السفر التي صرفها لي قنصل فرنسا في الإسكندرية من تذاكر الدرجة الرابعة التي تتكرم بها الحكومات للمسافرين على حسابها .

 قدمت الباخرة “شيلي” من بواخر “المجيرى ماريتيم” إلى الإسكندرية مشحونة بعشرات من العائلات السورية الفقيرة المهاجرة إلى  أمريكا الجنوبية وقد احتلوا قسمي الدرجة الرابعة؛ أي السطح والقاع.

 لم يبقَ أمامنا غير البحر والسماء، وأمام هذا المشهد أخذ الركاب يتوددون ويتقاربون .

سألني فتى لبناني يدعى ( جورج) لاحظت أنه كان يطيل النظر إليَّ منذ صعدت من سلم الباخرة: يا بو أنت كاثوليكي ولا أرثوذسكي.

قلت : كاثوليكي.

فانحنى في الحال على حقيبتي، وحملها وهو يشير برأسه ويغمز بعينيه لأتبعه. وتبعته في ممرات ضيقة، ونزلنا على درجات قذرة إلى  حيث تجلس أمه العجوز في قاع الباخرة لحراسة أمتعتها فقدمني إليها أولا باعتباري أني أحد المصريين الذين تتلهف إلى  رؤيتهم. وطمأنها ثانيا بأني كاثوليكي. وأوصاها ثالثا بحفظ الحقيبة. ثم جذبني من ذراعي لنعود ثانية إلى  سطح الباخرة. أو على الأصح لينقذني من وابل من الأسئلة أمطرتني بها أمه عن مصر وأهلها ونيلها وفنها.

لاحظت أن بين المهاجرين عدة فتيات تقطع كل منهن هذه السفرة الطويلة بمفردها فسألت إحداهن أو أجملهن كيف لا تخشى السفر وحدها فأجابتني:

ـ الناس ما بياكلوا الناس. وهو زعم كاذب.

 ذقت جرعة من قهوة الباخرة ثم لفظتها لأنها ذكرتني بجرعة تناولتها وأنا طفل على سبيل الفضول والعلم بالشئ من ماجور قهوجى يغسل فيه الفناجين.

قذفت إلى  البحر بطعام الغداء الذي أعطي لركاب الدرجة الرابعة وهو عدس أسود اللون فيه قطع بيضاء لامعة من شحم الخنزير.

على ظهر الباخرة قهوجي يوناني يبيع القهوة الشرقية والسواقر. ومساحة قهوته متر مربع ملأها بجسمه المنتفخ كأنه بالون مملوء بالدم. هذا القهوجي يزيد ربحه على مرتب أكبر الموظفين في الباخرة.

هو يربح فوق دخله من بيع القهوة الشرقية أرباحا أخرى لأنه يقوم بدور الوسيط بين موظفي الباخرة وبين الركاب الذين يرغبون في تغيير درجاتهم أو مآكلهم بأحسن منها.

ذهبت إليه لأول مرة فوجدته يقرأ النشرة اللاسلكية التي تلقتها الباخرة  في عرض البحر وكان فيها أخبار الجيش اليوناني الذي توغل في الأناضول وأصبح على تخوم مدينة أنقرة. وكان يقرأ متبجحا شامخا بأنفه والركاب حوله بين مهنيء وممتعض وساكت على الحياد.

بين هؤلاء الركاب وجيهان مصريان من ركاب الدرجة الأولى جاءا هاربين من قهوة الباخرة. في هذه اللحظة انطلق أحد الركاب الذين صعدوا من الإسكندرية يغنى دورا من أدوار عبد الحي فانفض الواقفون من حول اليوناني والتفوا بالمغني وهو إسرائيلي جميل الصوت والوجه يبلغ التاسعة عشرة من العمر. يريد الذهاب أيضا إلى أمريكا الجنوبية المحرومة من المطربين. وهو واثق من النجاح لأنه شقيق مغن مشهور في القاهرة. ولما أتم الدور أخذه الوجيهان المصريان عندهما في الدرجة الأولى حيث يوجد البيانو والويسكي الجيد.

جاء المساء وقد ألقيت أيضا طعام العشاء من البحر لأنه كان أطرافًا من اللحم البقري كريهة المنظر مسلوقة مع السفنارية الصفراء.

نادتني عجوز فضلت هي  وابنتاها الإقامة على ظهر الباخرة، وقد افتتحت التعارف بهذا السؤال:

ـ يا مصري. دخيلك صحيح عندكون البياعين بيغنوا عالعنب والتين والخيار؟

قلت : نعم.

وتطوعتُ فألقيتُ على سمعها جملة ألحان مختارة مما أتحفظ عن الباعة. فكانت إحدى ابنتيها وتدعى جميلة تصغي بإعجاب وفمها مفتوح تظهر منها أسنان كبيرة صفراء، بينما تخدرت الثانية واتكأت على صندوق بجانبها وكلما فرغت من لحن طلبت هي غيره.

وقد شعرت بالأنس لمجاورة هذه العائلة المتواضعة وطاب لنا المجلس إلى  نحو نصف الليل. وقد أخذ كل إنسان  يحضر المكان الذي سينام فيه. وامتدت جميلة على سطح الباخرة الخشبى وامتدت بديعة بعكسها ثم تداخلتا بالأفخاذ حتى صارتا إحدى الصور التي في ( كارتا)  اللعب وبذلك نامتا في أمان.

في نحو الساعة الثالثة صباحا نزل الفتى المغني الإسرائيلي من الدرجة الأولى وهو سكران يترنح.

20 اوت

للمهاجرين رئيس ينظر في مصالحهم يدعى أبو نصر أرانيه (جورج) وقال وهو يشير إليه:

هالعكروت عامل رئيس علينا !

والساعه أخبرني (جورج) أن أحد البحارة الصينيين أعجبته أم نصر زوجه الرئيس ونزل إليها في نحو الساعة العاشرة صباحا إلى العنبر الأسفل حيث تقيم مع والدته في حراسه الأمتعة ومعه دجاجه ناضجة يخفيها تحت فوطه فقدمها إليها وهو يفأفيء بكلمات غير مفهومه فلم ترفض أم نصر هدية البحار!

واقترح جورج أن يتسلى في هذه الليلة بمراقبة الصيني ومعرفة ما عسى أن يفعله بعد تقديم الدجاجة.

لم أذق طعم النوم منذ ركبت الباخرة إلى مساء اليوم الثاني، لا انزعاجًا من النفي ولكن لابتهاجي بمنظر البحر والسماء بصورة جديدة أراها لأول مرة في حياتي، فاستلقيت على كرسي من الخشب قريبًا من جميلة  وبديعة وقد عصفت الريح وأخذت الباخرة تسير صاعدة هابطة كالأرجوحة فأشعر بارتياح لحركاتها.

 ولكن جميلة  وبديعة أصابهما الدوار وغرقتا في سيول من القيء كان أحسن لهما وأصون من التشابك بالأفخاذ وعند دخول العتمة غلبني النوم الجبار.

 منذ ركب أبو نصر الباخرة وهو يبيت علي ظهرها ولا يري أم نصر إلا في أوقات قليلة في النهار. وفي ليلتنا الرابعة والأخيرة هبت علي الباخرة عاصفة قوية اضطرتها إلى المبيت في جون من أجوان كورسيكيا وهطلت الأمطار بشدة فاحتشد كل من كان على ظهرها في العنبر الأسفل، ومنهم أبو نصر وأخذت أم نصر في تحضير فراش أنيق وقد لفتت أنظار كل من بالعنبر وهي تفرش الملاءة البيضاء وتنسق المخدات الأخرى باعتناء ووقف أبو نصر بجانب هذا الفراش ينتزع ملابسه القطعة تلو الأخرى وينظر بغير ارتياح إلى من حوله من الركاب المستيقظين فدخن سقارة وأخرى وأخيرًا وقف كالخطيب ووجه لمرؤوسيه النصيحة الآتية:

  ـ ناموا من شان تقوموا بكير. شو ها الزعرنة؟ في الصباح داخلين على مرسيليا وما بتلاقوا قوة من شان تشيلو الأواعي بتاعكون. ناموا.

 وكانت أم نصر قد اندست تحت الغطاء الخفيف. مولية ظهرها بتفاصيله للناظرين فرفع أبو نصر بقيه الغطاء وامتد خلفها وهو موقن بأن الركاب عملوا بنصيحته. وكنت أنا  وجورج قريبين من هذا المشهد وكلانا مستلقي علي ظهره فوق مصطبة أعلى من فراش أم نصر. وقد غمرتني نوبة من الضحك وأنا أشاهد الركاب الذين اتجهت أنظارهم جميعا للفراش الأنيق وكيف يحاول كل منهم إخفاء اهتمامه بما يجري ورفع أبو نصر رأسه عندما توالت ضحكاتنا المكتومة أنا وجورج فلما تقابل نظري بنظره كانت أحشائي تتمزق من الضحك فاستلقيت علي وجهي لأظهر مظهر الذي أخذه القيء وأغمضت عيني نهائيًا.

 كنت مبتهجًا عندما اقتربت الباخرة من ميناء مرسيليا ووقفت مع الركاب أشاهد برج “نوتردام” وقباب الكاتيدارئية، فإذا بأحد ضباط الباخرة يناديني باسمي. فلبيت. فوضع يده علي كتفي بلطف وساريي في أحد الممرات وفتح حجرة وقال:

 ـ تفضل بالدخول!

 فدخلت طائعًا. فأغلق الباب وأخذ المفتاح وبقيت منقبض النفس لأنه لم يبين لي السبب. وأبصرت في أعلى الحجرة كرة مستديرة لها باب من الزجاج الأحمر السميك القاتم فتسللت إليها ولكني لم أبصر منها شيئا وعالجت فتحها بالأصابع فلم أفلح إلا بعد مشقة كبرى لالتصاقها بالدهن الغليظ ورأيت عندئذ جانبا من عرض البحر وقفت فيه بواخر مختلفة الألوان . بعضها فارغ تماما والبعض يظهر منه بحار أو فحام  كأنه هو أيضا مسجون . ورأيت “لنشا” صغيرا يسير بجانب الباخرة بمقدار سيرها البطيء .وفهمت من قذارة شكله أنه من لنشات الحكومة. وفي وسطه ثلاثة رجال كانوا يرفعون قبعاتهم لبعض معارفهم من موظفي الباخرة.

 هذا اللنش جاء لاستقبالي وحدي … والذي فيه هم من رجال البوليس الخاص.

علمت ذلك عندما فتح البحار باب الحجرة وطلب مني الاستعداد للنزول مع ركاب الدرجة الأولى   الذين نزلوا قبل غيرهم. وكنت أنتظر الشر من مقدم هذا البوليس ولكني وجدتهم في نهاية الرقة ولم يكن حضورهم إلا مجرد إجراءات رسمية تجري مع كل منفي …

 مرسيليا

 المرأة الطويلة البيضاء الممتلئة الجسم الثقيلة الردف كانت المثال الأعلى للجمال عند الشرقيين وأحسب أن هذا الاختيار سيبقى على مر الدهور.

 فالأحياء الواقعة في قسم الميناء كلها أحياءٌ قديمة ذات شوارع مرتفعة ومنخفضة وميادين مشوهة بمبانيها وأهلها الفقراء. في أولئك الفقراء مئات من البائعات من سماكة وبقالة وخضرية وفكهية تكفي الواحدة منهن لسد نهم ذلك العمدة الشرقي الذي يقيس الردف بالمتر والوجه بالشبر.

 أو الرجل الذي يريد أن يتزوج أربع نسوة مجموعات كلهن في امرأة واحدة.

  هذه القوالب الضخمة يزينها جمال بارع، ومن أولئك البدينات الفقيرات تخرج ملكة الجمال في معظم السنين. يقف الشرقي أمام تلك التماثيل متعجبا من تصرف القدر الذي يرمى بهن في الأسواق القذرة. متهما أهل مرسيليا بالجفاء وقلة الذوق لأنهم لم يعرفوا لهن قدرا.

استوقفني في الطريق فتى من الشوام المقيمين في مرسيليا يقرب طوله من المترين في عرض مناسب. وظهر لي أنه يريد أن يكون لي دليلا ومرشدا فبدأني بتحية شامية:

 ـ ايش لونكم ياه!

قلت : بخير.

قال : بتريد أفرجيك على مرسيليا؟ وبطلعك فوق في نوتردام عالجبل؟ وبامشي معك مثل ما بتريد؟

ولكنه لما رآني أرفض كل هذه الخدمات شاكرا له همته أجاب شكري بأحسن منه وصمم على مصاحبتي مهما كلفه الأمر.

 ومشينا في الطريق يسألني وأجيب :

ـ مين عم بيحكم في سوريا؟

قلت: الجنرال غورو.

ـ زلمة منيح؟

قلت : يحبه بعضهم ويكرهه البعض.

فوقف فجأة واستوقفني معه كما يفعل الأعيان وأخرج يده التي كانت في جيب معطفه القذر ولوح بها في الهواء وقال مهددا للجنرال غورو:

ـ بدي أرجع لسوريا واقتل هالزلمة.

قلت : العن الشيطان.

فأقسم براس الإله وشارب الإله ليذهبن إلى  بيروت لقتل غورو .

ليلة من ليالي قرونوبل

كان حتما علي أن أغادر منزلي في الساعة الثانية صباحا لأصل إلى  فابريكة الحرير في الساعة الرابعة والمسافة بيني وبين المعمل ستة كيلو مترات يلزم قطعها على الأقدام.

 في تلك الليلة كانت تهب عاصفة ثلجية ابتدأت منذ ليلتين حتى بلغ ارتفاع الثلج على الأرض سبعين سنتيمتر تقريبا ولا يزال هشا متخلخلا تغوص فيه الرجلان إلى  الركبتين، وفي كل خطوة يجب أن يقتلع الانسان  رجله بشئ من المشقة ليغرسها مرة أخرى. وكان الترمومتر هابطا إلى  درجة 25 تحت الصفر، والطريق موحش لا أنيس فيه غير الأشجار الواقفة في الظلام .

 في نصف الطريق بين الجبال والمزارع سمعت ضجة غريبة. فأنصت. فإذا هي  نغمات موقعة على دقات منظمة ذكرتنى بالطبول والصاجات النحاسية التي يستعملها أبناء الطرق.  بل هي والله نفسها. دقات منظمة كأحسن ما تسمع على تخت فيه الرق والدربوكة والنغرات.

 وكانت الأصوات تقترب وتزداد وضوحا. فحرتُ في تفسيرها لاسيما عندما اتضحت الأنغام وكأنها شرقية يعزفها فلاح مصري أو فلسطيني. وظهرت لي من بعيد مصابيح ضئيلة الضوء تتحرك في الهواء ففهمت أنها مرتفعة على عصي أو رماح.

هل هو عرس لعمال من أهل الجزائر أو مراكش المقيمين في فرنسا؟

 هل هي  حفلة سكارى أوعزت إليهم بنت ألحان بالخروج والعربدة في هذه الساعة؟

 هل نحن في عيد من الأعياد الفرنسية التي تزيد عن المائة ولا أعرف اسمه؟

لكن الثلوج التي تقذف بها الريح على الوجه والأنف والأطراف المكشوفة والتي لا يقل ألمها عن ألم الكي بالنار لا تدع مجالا للمعربدين ولا للعباد ولا أصحاب الأعياد.

والآن بيني وبين الموكب خمسون مترا.

ورأيت أن أتوارى خلف شجرة لأرى ما هنالك في أمان. وإذا بكلب أسود في حجم الحمار الصغير أجده فجأة واقفا أمامي وفمه قريب من وجهي  يتشمم وينفخ. وجاء بعده ثلاثة كلاب أخرى في حجمه أحاطت بي.

شيء لا يطاق!

وما أسرع ما اقترب الموكب بأنواره ومنشديه وما هو؟

هو قطيع من الأبقار والأغنام والماعز مساق إلى  المجزر في ذلك الوقت وفي عنق كل بقرة أو خروف أو عنزة ناقوس يناسب حجمها ومن اختلاف هزات النواقيس وقوة أصواتها كانت تتألف تلك الطروبات اللذيذة التي ينشد عليها الرعيان أناشيدهم الجنائزية ضحكت من نفسي وقلت: اللهم زدنى علما!

 أحرج المواقف

  أفلحت في أخذ جواز السفر من قنصل إنقلتيرا في ليون للعودة إلى  مصر باعتباري تونسيا يريد زيارة عائلته في مصر وكنت مصحوبا في هذه السفرة الخفيفة بجماعة من الطلبة المصريين في ليون يعودون إلى  مصر في الرخصة المدرسية.

كنا جمعا على متن باخرة يابانية. وكنت دونهم أقيم في الدرجة الثالثة فإذا جاء وقت الطعام ذهبت إلى مائدة الدرجة الثالثة. ولا يوجد عليها غير الأطعمة اليابانية وبحارة الباخرة؛ أرز مسلوق بالماء لا هو محدق بالملح ولا محلى بالسكر يستسيغه الأكل بتاي مغلي ماسط الطعم  مثله. بجانب الأرز أصناف من السمك خيل لي أنها مطبوخة بالعسل لفرط حلاوتها. تصحب هذه الحلاوة “زهومة”  كالتي يشمها الإنسان  من صفيحة زيت الخروع التي مضى عليها زمن طويل وهي  فارغة. ويأكلون هذه المقرفات المهوعات مع نوع من “الطرشي” يشبه الفجل أو السفاناريا بالغوا في تصبيره بالملح حتى انقلبت ملوحته إلى  مرارة كمرارة الصبار الذي يزرع في المقابر.

 كنا بعد الطعام نجتمع على سطح الباخرة، فيحدثونني عما عندهم من طيور ولحوم وفواكه، وأحدثهم عما ألاقي فيضحكون ويزداد طربهم.

 قال لي أحدهم  وهو يقصد زيادة تنغيصي:

 ستجد في ميناء بور سعيد قائمة بأسماء الأشخاص غير المرغوب في دخولهم وبينهم اسمك ولا شك!

 وصلت الباخرة إلى  بورسعيد فتركني موظفو الميناء أمر بسلام، وحجزوا جميع الطلبة لأنهم متهمون يومئذ بالاشتغال بالسياسة.

 قابلت مدير قسم الربط والضبط في أحد شوارع الإسكندرية فصافحني مندهشا من عودتي بلا إذن وذهبنا  إلى أحد المطاعم فتناولنا طعام الغداء وافترقنا وكلانا لا يعرف الآخر.

 مكثت سبعة أيام في القاهرة متنكرا باسم محمد صابر وفي تلك الأيام أدركت فائدة الإقلال من معرفة الناس فقد كنت أمر أمام مراكز البوليس وأجلس في المقاهي الكبرى ولا يشعر أحد بوجودي.

 جاءني وأنا في القاهرة خطاب من عائلتي في الإسكندرية تستحثني على القدوم قبل يوم الأحد لأحضر زفاف فتاة من العائلة عزيزة عليها. فقمت في الحال إلى  المحطة فوجدت شباك التذاكر مقفلا وأمامه نحو مائة شخص من ركاب الدرجة الثالثة وكل واحد يريد أن يقطع تذكرته قبل غيره.

 وأمام هذا الصف من الناس أبصرت سيدة من الجميلات المحتشمات وبجانبها فتاة تبلغ السادسة عشرة.

 قالت لي السيدة برجاء يذيب القلب :

 ـ اقطع لي تذكرتين إلى  طنطا لي ولابنتي فإننا لا نستطيع الوقوف في هذا الزحام ستر الله عرضك. وناولتني النقود فأخذتها ووضعت أمامها حقيبتي وما كدت أبتعد عنها حتى جاءت فتاة في مئزر اسود قذر وحذاء عتيق تحجب وجهها ببرقع اسود وتغطي عينيها المريضتين بعصابة حمراء متسخة قالت هي أيضا:

 ـ وأرجوك أن تقطع لي تذكرتين إلى  طنطا لي ولأمي العاجزة.

 فاستحيت أن أرفض طلبها وبينما أنا واقف في الصف لقطع التذاكر أبصرت هذه الصعلوكة تتكلم مع الشخص يلبس فوق القفطان فاكيتة من الكاكي الأصفر كعمال السكك الحديدية وهي تشير إلي وتقول:

 هاهو الرجل الذي تطوع لقطع التذاكر.

 فرفع الفتي يده وحياني شاكرا مبتسما ودعا لي  بكل خير. ففهمت على الفور أنه قريبها وكان غائبا وتمنيت أن يتولى هو قطع التذاكر بنفسه ليخفف علي كميات القروش “الفراطة” التي أحملها في يدي فما لبث أن اقترب مني وهو يطلعني على ورقة من أوراق مصلحة السكة الحديدية وقال:

 إنني بصفتي عاملا أستطيع أن أقطع التذكرتين بنصف أجرة بموجب هذه الورقة.

 فأفرغت في يديه مبلغ الأربعين قرشا.

 وانفتح الشباك وجاء دوري فقلت لعامل التذاكر :

 أعطني قبل كل شيء تذكرة للإسكندرية.

 ـ قطار الإسكندرية يقوم بعد ساعة أخرى.

قلت: اعطني إذن تذكرتين لطنطا.

وعدت بالتذكرتين إلى  السيدة وابنتها. فوجدت الصعلوكة تقول:

وأين تذكرتاي؟

 فقلت:أخذهما صاحبك

فقالت :  هذا الرجل لا أعرفه إلا في هذه الساعة وأنت المسئول عن التذكرتين أو ثمنهما.

 فركبني الغيظ وناديت البوليس لعلمي أن محطات مصر يكثر فيها اللصوص والنشالون على  علم من البوليس. فجاء أحد الشرطة السريين وأوصلني أنا والمرأة   إلى  الباب الكوميسارية وقفل راجعا إلى  المحطة.

 وأي حرج يشعر به في تلك الساعة رجل يعود بلا إذن إلى  بلاد مبعد منها  ثم يجد نفسه في أحد أقسام البوليس وفي تهمة قد تنتهي بكتابة اسمه في جدول أصحاب السوابق …!

 دخلت المرأة قبلي تحك البلاط برجليها وتقول للضابط  بصوت عال وعبارة متصلة كأنها محفوظة عن ظهر قلب:

ـ يا سيدي  أطال الله عمرك قد أعطيت هذا الشخص أربعين قرشا ليقطع لي تذكرتين فانكرها وقال إنه أعطاها لرجل آخر وأنا لا اعرف إلا هذا.

 وكان الضابط أنيق الملبس يفتل شاربيه إلى  الأعلى كأنه المرحوم أنور باشا.

فسألني بعجرفة

ما اسمك ؟

قلت: محمد صابر

وما صنعتك؟

معلم!

فالتفت إلى  ضابط آخر بجانبه وقال:

ها هي طريقة جديدة في اللصوصية  والنشل.

 إلا أن نظرة الضابط كانت بعكس زميله فكان يهز رأسه ويخاطبه بالإنجليزية ليقنعه بأن محمد صابر هذا بريء.

 وأخيرا اتفق الاثنان على حل نهائي وهو اعتبار المسالة  تبديد أمانة وإخلاص من التهمة بغير رد الأمانة في الحال.

 وعلم الله أنه لم يكن معي أكثر من الأربعين قرشا إلا قروش قليلة فدفعتها للمرأة وخرجت ولا أعلم إلى  هذه الساعة إن كانت شريكة صاحبها الذي هرب بالنقود، أم هو لص تظاهر بمعرفتها ليخدعني ويخدعها .

 إلا أن العرس تم بالتمام والكمال.

الجوع

 اعتدت أن أتناول في كل أسبوع شيكا على البنك يرسله مدير الجريدة التي أحررها في القاهرة. ولكنه أخذ يرسل الشيك في كل أسبوعين ثم تقدم خطوة إلى الأمام فجعل يرسله كل ثلاثة أسابيع والمبلغ الأسبوعي هو نفسه.

 سكنتُ في حجرة في الدور السابع من أحد المنازل العتيقة أجرتها ستون فرنكا في الشهر، وفيها كنت أحبس نفسي للكتابة لأمد الجريدة بالمواد التي تكفيها كل أسبوع.

 في الأسبوع الأول من شهر فيفرى 1921 اشتد البرد و غطت الثلوج شوارع وسطوح الديار ووقفت الأشجار مجردة من الأوراق كالهياكل العظمية. وقد تناولت الطعام في هذا الأسبوع مرتين أو ثلاثا. وقبل الليلة التي أدون فيها هذه الكلمات رقدت بلا عشاء. وفي مثل تلك الحال يشعر الإنسان  أن النوم يغنى عن الطعام بعض الغناء، فبقيت في الفراش أنظر من النافذة إلى  السماء المكفهرة، ولا أعرف إن كان الوقت ضحى أو مساء. وكلما سمعت وقع الأقدام على السلم حسبتها خطوات ساعي البريد جاء بالخطاب “المسوقر”. وعندما سمعت نشيش المقلاة عند جيراني وصعدت رائحة “البيفتيك” يقلى في الزبدة علمت أنه الظهر، وخيل إلي أني لو نزلت إلى  المدينة لعثرت على كثير من الأصدقاء الشرقيين الذين يطلبون العلم ويعيشون في رفاهية. فنزلت فرأيت الشوارع خالية من المارة والمطاعم والقهوات مقفلة على من فيها وكم ترى عابر سبيل يمشى مسرعا كأنه ذاهب إلى  أمر مهم وهو في الحقيقة ليس لديه ما يقصده.

 لمحت طالبا مسلما مقبلا على “المادة” التي أسير عليها. فلما قاربني أدار وجهه ليتفرج على  واجهة أحد المحلات التجارية ولكنها كانت مقفلة بالباب الحديدي! فانتقلت من تلقاء نفسي على “المادة” الأخرى.

 وواصلت السير إلى  ميدان البلدية، وكنت أنبسط لمنظر هذا الميدان الذي يجتمع فيه عشرات الألوف من الحمام الأبيض والأزرق وتذهب إليه الأمهات والمربيات ومعهن الأطفال الصغار وكميات من الحبوب فيأخذ الطفل الذي لا يتجاوز الثالثة كمية من الحبوب في يديه ويعرضها على الحمام فترتفع عن الأرض طائرة بجناحيها وتلتقطها من كفيه بلا خوف.

 ولكن الميدان في ذلك الوقت كان خلا من الأطفال والحمام. وبينما كنت أتأهب للرجوع من شدة البرد قابلت خليطا من الطلبة فيهم المصري والتركي والتونسي فصافحني بعضهم فشعرت بالدفء يسير في جسمي من هذه المصافحة، ولم أستطع النطق بكلمة غير رد التحية وكفى.

 في الساعة الرابعة بعد الظهر أضاءت مصابيحُ المدينة وإن كان في حساب أهلها أنهم في النهار! وما هي  التسلية التي يجدها من يجوع ثلاثة أيام إلى أن تحين ساعة النوم. كان منظر “المرقاز” والأجبان والخبز والحوانيت أجمل واشهى  من منظر المجوهرات والفراء والمنسوجات الفاخرة.

 لقد كنت أجد نفسي واقفا أمام الحلواني أتفرج على الفطائر المنقوشة في ذهول ثم أنتبه أن الناس تراني وتعلم حقيقة أمري، فأنصرف خجلا.

 للجوع ثلاثة أدوار.

 الدور الأول يشتهي  فيه الجائع كل شئ حتى الحشائش وأوراق الشجر.

والثاني مغص والتواء في الأمعاء.

 والثالث غيبوبة وأحلام وهذيان.

 عدت إلى  الحجرة فخيل إلي أن البرد فيها أقسى منه في الشارع. وأوحى إلي  الهذيان أن أستعمل القاعدة المشهورة : الحاجة أم الاختراع. وماذا عسى أن يخترع الإنسان ؟ ألمس بيدي الفراش فأجده طريا فأحسب أن حشوه يصلحُ للغذاء. هل أبيع البطانية التي أملكها؟ ولكن أين هو المشتري في هذه الساعة؟ فتحت كل (قجر) وقلبت كل وسادة لعلني أجد تحتها قطعة من الخبز أو ما يشبه الخبز.

 وقلبت الكنبة بحركة عنيفة كالمجنون، فلاحت لي بصلة تلمع قشرتها الذهبية تحت النور.

 والبصل لذيذ إذا شوى على النار …

 ولكن لا أملك الوقود ولا الثقاب. ولسنا في مدينة شرقية حتى نجد بسهولة الأوراق والأخشاب ملقاة في المزابل أو نجد من نستوقفه ونطلب منه عودا من الثقاب على سبيل المروءة …

 أعددت الوقود من المواد الآتية:

قاموس عربي فرنسي.

ديوان أبي العتاهية.

عدة خطابات من الأصدقاء والعائلة.

 وحسبت أن صاحب المنزل لا يبخل علي بالثقاب فقرعت الباب وكانت الساعة التاسعة مساءً فخرج كالمنزعج. ولما طلبت إليه عودا من الثقاب أطرق لحظة ودخل ثم عاد ومعه عود واحد من النوع الملبس (بالفوصفور) الذي يوقد بالحك على أي جسم صلب ولكنه أبى أن يشتعل على جانب الموقد الحديدي، وأنا أحكه برفق وكياسة. وكانت رأسه في كل حكة تطير جزءا بعد جزء. فقرعت باب الرجل مرة أخرى فلما رآني أطلب عودا آخر لوى وجهه وأغلق الباب بعنف.

  وكان أحد الجيران في تلك اللحظة صاعدا على السلم ينظر إلى ما يجرى فقدم لي علبته بحالها.

 ارتكزت البصلة العزيزة بين قصائد أبي العتاهية وخطابات سيد درويش وعباس العقاد. وصعد اللهيب من الكانون يدفىء الحجرة وينيرها إلى أن احترقت جميع الأوراق. وبحثت عن البصلة فوجدتها قد سقطت من بدء اشتعال النار في أسفل الموقد ولم ينضج منها  غير ثوبها الخارجي …

 ولكن الدفء وحده في بلد مثل ليون يعد نقمة كبرى . لاسيما مع النوم ….

وجب الشغل

وجب الشغل!

 فذهبت إلى مكتبِ التشغيل لا أملكُ الأوراقَ اللازمة للعمال وهذه عقبة من الصعوبة بمكان.

 أبصرتُ العمال يجلسون بملابسهم الزرقاء على الأرصفة إلى أنْ تفتحَ أبوابُ المكتب، فوقفتُ بجانبهم.

 وانفتحت الأبواب ونادى الموظف:

 ـ من الذي يريد الذهاب إلي الإردواز ؟

فلم يجبه أحد.

 وأنا أعلم أن العمال بوجه الإجمال كسالى يتحلون بالأعذار للقعود عن العمل مهما جاعوا واحتاجوا وتقدمت إلي الموظف  وقلت:

 ـ أنا لها.

 ثم أضفت له : ولكني لا أجد الأوراق اللازمة.

 فأجابني وهو يلوح بيده في الهواء:

 ـ ليس هذا بالمهم. هناك يعطونك الأوراق.

 وانحنى على دفتر يكتب فيه اسمي وعمري و … إلخ

 ثم سلمني تذكرة القطار وفوقها خمسة فرنكات لنفقة الطريق. فخرجتُ وأنا أكاد ألمس السماء بيدي فرحا بهذا اليُسر. وبالأوراق التي سأحصل عليها والتي كان فقدُها أكبرَ أسباب البؤس.

كان القطارُ يسيرُ بين المزارع وأنا لا أشكُّ في أن الإردواز قطعة من هذا الريف الجميل الذي أراه. فيها المرعى والسوائم والفواكه والفتيات الجميلات البسيطات والهواء النقي.

ومر القطار بمدينه أفينيون الواقعة في مقاطعة البوش دي رون ومنها انحرف ثم واصل السير نحو 15 كيلو متر ووقف وصاح العامل:

هنا الأردواز.

نزلتُ فألفيت نفسي في فضاء متسع مزروع بالحشيش الذي ترعاه الخيل.

وكان العنوان الذي سأذهب إليه (مسيو ريشارد) فسألت عنه بعض المارة وأشار إلى مدخنة يتصاعد منها الدخان، وتبعد عن المحطة بنحو ألف وخمسمائة متر. فسرت أحمل حقيبة طويلة كبيرة وكلما أوغلت قلت المناظر الخضراء ولاحت أراض جافة موحشة إلى أن وقفتُ أمام (براكه) كبيرة من الخشب وتحتوي على مقهى وأوتيل ومطعم وفيها يسكن العمال ويأكلون ويسمرون.

 استقبلتني فتاة سمراء نحيفة كأنها مريضه بالسل.  ولأول مرة أرى  هذا النوع من الفتيات. وعلمت بلا شك أني جئت للعمل فأخذت حقيبتي وأرشدتني للمكان الذي أنام فيه ثم إلى المكتب الذي سأقيد اسمي فيه.

 كنت مبتهجا بهذا اليسر المتواصل الذي يأخذ بعضه برقاب بعض.

 قيد الكاتب اسمي وأمرني بانتظار رئيس العمال (الكونتر ميتر). وجاء الكونتر ميتر وليس على وجهه أي أمارة من الرحمة أو اللطف فسألني:

 ماذا كنت تشتغلُ قبل اليوم؟

 واعترف أني وقعت في غلطة لا أنساها في حياتي، إذ قلت له (كنت صحفيًا) فأطرق في الأرض لحظه ثم قال:

 – اتبعني

معمل ريتشارد هذا عبارة عن معمل من خشب فيه أدوات النجارة والحدادة وفيه نحو 20 عاملا فنيا والعمل الذي يقومون به هو إصلاح مركبات البضائع التي يتعهد ريتشارد إصلاحها لشركه ب ل م المشهورة وبقيه العمال للأشغال الشاقة من حمل وجر وهلم جرا.

رأيت اللوحة المعلقة فيها النمر التي تدل على أرقام العمال،  وفيها نحو مائة وخمسين مسمارا. ولكن النمر المعلقة لا تزيد على السبعين، أعني أن السبعين يقومون في هذه اللحظة بالعمل في مكان  المائة وخمسين. فأدركت السر في قبولي أنا أو غيري بدون أوراق رسمية منظمة.

 وسرت خلف الرئيس نمر بين المركبات ومن تحتها ونتخطى أكوامًا من الفحم والرماد إلى أن وقف بي أمام زريبة محوطة علي كميات من الحديد الصادئ الذي تتألف منه أجزاء المركبات وفيها قطع من جميع الأشكال والأحجام فوق بعضها: الثقيل فوق الخفيف، والطويل تحت القصير.

 قال الكونتر ميتر: انضم إلى إخوانك!

وكانوا ثلاثة فأصبحت رابعهم. وفهمت أن عملنا هو فرز هذه الأشياء ووضع كل طائفة منها في مكان بعيد.

 ووقف  الرئيس لحظه ليفهمنا كيف نحمل. فالزمبلك الحديدي الذي يوضع في مقدمة ومؤخرة المركبة ليخفف عنها الضرر وقت الاصطدام والذي يبلغ وزنه 300 كيلو يكفي عند الرئيس أن يحمله رجلان بين أيديهم مادام له طرفان!

 وهناك كتل أخرى حديدية مكعبة أو مكورة يختلف وزن الواحدة   منها بين 15 و 30 كيلو لا يجوز حملها في نظر الرئيس بالواحدة لأن في هذا مضيعة للوقت! وذهب وعاد يحمل عودا مستطيلا من الحديد يبلغ ثلاثة أمتار وأمرنا أن نسلك فيه تلك القطع من الخروق المفتوحة في وسطها. وأجرى لنا المثال بنفسه فوضع في العمود نحو 10 قطع وكلفني أنا وآخر بحملها من الطرفين.

كنت أمر علي عمال آخرين وهم يدهنون المركبات بفرشة الدهان ويضحكون ويدخنون وكان في وسعي أن أقول للرئيس أنني كنت دهانا  فيقبلني كما قبلني دون أوراق رسمية ولكن لعنة الله على الصحافة.

ريتشارد يحاسب العمال علي فرنكين في الساعة. ويحاسب الشركة على أربع فرنكات وله في غير الأردواز معملان آخران لنفس العمل. ويقدر بعضهم ربحه بعشرة آلاف فرنك في اليوم.

أخبرني مهندس بولندي يقوم هناك بوظيفة كاتب، فقال:

في شركه ب ل م مهندسون إذا رأوا في المركبة أقل خدش أرسلوها لريتشارد فيسد خدشها ويجدد دهان أخشابها بالأحمر والأسود ثم يعيدها لكشف واحد لا تقل أرقامه عن 500 فرانك وقد تعود إليه المركبة نفسها بعد بضعه أيام وهذا أحد أسباب خسارة الشركة المذكورة  عشرات الملايين في العام وتساعدها الحكومة علي سد العجز.

صاحب المطعم والفندق ريفي جنوبي منتفخ البطن ضخم الجثة  طويل الشاربين، قدم لنا طنجرة كبيرة فيها ماء سائل تعوم فيه بعض القطع من السفانريه وقال:

ـ هاكم الحساء

ثم طنجرة من البطاطس المسلوقة مع كتل اللحم الكروية وقال:

ـ هاكم البوفتيك

يأخذ هذا الرجل من كل عامل في مقابل الأكل والشرب والنوم ما لا يقل عن ثلثي أجره اليومي. كانت الفائدة الوحيدة من هذه الشغلة هي الأوراق الرسمية التي أهجم بها علي كل مصنع بلا خوف ولا تردد.

أول يوم في باريس

الرجل الذي يدخل باريس ولا يملك غير ثلاثين فرنك يساوي بالضبط رجلا معدما لا يملك قوت يومه.

 عملت بمقهى يملكه مصري بقرب جامع باريس وقدرت انه (بورصة) توجد فيها المعلومات الكافية عن العمل والعمال.

 دخلتُ فأبصرت بين الجالسين مصريا أعرفه من مرسيليا وهو من فتيان بور سعيد، يحترف في فرنسا مهنة ترجمان رغما عن أنه أمي لا يحسن القراءة والكتابة. وقد عاش في فرنسا عشرين عاما وسمي نفسه فيليكس وهو أسمر دميم عليه شمائل الفعلة والزوافرية.

 فيليكس افتتح مطعم شرقيا بالحي اللاتيني بقرب السوربون مشتركا مع قهوجي يوناني. سمعته يشكو لصاحب القهوة شكوة طويلة عريضة قطعتها عليه بدخولي وتحياتي فاستأنفها وقصها علي من جديد قائلا :

 “لا نرى أكسل من المسلمين، احدهم يفضل المبيت بلا عشاء لكي لا يقوم مبكرا بعمل يقتات منه. مضي علي أسبوع وأنا أبحث عمن يساعدني في غسل الصحون وهو عمل لا يستلزم أكثر من ساعتين من الزمن وبأجر قدره خمسة عشر فرنكا مع تناول العشاء، فوجدتهم جميعا كسالى يعتزلون ويهربون. ووالله وتالله لولا ضيق الوقت لغسلتها بيدي ولا أبالي”.

 شعرتُ بأن الثلاثين فرنكا أمس خمسة وأربعين وهي تكفي بأجر أسبوع في اوتيل بسيط، وإن لم يتيسر العشاء بهذه الليلة فهو مضمون في الغد. فقلت لفيليكس:

 “سأكون عندك غدا ولكن أسعفني بالأجر مقدما، الساعة العاشرة صباحا نبدأ العمل.

 تفرغتُ أنا لإشعال النار لنسخن الماء اللازم لغسل الصحون والطناجير ووقف  هو يحمل الفراش الذي كان ينام عليه في الكوجين، وهو عبارة عن باب مخلوع يمده فوق صندوقين من صناديق السكر فارغين وفوقه عدة بطاطين من النوع العسكري. ووقف فيليكس مرتديا بدلته الأنيقة الوحيدة وهي التي سيقف بها في وسط المطعم عند الظهر لاستقبال الزبائن والنظر في مطالبهم.

 وفي هذه اللحظة دخل الطباخ وهو زنجي من السودان خفيف الظل .ثم دخلت امرأة بعده وهي شقراء ضخمة البدن فألقت نظرة عامه علي كل شئ أمامها وخرجت تفرك بيدها دون أن تتكلم كأنها متشائمة مما ترى.

 أشخاص منهم واحد طلب سفودا بمجرد دخوله ولم يتمهل نصف دقيقه حتى اخذ يدق بالسكين علي الصحون والأكواب ملحا في إحضار السفود الذي كان يشوى علي النار، وكنا نسمع صياحه من داخل الكوجين ونلتعه بالإجماع.

 لم نتناول غذاءنا بشهية، وهكذا كل الطباخين الذين يقفون أمام الأطعمة ساعات.

 أخبرني (معلمي) إنني حر إلى الساعة السادسة فانطلقت أتفرج على باريس بلهفة كأنه يوم الوداع فزرت كثيرا من مشاهدها متنقلا بين باطن الأرض وظهرها إلى أن حان موعد العمل.

قال اليوناني لفيليكس وهو يعد محصول المطعم بعد الوجبة المسائية:

 “كثير علي هذا الصانع خمسه عشر  فرنكا وفي استطاعتي استخدام فتاه بمائتي فرانك في الشهر”.

 وعليه فلقد تقرر فصل الصانع من اليوم الأول والأجر خالص كما تقدم.

عمل خفيف

جاء شهر نوفمبر فلاحت معه الأزمة التي ينتظرها العمال في كل شتاء إذ تنقل الأعمال إلى المعامل تحت الشمس كالبناء الدافئة ومما يزيد الأزمة قسوة أن المعامل تنتهز فرصة تكاثر العمال على أبوابها وبدلا من أن تأخذ قسما منهم تطرد قسما من عمالها الذين يعملون طول العام أو ترخص أجورهم أو تطيل ساعات العمل.

وقد بدأت صفوف العاطلين تقف وبدأوا يتسكعون في الطرقات ويلتفون حول ملصات المقاهي الرخيصة لشرب النبيذ والثرثرة.  وكما يشتد البؤس على العمال في كل شتاء تقوم من ناحية أخرى أفراح ومسرات وتعمر المراقص وتنظم الحفلات وتستعد الملاهي  أعظم استعداد.

ويرى الإنسان  هذين المظهرين في الفجر حيث تنفتح أبواب المترو ويصطف على الأرصفة صنفان من الناس احدهما الفقراء الذين استيقظوا لساعتهم  من نومهم للبحث عن العمل والآخرون في ملابس السهرة من سموكنج للرجال و مجرجر للنساء ينتظرون أيضا المترو ليأووا إلى  فراشهم.

في إحدى المقاهي  سمعت اثنين من إخواني العمال الجزائريين يتناقشان:

– لا يوجد عمل.

– العمل كثير. و الذي يبحث يجده.

– بحثت في جهة كذا وكذا وكيت وكيت فلم أوفق!

– لو توكلت على الله وبحثت بقلبك وعزمك لوجدت العمل تحت قدميك ولكن أحدكم يذهب متكاسلا يتثاءب ولا يقف إلا على أبواب الستروان و رينو وهاشيت، هل تريد أن تشتغل ؟

قال هذا وهو يجذب صاحبه من يده ولكنه جذبها منه واخذ يفتل سيقارة.

تقدمت أنا من الواعظ الشجاع ورجوته أن يقودني إلى  حيث أراد أن يقود صاحبه. فقام وهو واثق من إنجاز وعده وذهبنا إلى  مكتب قريب من القهوة لم أتصور انه معد لتشغيل العمال .

قال رئيس المكتب وكأنه فرح بقدومنا:

“يوجد اليوم عمل خفيف بأجرة أربعة فرنكات عن الساعة الواحدة ويمكن البدء فيه من صباح الغد و هاك تذكرة بعنوان المحل”.

وكان الرجل يتكلم بالأرقو الباريسي فلم افهم من كلامه نوع العمل وفي الحقيقة أن فرحي بالتذكرة ألهاني عن السؤال والاهتمام، وإنه عمل وكفى.

في الصباح وجدت الشغلة (مرمة)، فالمكان عبارة عن فضاء من الأرض قد أزيل ما عليه من الديار لإقامة ديار أخرى، والمراد الآن هو تشييد كشكين من الخشب ليكون أحدهما مكتبا للمهندسين و الآخر مخزنا لحفظ الأدوات.

وكنا سبعة أشخاص من العمالة، فينا خمسة من الأسبان وانقسمنا على العمل، فذهب اثنان لتفريغ كاميون مشحون بألواح من الخشب، وذهب اثنان يخلطان الأسمنت بالرمل وبقيت أنا انتظر قوالب الطوب الأحمر التي ينقلها عامل آخر بالبرويطة لأسلمها للبنَّاء الذي كان واقفا على جدار يبلغ ارتفاعه مترين.

قال البناء:

“خذ كل قالبين معا واقذفهما إلى أعلى في الهواء لاتلقفهما منك!

وهي  عملية رياضية تفيد الساعدين و الصدر ولكنها في البداية قطعة من العذاب. في اليوم الثاني كان عملي تحضير مقدار كبير من الجير وفي الثالث بناء المكتب والمخزن واجتمعنا جميعا على هضبة عظيمة من الأحجار لننقضها و ننقلها إلى  الكميونات، ويوجد في هذه الأحجار  ما يحتاج في حمله لأربعة أشخاص.

في مثل هذه الساعة يتنبه العمال إلى الزميل الذي لا يبذل مثل مجهودهم بينما يأخذ مثل أجرهم فيعلنون سخطهم عليه بلا مجاملة ولا رحمة. فلم ينته اليوم إلا وقد تبادلنا الشتائم بالفرنسية والأسبانية والعربية و فوق ما يضنينا من مشقة العمل.

وتمت بقية الأسبوع على هذا النحو إلى  أن حانت ساعة قبض الأجور.

كان الرئيس على جانب عظيم من اللطف والدماثة، اقترب منى على حدة وقال:

“يظهر أن هذا الوسط لا يصلح لمثلك وأنى لا امن عليك حسد زملائك وغيرتهم منك، لأنك لا تساويهم في العمل سأتركك هنا أسبوعا آخر إلى  أن تجد عملا غير هذا”.

قلت: بل استودعكم الله من هذه الساعة.

والرجل الغرير الذي لم ينغمس في كل أوساط الحياة.

فالاعتقاد الشائع هو أن الرجل الحسن الهيئة والملبس هو الذي يفوز بقلب المرأة،  ويحصل على اقرامها .وكثير من الرجال يتحاشى الظهور أمام امرأة وهو في ثوب قذر أو أسمال خلقة حتى لا تنفر منه . ولكننا في أثناء العمل ونحن بين رجل مغبر بالأسمنت والجير وبين رجل يربط سرواله المهندل بحبل وقدماه في حذاء من الخشب كذا، لا نعدم في كل لحظة فتيات من الأنيقات يقفن خلف (الدربوز) الذي يفصلنا عن الشارع ويقذفننا بالنكات اللطيفة ويتكرمن علينا بالابتسامات العذبة.

وكان أكثرنا حظوة عندهن فتى أسباني يعدى اسكندر ضئيل اسمر طويل الأنف يكاد لا يفتح عينيه من رمد مزمن. كان إذا داعبته فتاه من خلف الدربواز ترك الفأس ومسح عرقه بكمه فتختلف ألوان وجهه من أسود وأبيض وأحمر ثم يجيبها بفرنسية محطمة فيعلو ضحكها وتنصرف ثم لا تنسى زيارته مرة أخرى عند عودته.

تقول كاتبه انجليزية :

(لا نريد منك أيها الرجل أن تتأنق لنا وتزهي علينا بجمالك وثروتك ومختلف مزاياك. وإنما نريدُ أن تقتحمنا بنظرتك وتسلط علينا شعاع نفسك . ولا يعنينا بعد ذلك إن كنت دميما أو قذرا أو سافلا أو أصلع).

تربح تسعين فرنكا في اليوم

“تربح تسعين فرنكا في اليوم؟”

 بهذا بشرني رئيس مكتب العمل المختص بتشغيل الروس إذا ذهبت إلى ملاحة دى جارود الواقعة على شاطىء الأورال بقرب الحدود الأسبانية فلم يُمس الليل حتى كنت في تلك الملاحة.

 أبصرت العمال عائدين من جمع الملح على الدراجات وقد علق كل منهم في دراجته الجاروف وكيس الطعام.

 أمامنا طريقان للعمل. فإما أن ندخل مع عمال اليومية وقدرها أربعة عشر فرنكا في اليوم. وإما الالتحاق بالذين يخدمون بمجهودهم وهناك يربح العامل التسعين فرنكا … وهذا ما اخترناه.

 هؤلاء العمال الأحرار الذين يشتغلون بمجهودهم تتركهم الشركة التي تملك الملاحة ينامون في بيوت خشبية الواحد بجانب الأخر وعلى كل منهم أن يحضر فرشه كما يريد.

 اجتمع نحو ثلاثين عاملا في إحدى تلك البيوت كلهم من الروس. ومعظمهم يمتد بملابس العمل فوق المنصات الخشبية واضعا تحته شكارة أو كمية من القش الذي ينبت بكثرة وبأنواع مختلفة في شواطىء الملاحة.

 وكان البعض يشن الغارة على جنودنا بلا رحمة فخرج بعض العمال ليجمعوا نوعا من الحشيش اعتادوا جمعه وحرقه كل ليلة داخل البيت لطرد البعوض. بينما كان الباقي يتناولون عشاءهم ويخوضون في مختلف الشئون .

التفت إلي جارى الذي يتناول عشاءه وأمامه لتر من الشراب الأحمر، وبدأ يكلمني بالروسية. واستمر في حديثه مدة طويلة دون أن يعرف إن كنت أفهم ما يقول. وكان كلامه مصحوبا بإشارات غليظة وقيام وقعود .

ولما فرغت زجاجة الشراب تناول دلاعة كبيرة من جانب فراشة وفدخها بيده ثم مزقها أطرافا كأنها قطعة الخبز وجعل ينحتها فيغرق كل وجهه في القطعة ويسيل منة الماء كأنه يغتسل ثم استلقى على قفاه مستسلم للنوم وقد ترك بجانبه قشور الدلاعة وبقايا أخرى من الكناسة.

 أشعلوا النار فكاد الدخان يقضى على الآدميين قبل البعوض. فاقترح أحد العجائز أن نخرج إلى  أن تتم عمليه التبخير.

الليلة مشئومة من بدئها إلى  أن طلع الفجر .

المكانُ الذي يوجد فيه الملحُ عبارة عن فضاء متسع يتركون مياه البحر تغمره طول العام، ثم يحسرونها عنه في شهر أكتوبر فيجدون طبقة كثيفة من الملح تغطى فضاء واسعًا بلونها الأبيض الناصع وكأنها لاستوائها قطعة واحدة .

وقد قسمت الشركة هذه المساحة إلى  مربعات تبلغ مساحة الواحد منها عشرة أمتار مربعة. وعلى العامل أن يرفع الملح بالجارف ويجعله كومة عالية توطئة لحملها في العربات الحديدية ويتناول عن كل كومة 10 فرنكات.

قال رئيس العمال قبل أن يسلمني الجاروف:

“ارني يدك”.

ونظر إليها وضحك ضحكة ساخرة.

أخذت مربعا واحدا وحاولت تقليد جيراني الذين كانوا يجترفون طبقة الملح بسهولة كأنها رماد. ولكن الجاروف كان يأخذ مع الملح جانبا من الطين وفي هذه الحال لا تدفع الشركة أي أجر.

ووجدت اجتراف الملح بلا طين عملية أشق مما كنت أتصورها فكنت ألقي الجاروف في كل بضع دقائق، فانتصف النهار ولم يكمل ربع المربع وسرعان ما أبصرت تلك المساحات الواسعة المنبسطة قد استحالت إلى أكوام منظمة كأنها خيام معسكر هائل، وابتعد العمال إلى  جهات أخرى.

كدت أهلك عطشا ولعل للملح أثرا في هذا العطش . وقد كان بجانبنا عدة غلمان يحملون أباريق الماء لإسعاف العطشى ولا أجد منهم أحدا، إلى أن عثرت عليه على بعد كيلو متر. وبعد الشرب أردت الرجوع فلم اهتد للكومة، ثم لم أجدها إلا والشمس جانحة للغروب.

الموقف لا يتسع للحوقلة والأسف فإما إتمام الكومة وقبض عشر فرانكات وإما المبيت بلا عشاء. وقد بقى على الكومة أكثر من نصفها ولم يبق على انصراف الرئيس الذي يدفع الأجر في الحال أكثر من ساعة؟

 استنجدت بعجوز يبلغ الستين فاشترط أن يأخذ ثمانية فرانكات ويترك لي الباقي ولكنه بعد رجاء حار اكتفي بستة فرانكات وذهبت بالأربعة إلى البيت الخشبي فألقيت الجار الكريم وأمامه دلاعة أخرى. ولا تزال قشور الأولى في مكانها بجانب فراشه.

 مرسيليا

الأجانب الذين يزورون فرنسا لا يعرفون عن مرسيليا إلا القليل لأنهم يمكثون فيها بضع ساعات. أو أيام قليلة يمضونها كارهين. ولا يوجد عند الأجنبي الذي يمر بهذه المدينة فكرة حسنة عنها . فهي  عند ساحل مملوء بالأقذار والشرور كجميع السواحل والموانىء. غاية أهلها سحق كل أجنبي يمر منها وهذا الظن يقوم في ذهن الأجانب لأنهم يقيمون أثناء وجودهم بهذه المدينة في بقعة واحدة وهي  التي يوجد فيها الفنادق القريبة   من البحر ومكاتب السفر وقنصليات الدول وفيها تكثر السماسرة والتراجمة ووسطاء السوء والمحتالون، وفيها الكثير من المتاجر والمطاعم ومحلات الحجامة.

 وأصحاب هذه المحلات غايتهم الأولى صيد الأجانب وتفريغ جيوبهم وفيها الحي الأسود المخيف المسمى (فيوبور) الذي تعمره بضعة آلاف مومسة من أسفل طبقات العالم لكل واحدة خليل أو عدة أخلاء من الأشرار المجرمين وتشاهد فيها قطعانا من بحارة عدن والأفريقيين والأرمن واليونان يسرحون بالنهار متسكعين وفي الليل سكارى معربدين.

 وهذه هي كلها مرسيليا في نظر الأجنبي المسافر الذي لا يعرفها جيدا ولكن هناك تسعة أعشار المدينة لا يعرفها من المسافرين إلا القليل وكل مفتون بها مشيد بحسنها وبهجتها ومن هولاء المسافرين الرحالة المرحوم محمود رشاد بك صاحب كتاب مشاهد الممالك. كتب عن مرسيليا على صفحات جريدة الأهرام نيفا وثلاثين مقالا أي ما يعادل تقريبا كتابه كله عن الممالك التي ساح فيها.

 * * *

 أقمت في مرسيليا خمسة أعوام وكتبتُ عنها جادا وهازلا ولا أراني أسأم الكتابة عنها كلما مر ذكرها بخاطري وأحسب القراء لا يسأمون ما أكتبه.

 يعجبك من هذه المدينة شمسها الساطعة حتى في فصول الأمطار والزوابع ونسيمها الذي يلقح الجسم بالصحة والعافية. وتشعر بالازدياد في قواك الحيوية ورغبتك بالأكل والشرب وكل مشتهيات الحياة. وسكان المدينة جميعا يتمتعون بأبدان خصبة فارعة وعلى وجوههم ابتسامات البطر والتبجح. وقد كان الجنود المارسيلية أثناء الحرب العظمى في مقدمة الجيش الفرنسي وأول من قابل الألمان في ميدان القتال.

 أما نساؤها فعلي جانب وافر من الجمال الذي لا يرى من أي ناحية أخرى في فرنسا كلها. ويمتازون على جمال الوجوه بجمال الأبدان وليونتها التي تنبه كل كامن من الإحساس وتحرك كل ساكن من الشعور.

 والجمال يوجد هناك في الطبقات السفلى أكثر من غيرها وقد ترى في سوق الخضار فتاة تبيع السمك وفي وسطها طرف من الخيش (الشيكارة) تحزمت فوقها بحبل خشن وقدميها في حذاء من الخشب الغليظ. ولكن وسط هذه الأقذار يسطع وجه يُحبب إليك الخيش والحبال وناسج الخيش وزفر السمك والحبال وصياد السمك.

 وترى امرأة تبيع الفاكهة جالسة على صندوق من الخشب وأمامها أوعية من الفواكه والميزان العتيق الذي يحمل باليد وهي علي ما بجسمها من رزانة وامتلاء تتحرك كل جارحة فيها بحركات سالبة موجبة خافضة رافعة فتجد أنت نفسك مندفعا لديها ولا حاجه لك بالشراء. وتراها وهي تدس لك الفواكه الفاسدة وتسرقك في الميزان  وتغالطك في النقود ولا تجد ما تقوله لها غير الشكر والرضا.

 وقيامه الجمال الكبرى تقوم كل يوم من الساعة السادسة مساء إلى الثامنة حيث تخرج عاملات المحلات التجارية والموظفات في البنوك والشركات فيرينك الأمثلة العليا من الجمال الذي أبدعه الله، الجمال الصريح الذي لا دهان فيه ولا غش، والدلال الطبيعي الذي لا صناعة فيه ولا تكلف.

 وأكبر ممر تستطيع فيه استعراض هذه المخلوقات الفاتنة هو شارع (سان فريول) حيث يسيل جانباه بجيوش الظباء رائحات غاديات واقفات يتبادلن قبلات الوداع أو ينتظرن الأحباب والأصدقاء ولنساء كل إقليم شيء يميزهن، فنقول إن النورمانديه أو البريوطونيه يلاحظ فيها استطالة الوجه ودقة الأنف وصفرة الشعر والليونة بمرونة الخصر وجمال المشية وساكنات الألب برشاقة القامة ودعج العيون مع اللون الخمري المسكر، أما مرسيلتنا فقد وهبتها الطبيعة ردفا ضخما يهتز من أعلى  إلى أسفل متخالفا ويتلوى من اليمين إلى اليسار متعاطفا فيسير الجسد بلعبه فتجد النفوس في طلبه وفيه يقول أحد شعراء العرب:

ينتاب نسوة مرسليا إذا نهضت   لحاجة خصلتان :الوهن والكسل

إذ هُنَّ دون نساء الناس قاطبة        بثقل أردافهن يُضرب المثل

 ولكل مرسيلية مهما كانت نحافتها وبدانتها وعمرها وأصلها وفصلها ردفان من هذا النوع، فان وجدت امرأة لا ردف لها فاعلم إنها أجنبية عن المدينة، وإذا أردت أن يظهر عقلك تمتاما فاقصد في الصيف حمامات بحريه فهن هناك متجردات تماثيل من صنع المثال الأكبر سبحانه وتعالى.

 هذه منبطحة على وجهها تعبث بالرمال وتلك منحنية على طفلها تصلح له ملابسه وأخرى تتلالأ في صفحة الماء الزرقاء والناس جميعا على هذا الشاطىء متساوون في الإنسانية عراة الأجسام لاغني ولا فقير ولا عظيم ولا صغير، وأنت واحد منهم.

 حدث أن فتاة كانت واقفة في الماء لا يظهر إلا نصفها الأعلى،  وكان على مقربة منها فتي برونزي الجسم طويل القامة بارز العضلات، في وجهه الضامر غضون تدل علي الشراسة والقسوة، وقد تشعث شعرة المبلل فزاده خشونة وجهامة وجعل ينظر إليها نظرة صريحة، ونكصت راجعة إلى الشاطىء وعندئذ ظهر نصفها الأسفل الذي كان يحجبه الماء، فرأى الفتى تلك الموهبة المرسيلية فتبعها إلى الشاطىء وأخذ مجلسه قريبا منها، وبدأت هي تتقلب على الرمال بأشكال مختلفة، وهو جالس أمامها كالهر، ومازال بها حتى كلمها. وقام الاثنان إلى الماء وسبحا حتى بعدا عن باقي الأجسام، وإذا كان الرجل والمرأة يحسنان السباحة فهناك خير عظيم. وقد احتجب جسداهما في الماء ولم يظهر غير رأسين، وقد تقابل الرأسان ولا يلزمك من الذكاء لتقول وتقابل أيضا الجسدان. ومكثا برهة طويلة لا يتحركان . فماذا يفعلان؟ قل الله أعلم.

 وقد خرجا من الماء وجففا الأجساد بحرارة الشمس فرجع النشاط إلى السباحة. فرجعا إلى الماء وهكذا إلى أن انقضي يومهما وغابت الشمس فتواعدا على اللقاء خارج الحمام، وخرجت الفتاة في ثوب من الحرير الأزرق وتحيط بوجهها الوردي قبعة شمسية بيضاء، وتحت إبطها الحقيبة السوداء الفخمة التي تحوي أدوات الاستحمام.

 وبينما هي واقفة تنظر في ساعتها المحيطة بمعصمها الرخص إذا دنا منها شخص في بدلة قديمة من القماش الأزرق الذي يرتديه العمال وعلى ركبته رقعه كبيرة في بنطلونه مساحتها150ملم مربع على الأقل وعلي رأسه شاشي جزائري قصرها ابيض اجرب وسورها احمر على أصله وحافتها سوداء مزنخه لامعة فانخلع قلبها ووضعت يدها علي فمها وقفزت إلى الترام.

 شارع كنابيير هو شارع مرسيليا الأكبر وبه يفخر المرسيليون علي باريس، ولا يبلغ طوله نصف كيلو متر ولكنه مع ذلك يقسم إلى ثلاثة أقسام كلا منها قسم. وهو يبدأ من الكنيسة لاريفورم وينتهي إلى البحر ومنه تمر المواكب الرسمية في الأعياد وتكثر فيه حركة المرور في كل وقت لأنه صرة المدينة وملتقي شرايينها.

 ويمكنك أن تجعل أي شارع فاصلا بين حسنات مرسيليا وسيئاتها، فإذا وقفت فيه موليا وجهك شطر الكنيسة وظهرك للبحر رأيت المدينة قسمين الأيمن يحتوي علي مبانيها الجميلة  وشوارعها الواسعة وأحيائها الفخمة الآهلة بقران العائلات الفرنسية وتسير فيها ولا يقع نظرك إلا علي كل شئ جميل بالمباني والمخلوقات.

 واغدر عند بصرك أو فدع قلبك يتمزق القسم الشمالي يجب ألا تضع فيه قدمك إلا وقت السفر لأن فيه المحطة وهو الذي يبغض مرسيليا إلى كل من يمر بها من الأجانب. وكان في حي مضيق بين شارع كنابيير ودار البوسطه يصل فيه منزل واحد إلا وهو متداعي السقوط مدعم بالأخشاب وفيه يقيم الأشرار العتاق بالمئات ويحتلون منازله بلا أجر وقد هدمتها الحكومة أخيرا ولم يبق منها وكان هولاء الأشرار ينقضون علي فريستهم حتى في شارع كنابيير.

لا أنسى رجلا عجميا يعمل بحارا في إحدى السفن وسلمه رئيسه مرتبه ومرتب إخوانه وجملة ذلك عشرة آلاف فرنك، ونزل من الباخرة ليبحث عن إخوانه في المقاهي ولكن حل له المرور علي المقاهي والحانات التي يغرم بصحبتها واخذ يتناول مطحن من البيرة وكأسا من الروم ويخرج الرزمة ويدفع منها الورقة الكبيرة بعظمة واستقراطية وأصحابه يتبعونه من بار إلى بار، حتى دخل شارع كنابيير وأمام دار البورصة ضربه أحدهم على أذنه وأعقبه الثاني بأسنانه بينما كان الثالث يستل رزمه الأوراق وانتهت العملية في ثوان.

  ونوع آخر منهم يقف علي أبواب المواقف الليلية ينتظر خروج ذلك الذي دخل ينفق مئات الجنيهات حتى إذا خرج وابتعد قليلا عن الباب استوقفوه وناقشوا نظام هذا العالم المعكوس وعن القدرة التي قسمت حظوظ الناس إما الدفع أو الضرب.

 وفي إحدى الليالي اقتحم رهط من المجمعين واقتسم الساعة الثالثة صباحا شايلين المسدسات وآمرين كل من هناك رفع أيديهم وجردوهم رجالا ونساء من كل ما يملكونه، ومثل هذه الحادثة يتحاشى صاحب المحل إبلاغ البوليس أو الصحف لأنه يؤذيه ولا ينفعه.

 وبوليس مرسيليا ظريف إلى حد بعيد، ورجاله لا يمرون في الأحياء الخطيرة إلا مجتمعين وقلما يضبطون مجرما وقد تكون المعركة في شارع كنابيير هذا ويتصايح فيه المتشردون ويلعلع الرصاص وجماعة البوليس مجتمعون تحت جدران الكنيسة يتسامرون ويدخنون إلا أن هذا النقص يعوضه البوليس السري، ولا تقع حادثة إجرام إلا ويكون المجرمون مقيدين بالسلاسل.

 شاهدت في نصف الليل ثلاث سيدات وقفن في انتظار الترام الخارج الضواحي، وأمام هذا الموقف كان على وشك الاقتراب فاقترب غلام ببدله زرقاء من إحدى السيدات، واختطف حقيبتها وهرب. وما كادت السيدة تصيح حتى خرج من قهوة شخصان طلبا من السيدة الانتظار قليلا. وأخذا سيارة وعادا بعد قليل والغلام معهم.

 الجردان جولوجيك كانت قصر نابليون الثاني وتحولت إلى متحف طبيعي وقد جعله التراجمة والسماسرة ضمن برنامجهم يقودون إليه المسافرين. وكانت الوفود القادمة من سوريا بقصد السفر إلى أمريكا لا تنسى زيارة المتحف هذا كنت علي مقربه الجماعة منهم جاءوا بندا بلادهم وجعلوا عليهم رئيسا وهو فصيحهم الذي يرشدهم إلى كل شئ ودخلوا قسم الحيوانات البحرية وفيه المحارات النادرة والأعشاب الغريبة وجميع وسائل الأسماك و الرئيس كان  يتقدمهم وهو يقول هذا عنب البحر وهذا قرنب البحر وهذا شوفلير البحر وهذا مشماش البحر والتفت و رأى مجموعه من العقارب التونسية فقال هذه خنافس مصر و رأى هيكل عظمي لأحد الفيلة المنقرضة فأشار إليه وقال عرفت كل شئ هنا إلا هذا الجمل

 انتظر الناس مسرات الشتاء كما ينتظرون مسرات الصيف وقد مرت بك حمامات الصيف وشواطئها أما الشتاء فهو موسم المراقص والملاهي وإذا حرم العشاق من الاختلاء وقت النهار علي الشواطئ في الغابات الكثيفة فلا يحرمون من الملاقاة في الظلام الذي يستوي علي فرنسا بعد الساعة الخامسة في هذا الفاصل و تخرج الفتيات والفتيان الساعة السابعة وتجتمع كل عاشقة بحبيبها وكل عروس بخطيبها وتنقلب الشوارع إلى مهرجانات تسير فيها مواكب الأعراس تحت الأنوار الساطعة ولا يبقي ركن مظلم أو بابا مغلقا أو زنقة مقفولة الأوازيه قيد اثنان متشابكان متبادلان حلاوة القبل والعناق كأكثر العائلات يسكن الضواحي البعيدة وقد يمشين بعد انتهاء خط الترام علي أقدامهن مسافة طويلة بين أسوار ومزارع ومخازن وحدائق وما أحوج الفتاة في هذه الساعة تحتاج إلى  من يؤنسها في هذا الظلام . والسائر هناك لابد أن يسمع بين خطوة وأخرى آهات وضحكات تترنح لها أغصان الشجر وترق القلوب والحسن عند القوم إنهم يسيرون أمام هذه المناظر ولا يوجد فيهم من يتفوضل ويتدخل فيما لا يعنيه بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل البوليس نفسه لا يفعلها

شكا إلى  احد الشرقيين الذين يدرسون في كلية التجارة إنه أراد دخول المنزل الذي يسكنه في نحو الساعة التاسعة فوجد على الباب المغلق رجلا غليظ الأعضاء قد زنق الفتاة في ركن الباب ووضع مظلته وأشياء أخرى كان يحملها في الركن الآخر وتقدم الطالب ليفتح الباب فنهره الرجل بفضاضة وامره بالابتعاد حالا فلم يسع صاحبنا غير الامتثال والانتظار وبعد أن فرغ هذا الذي سد الباب تقدم إلى  الطالب فوجد سحنته أجنبية فقال

تعلم الأدب أيها القذر وكن ألطف مما أنت

وهناك مناظر تغيظ الأجنبي والفرنسي معا وذلك منظر الفتاة الجنوبية الدعجاء النحيلة الخص العظيمة الرجف تفوح من ارضانها الفاخرة أغلى العطور وساعدها الفضى يتأبطة صعلوك تميل كاسكيتتة على اذنه ويخطر في بدلة ذات خمسين لونا من الشمس والظل والمطر والغبار :وبالجملة يوجد في مرسيليا ألوف من الشبان صناعتهم التسلط على النساء والشاب المارسيلى يعادل قرينته بالقوة والجمال ويمتاز على باقي الشبان في فرنسا بالثقافة والمرح والاستهتار مع شىء من البساطة وربما كان للشاب الواحد جملة فتيات يتنقل من هذه إلى  تلك

جائنى الطالب الذي مر ذكرة يشكو إلى  مرة أخرى قال

مازلت اعمل كل ما في وسعى لا خالط صميم العائلات المرسيلية وقررت البحث عن العائلة التي تقبل أجنبيا عندها فوجدت معظم هذه العائلات عجائز اخنى عليهن الدهر وفتحن بيوتهن بانسيونات إلى  أن عثرت على عنوان منزل في صميم المدينة وفتحت لي الباب سيدة في الخمسين يكلل شعرها الشيب ولكن عليها مسحة من السماحة والوقار ولما دخلت مسكنها وجدته فخم الرياش والأثاث وارشدتنى إلى  الغرفة المعروضة للإيجار فإذا وهيا مقبولة وكان عندها في تلك الساعة عدد من الفتيات جالسات أمام البيانو فقدمت لي أولا واحدة منهن وهي ابنتها ثم الثانية وهي معلمة الموسيقي ثم الثالثة وهي ضيفة فقبلت للسكن عندهن بلا قيد ولا شرط وجلست لأول مرة على المائدة مع عائلة كريمة وكان اغتباطى عظيما بجلوسي أمام الفتاة وأمها  وأخيها الصغير وشعرت في نفسي بتغير محسوس أتكلم بمقدار وأتحرك بمقدار واجتهد أن يراني الجماعة أحسن شاب على وجه الأرض وكان فرحى عظيما عندما قبل الجماعة دعوتي إلى  السينما  وتوجهنا جميعا وذراع الفتاة تحت ابطي وبعد أسابيع سمعت تعريضا من الأم بشىء اسمه الزواج فوالله قد صادفت الفكرة قبولا في نفسي وصممت على تنفيذها مما كنت أراه  من نظرات الفتاة ومعاملتها لي ومما حببها إلى  إنني دخلت المنزل فوجدتها فيه لوحدها وفي يدها احد قمصاني تكتب عليه اسمي بنقش جميل فهويت على يدها وقبلتها فارتعشت فأردت أن اصنع قبلة أخرى على خدها فدفعتني بحدة وقد حاولت قبلات أخرى فأخفقت ولقيت المقاومة والتجهم وكنت كلما ابتعدت عنها عادت إلى  ابتسامتها وهذا ما رغبها إلى  وعظمها في عيني وفي احد الأيام وجدت على المائدة شخصا من بحارة السفن بملابسه الزرقاء وليس في جسمه جارحة إلا ويصح وصفها بأنها كرة عيناه جاحظتان مقببتان وانفه مكور وشفتاه كذلك وكل من وجنتيه في ضخامة البطيخ وقد صبغته الشمس نصف زنجي فقدمتنا صاحبة البيت لبعضنا فلما مددت يدي إليه شعرت بأنني أصافح احد عظماء الدنيا والباخرة التي أتت بهذا الشاب ستقيم بمرسيليا عدة أسابيع لإصلاح خلل فيها ثم تستأنف رحلتها إلى  الشرق الأقصى وقد حمل صاحبنا عدة هدايا لأهل المنزل منها عقد من اللؤلؤ الصاغي يساوي عشرة فرنكات ثم كمية من علب المحفوظات مختلفة الأنواع يظهر إنه جاء بها من مخزن الباخرة وفي ذلك اليوم سقطت اسعاري في بورصة الغرام وكانت كل ابتسامات وأنواع الملاطفة متجهة إلى  هذا الضيف الجديد وفي العشاء كانت المائدة أنيقة فوق العادة وقد ارتدى الفتى ملابس المدنية وجلس على الأكل بقبعته التي اشتراها ليومه وكان ينشد بصوته الأجش أناشيد قديمة ويدق بكلتا يديه على المائدة فترتج الأكواب والصحاف كل هذا كان حسنا منه في نظر الفتاة وأمها وبعد الأكل قدم إلى  الفتاة سيجارة فدخنتها لأول مرة أراها وأثناء التدخين ساد المجلس سكون غريب لا عهد لنا به الأم مالت رقبتها على صدرها والنعاس يغالبها والفتاة جعلت تبادل الفتى نظرات خفية فرأيت إن وجودي فضول فقمت إلى  غرفتي الخاصة وكان بابها مقابلا لباب حجرة الأكل فرأيت العجوز قد قامت لغرفة نومها وتركت ابنتها مع البحار وقامت الفتاة و اطفأت النور وذهبت إلى  المطبخ وهوا يتبعها وبعد دقيقة واحدة سمعت الطاولة التي في المطبخ تصطدم في الحائط صدمات متواليات وبصفتي اعرف هندسة المطبخ وتفاصيله استطعت أن أدرك أنهما جعلا هذه الطاولة فراشا أو شبه فراش ومع هذه الاصطدامات كنت اسمع آهات عالية

وبعد ذلك خرج الفتى على أطراف اصابعه وأصبح الصباح والأم تحييني كالعادة والفتاة مثلها نعم بل واستمرت الأم تخاطبني في موضوع الزواج من ابنتها وكان جوابي

سيدتي إن غرفتك ستكون حرة في آخر هذا الشهر لأنني مضطر للسفر إلى  باريس

فقالت لمحدثي لو كان هذا البحار في مكانك وكنت أنت الذي تواصل الفتاة في المطبخ ما تجسس على لتمت الخطبة بسلام ولأصبح زوجها المفدى وبعد الموكر ولكنكم معشر الشرقيين خبثاء وهذا الخبث هوا الذي ينفعكم الآن

حادثت شابا خرج من الدكتوراة في احد كليات ليون ثم أعجبته المعيشة هناك فأقام فيها نهائيا قال

كم كنت في شوق وأنا في الشرق عندما اسمع  حديثا عن فرنسا يقول الرائحون والغادون انك تمشي في الشوارع وتمد يدك إلى  من تعجبك من النساء وتنتزعها ولو في يد زوجها فلما جئت إلى  هذه المدينة (ليون)ووضعت حقائبي في اوتيل وغسلت وجهي  وبدلت ملابسي ونزلت في الشوارع على رغبة أن انتزع المرأة   التي تعجبني وكنت انظر إلى  النساء بشراهة وبلاهة وهن يتضاحكن من شكلي ومعظم الجميلات كن مصحوبات برجال ولاح لي أن اخذ المرأة   من رجلها ولكن  ليس بالسهل فكنت اجل هذا السطو إلى  أن اعرف الأحوال تماما وقصدت الوحيدات وكلما دنوت من واحدة أبدت النفور والاشمئزاز على أنني لم أجد رجلا واحدا يمشي خلف امرأة  ويرمى عليها كلمات الغزل كما هوا مشهور في الشرق وإذا تبين لي إن الوحيدات أصعب من غيرهن وأين إذن السرور المزعوم عن هذه البلاد ؟

أخيرا رأيت امرأة تسير أمامي وتلتفت لي مرارا ولم أكن اعرف من الفرنسية كلمة واحدة فتتبعتها وهي تسحبني من شارع إلى  آخر حتى دخلت احد الفنادق وأغلقت علينا باب الحجرة كل هذا وأنا في استسلامي اللذيذ واشعر إن أحلامي في الشرق تتحقق عيانا

ولكن السيدة بعد أن نزعت ملابسها أشارت لي بأطراف أصابعها تريد النقود فأخرجت ما في جيبي على يدي فاختارت قطعة ذهبية ذات عشرين فرنك وانتهي  الأمر

قال وهو يلوح لي إن إتباع المرأة   في الطريق والكلام معها مألوف في مدينة القاهرة أكثر مما هو مألوف في فرنسا ولكن الرواة لهم التهويل والتشنيع

هذا الصنف الذي يأتي من الشرق وفي راسه هذه الفكرة تشاهده كثيرا في مرسيليا مزدحما قدام الأجانب وبعضهم يبقي بطربوشه وشاشيته ليلفت إليه الأنظار وهو في الحقيقة يصرف الأنظار عنه وكم تشاهد مواقف الترموايات وأبواب المخازن التجارية احد هؤلاء واقفا ويده اليسرى في جيب بنطلونه يعبث بما يعبث وعيناه تحملقان في وجوه الفتيات كأنه ينتظر إشارة من أحداهن إلى  أن تعثر فيه إحدى المومسات فتتصيده بدلا من ان يتصديها

لفت أنظار أهل مرسيليا على مدى أسبوعين كاملين ظابطا سوريا من جيش الملك فيصل عندما كان ملكا على سوريا وكان يمشي كولونيل  وعلى راسه طربوش أنيق ويحمل في يده كرباجا مختما بالفضة والذهب وكان يمشي عاقدا يديه خلف ظهره مصعرا خده لا ينظر إلى  شىء إلا لشاربيه المفتلوين إلى  فوق يكادان يطرفان عينيه وكانت الناس تقف لتتفرج عليه حتى يغيب عن الأبصار ولكن شكله هذا ابعد عنه النساء والرجال معا فرأى أن يكون أحسن من ذلك.اشترى جواد مطهما من الجياد الثمينة واشترى شجرة ورد طولها متر ونصف على الأقل مزينة بنصف زينة من الورد وركب الجواد ومسك لجامه بيمينه وقبض بيساره على جزء من الشجرة ووضعها على خاصرته تدلى مع كفل الجواد وزنبة وسار بجواده في الساعة السادسة في شارع سان فريون يهب به الجواد ويعنقه ومنظر مثل هذا المنظر لا يرى في أي  مدينة في فرنسا فكان الناس يزفونه بالضحك والصفير والرعاع ينادونه يا باشا يا باشا وهو يزرع الشارع ذهابا وإيابا إلى  الساعة الثامنة والظاهر إن هذه النزهة كانت نزهة الوداع من مرسيليا لأنه لم يظهر بعدها

وكان يتفنن الأغراب الذين يدخلون فرنسا وهم يحلمون بنسائها

في احد الأحياء المنعزلة في احد البيوت المفروشة وبعد أسابيع اكتشفوا إحدى أزقة هذا الحي حانة تقف فيها فتاه تمثل الجمال المرسيلي في أعلى  درجاته  ومثلها لو كان في باريس لسجد لها مصور مونباريناس وومومارتر لكانت صورتها في اللوفر اولكسمبورج والحانة ضيقه لا يوجد بها غير طاولتين وبضعة كراسي جلست أمام الفتاه علي احدي الطاولتين تشتغي بابرتها بينما الفتاه لا تنقطع عن ملئ الأقداح لجيوش الشاربين الذين إذا شرب أحدهما كأسا ثناها وثلثها يطيل النظر لهذه الدمية

دخل المصري هذه الحانة مرات فوجد لنفسه بائعا بين غمار الواقفين علي الكونتوار فكان يأخذ القدح من البيرة ويدفع الخمسة فرانكات ويخرج وأراد أن يثبت لأصحاب المحل انه جارهم المقرب .فخرج من مسكنه في بيجامة من الأستكرودة ودخل الحانة علي هذه الصورة وطلب زجاجة من الشامبانيا وحانة كهذه لاتبيع هذا النوع من الشراب الغالبي فاشتراها له أم فتاة من احد المخازن الخمر وبعد فتحها وقبض ثمنها رجته أن ينصرف ولا يمكث عندهم بهذا الزي فغضب وانقطع عن زيارتهم ومثل هذا النوع الغاضب يجد في أي بقعه من مرسيليا مئات من هذه الفتاة التي دلعته واللذة هناك بنت وقتها فمن عثر على شئ لهي به عن غيره لاكما قال الشاعر :

وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا

لقبلك يوما انعبتك المناظر

رأيت الذي لاكله أنت قادر

عليه ولا عن بعضه انت صابر

كنا نفهم إن الثورة الفرنسية ضعضعت كاهن الكنيسة أو نادت بسقوط الدين  والحقيقة إنها بعد ان تأثرت السلطة الزمنية لم تهدم كنيسة واحدة لم تمنع أي إنسان  عن تأدية صلاته والكنائس إلى الآن عامرة بالمصلين والقائمين عليها في حاله طيبة ورغد من العيش ولا يزال سلطانهم الروحي يحكم حتى عقول الناشئة المثقفة

في مرسيليا عشرات من الكنائس وأهمها الكاديرال القائمة علي الشاطئ تشمخ جلالا بقبابها متعددة الأحجام وهي أول شئ يبدو للمسافرين القادم علي الباخرة تقام احتفالات دينية  كالتي تشترك فيها الحكومة الرسمية وتعيد جاندرك والميلاد وبنائها علي شبه من البيزنطية الفخورة .وزوارها السواح المتفرجون أكثر من زوارها المتعبدون لبعدها عن وسط المدينة ثم كنيسة نوتردام المنصوبة على قمة رابية اندوم وتشرف على المدينة كلها ومن أعلاها وقف تمثال العذراء مغشى بالذهب يلمع في وهج الشمس ويصعد إليها بترام يمشى ملتويا حول جسم هذه الهضبة حتى يصل إليها وهي  أعجوبة في جمال صناعة البناء والنحت والنقش ثم كنيسة ريفورم وهي  وسط غمار المدينة وأحيائها العامرة ويقوم عليها برجان كل منهما على هيئة زاوية حادة تنتهي  بحربه تناغى السماء وفوقها الصليب وتعد احفل الكنائس بالمصلين وفي ليلة الميلاد يكاد يدخلها في كل من في مرسيليا لشهرة خطبائها ومنشديها وحسن أنغامها

والكنائس أمكنة صالحة لدرس نفسية الشعب وأخلاقه ففي أي ملهى  أو مرقص يستطيع الرجل او المرأة   في مرسيليا الدخول بما يتفق من الملابس والعامل بكاسكيتته القذرة والبائعة بفوطتها على وسطها ولكن إذا جاء يوم الأحد لبس كل هؤلاء أحسن ما عندهم وقصدوا الكنيسة في وقار وخشوع ويملأونها جالسين وواقفين والقسس على اختلاف مرتبهم على الهيكل يروحون ويغدون ساحبين ذيول أرديتهم الحمراء المذهبة والراهبات غارقات في ملاحفهن الزرقاء تحيط بوجوههن الهالات البيضاء

واقفات صفا يرتلن الصلوات بأصوات خاشعة تمازجها نغمات الأرغن والمصلون في خشوع بين واقف يداه على صدره أو راكعة على ركبتيها تتمتم بصلواتها ولا تسمع من هذه الألوف أي صوت غير صوت النقود ترن في صينية القسيس وهو يقول بصوته الضعيف ( اخلف الله عليك ) وتتصفح وجوه المصلين فلا تلاحظ بينها وجوه أولئك الأشرار المجرمين الذين يعيشون فسادا في المدينة ولا يزال أهل الصلاح في كل دين ومله يعرفون بسيماهم ..

والفتيات ..؟ الفتيات الصالحات يدخلن زرافات في أحسن هيئة وافخر ملبس ويلاحظ إنهن لا يطلن المكث وقد يكون مجيئهن لموعد أكثر مما هو للعبادة وشاعرنا الأخطل النصراني يقول

أن من يدخل الكنيسة يوما          يلق فيها جاذرا وظباء

وفي الكنيسة يكون للجمال وقع شديد في النفس والغرام حرارة مضاعفة في القلب ولتبادل النظرات معنى غير معناها في القهوة أو الطريق لان جو الكنيسة يسوده الوقار و الحشمة والاحترام وكل هذا من موجبات الأغراء واذكر إنني  قرأت في بعض الصحف هذا الإعلان ( فتاه عمرها 19 عاما من عائلة محترمة تريد التعرف على  شاب لتذهب معه إلى  الكنيسة … خاطب عنوان … ) وكان بجانبي طالب قبطي فأعطيته نسخة الجريدة فقام من فوره وكاتب الفتاه وبعد أيام جاءني يقول

– اقسم لك بالله إنني لم ادخل الكنائس مرة واحدة في حياتي إلا اليوم كاتبت صاحبة الإعلان وتقابلنا فإذا هي  فوق ما يصف الواصفون وأعلنت لها رغبتي الحارة في المواظبة على الصلاة لاسيما يوم الأحد و دخلنا الكنيسة فسبقتني إلى  الحوض المقدس وغمست أصابعها في الماء وأدت عملية الصليب لكنني اجهل هذه العملية تماما فأرشدتني إليها فلم أحسنها إلا بعد عدة مرات حتى خشيت أن يكون ذلك سببا في نفورها منى ولكننا خرجنا من الكنيسة إلى  ذلك البار الفخم وشرب كل منا قدحين من البرنو وموعدنا للغداء الأحد القادم ولكن في غير الكنيسة ..

ولا يفهم من هذا وشبهه إن الكنيسة دار غرام وهيام بل هي  لا تزال دار عباده وخشوع وعلم الله أن قساوستها لا يقصرون في القيام بما يوجبه عليهم دينهم نحو الجمهور فهم متصلون اتصالا مستمرا بشئون الحياة و خطبهم تدور على محور هذا الاتصال  فليست خطبة القسيس محفوظة يكررها من خمسمائة عام وإنما هي  كلمة اليوم ومشكلة الساعة ناهيك عن أساليبهم في الوعظ و الإقناع والمجهودات التي يبذلونها في تحصيل العلوم العالية فالكثير منهم بارزون في علوم الفلك و الكيمياء والفلسفة واللاهوت وتدريس اللغات الميتة وما شئت من فضل لا ينكر وبراعة لا تجحد وليسوا في مجموعهم جماعة من الناس تريد العيش الهنئ وقبض المرتبات والنوم على الفراش الوثير ومد الأيدي للناس لتقبيلها وكل هذا باسم الدين وربما كان هذا شانهم في الماضي أما في الحاضر فإنهم يعطون أكثر مما يأخذون

ولا تخلو الكنائس من مناظر مضحكة وتعقد فيها حفلات والأعراس لطبقة العمال والفعلة حيث يأتي هؤلاء بملابس الفراك والسموكنج والقبعات العالية يستأجرونها من محل خاص ولا تكاد توجد فيها بدله واحدة موافقة لجسم لابسها وكأن البدلة تبرأ من وجهه المشقق  المحروق في الشمس ويديه اللتين نقشتهما قبضة المطرقة والفأس والجاروف ويقف المتفرجون يفحصونهم ويتغامزون عليهم بالنكات اللاذعة .

لا ادري بالظبط بكم عيد تحتفل الأمة الفرنسية في العام وتعطل أعمالها وتستريح وأقول إن أعيادهم السنوية تقرب من العشرين منها ما هو ديني كجاندارك والقيامة ومنها ما هو غير ذلك كعيد الهدنة و 14 يوليو وغيرها ويلاحظ أن هذا الشعب بقدر ميله للعمل ونشاطه للاشتغال يأخذ أيضا نصيبه الوافر من المرح والسرور والأعياد في الغالب تظهر بمظاهر بهجة حيث تنصب فيها الألعاب والأراجيح والمزلقانات وتشاد الأبنية اللوناباركية وتعقد حفلات الرقص وتتجلى الديموقراطية  بأجلى معانيها وترقص جميع الطبقات مع بعضها رقصا مباحا لا حرج فيه ولا عيب واهم هذه الأعياد عيد الكرنفال الذي يقام في ايكس ان بروفنس القريبة من مرسيليا وهذه القرية تعد الثانية التي تقام فيها اكبر مهرجان للكرنفال بعد مدينة نيس ويمضى هذا اليوم في ضحك ولعب وقلما يحدث فيه ما يكدر الخاطر شأن القوم في أعيادهم وترى البوليس يشترك بلطف مع المحتفلين ان لم يكونوا في حاجة إلى  من يرشدهم إلى  النظام اكتب هذا عن حفلة تسمى حفلة الكرنفال واذكر ما في بلاد الشرق من الحفلات ولا الكرنفالية بل الدينية و كيف يضطرب فيها النظام والأمن  والراحة ويجتمع والرعاع كتلة متراصة ولا تمشى إلى  الأمام ولا إلى  الخلف وصخبهم يشق عنان السماء ولا يسلم من أيديهم ولا من ألسنتهم كل امرأة  تمر وحتى بعض الرجال …

بينما البوليس لا يشرف هذه الاحتفالات بوجوده إلا في آخر لحظة وذلك بعد حدوث المعارك الدموية ووقوع  السرقات وبعد أن يكون الأجانب شبعوا من الفرجة على فوضى الشرقيين وأخلاقهم في مجتمعاتهم

نعود إلى  مرسيليا وبعد أن يكون الأجانب شبعوا من الفرجة على فوضى الشرقيين واخلاقهم في مجتمعاتهم

نعود إلى  مرسيليا ففي عيد 14 يوليو تقام في كل حي منصة عليها جوقة موسيقية تقدمها البلدية هدية للحى وتعزف ثلاث ليال متوالية والجمهور يرقص على نغماتها إلى  ساعة متأخرة من الليل ويا لهول الناظر إلى  أجسام المرسيليات وهن قاماتهن وتلتوي خصورهن وترتج إردافهن وتختلف أقدامهن وسوقهن أما الجنس الخشن الذي يراقص هذه المخلوقات

فمعظمه من صيادي الأسماك والفعلة العمال الذي يرقصون بملابسهم الزرقاء وعلى أعناقهم المناديل الحمراء والكاسكيتات تحجب الجزء الأعلى من وجوههم وفي هذه الجموع المختلطة لا يسأل زيد عن عمرو ولا يهتم احد إلا بحبيبته التي يختارها بعد أن يراقص العشرات ويذهب بها إلى  أي شارع قريب من ميدان الرقص

والمكان المعد للرقص يحاط عادة بعيدان من الخشب يجتمع الناس خارجها ويقفون متكدسين طبقات فوقها فوق بعض ومع ذلك لا يحدث إلا كل ما يسر الخاطر ألا أن امرأة    تقيس عرض ظهرها بالمتر كانت متكئة على الحاجز الخشبي الذي يدور بالمرقص وخلفها رجل مراكشي اسمر البشرة فقالت له المرأة   بعد ان أعياها أمره

– ابتعد  عنى فقد أشعلتني بحرارتك ..

وحادثة أخرى من هذا القبيل جرت بين فرنسية وفرنسي وكانت الأولى امرأة  عظيمة الردف ولكن عليها ثياب قذرة وعلى وجهها ملامح الشراسة التفتت فوجدت خلفها شاب أحول النظر قذر الثياب فوبخته فانبرى يشتمها بأقبح الألفاظ واكلها قبل أن تأكله

وفي مرسيليا تكون بهجة الرقص في هذا العيد حسب الحي ففي فيوبور الذي أخبرتك عن شروره في الأعداد السابقة ترى كل ما يحزن الخاطر ويكدر الناظر وتذهب إلى  ميدان كاستيلان الفخم فتبدو لك الرقة و الوجاهة والوجوه السمحة والعادة إن الراقص يختار إحدى الواقفات فتجيبه أو ترده بلطف ولكن في الأحياء القذرة لا ينتظر من يطلب الرقص مرسيليا معرضها لاذعة أو إشارة قبيحة ومن أحسن مزدحمات مع امرأة إلا كلمة السنوي الذي يعرض فيه مجهودها الصناعي والتجاري ويظهر فيه المرسيليون بملابسهم النظيفة وأزيائهم المحسنة وقد يجتمع الألف شخص على كونتوار محل يوزع مشروباته مجانا على الجمهور فالويل لكل امرأة تدخل هذا المزدحم

ما عسى أن يعمل الأجنبي في مرسيليا ليعيش ؟ والأجنبي في فرنسا لا يجد بسهوله غير الأشغال الشاقة و مرسيليا يكثر فيها هذا النوع من الأشغال لمن يريد وفيها جيوش جرارة من العمال الأجانب والعرب وحدهم يزيدون على 25 ألفا يعملون في الميناء لتفريغ السفن وشحنها وتنظيفها وآخرون يعملون في معاصر الزيت ومعامل الصابون بصورة يتعب الإنسان  معها من مجرد النظر إليهم إذ لا ينقطعون عن الحمل والقطع والرصف والدفع والجري مدة عشر ساعات متواليات لا سبيل فيها للهرس وعلى كل معمل وفابريكة يقف في الصباح جيوش تطلب الشغل فلا يظفر منهم إلا واحد أو اثنان ويرجع الباقي إلى  النزهة والتسكع على الكراسي العمومية لان وقت قبول العمال وهو من الثامنة إلى  العاشرة قد انتهي  و أُغلقت المحلات الأخرى شبابيكها لتفتحها في اليوم  الثاني وقد يمكث العامل

شهرين يقطع فيها مئات الكيلومترات إلى  أن يحصل على شغلة بعشرين فرنكا في اليوم هذا و الزمن زمن الأمور كلها على ما يرام وبعض الأجانب يدفعهم الخيال وتسحرهم المدينة بجاذبيتها فيؤسسون بها متاجر صغيرة فلا يعيش منها إلا المحل الذي يعتمد على أبناء جنسه كمحلات الأرمن والسوريين على إنها عيشة لا يعبط صاحبها

والذي اخفقوا وأضاعوا أموالهم اذكر منهم واحدا أو اثنين على سبيل المثال

جاءنا احدهم يحمل عشرين ألف فرنك هي  كل ما يملكه وأقام في المدينة عدة اشهر يمتع نفسه بكل مشتهياتها إلى  أن بقى له 15 ألفا فأراد سلوك الطريق المستقيم  والبحث عن عمل يستثمر فيه نقوده وبينما هو يفتش في صحيفة الإعلانات أبصر بينها أمنيته وهو هذا ( مطلوب موظف أمين يتولى الوكالة لأحد المحلات التجارية و يستلم خزينة هذا المحل وإيراده والمرتب ألف فرنك في الشهر ويجب أن يودع الطالب 15 الف فرانك تأمينا على ما بعهدته ) فطار بجناحين إلى  ناشر الإعلان ووضع بين يديه المبلغ واستلم الوصل ثم جلس على المكتب واستلم الوصل ثم جلس على المكتب يتسلم أوراق المحل ويفهم أشغاله ورأى بجانبه فتاه دكتيلو شاهقة البياض في غلظ الفيل الصغير وهو النوع  الذي يحبه وذهب مدير المحل بعد أن هنأه وتمنى للمحل الخير على يديه وبقى صاحبنا والبنت يتسامران مده شهرين …. و ذهبنا لزيارته في محل عمله فوجدنا المكتب عبارة عن دكان فيه منضده لحضرة الوكيل والأخرى للفتاه وعلى باب هذا الدكان ورقة بسيطة بيضاء كتب عليها بقلم الحبر ( sud financier ) ( المالي  الجنوبي ) ودخل بعد برهة مدير هذا البنك فإذا هو احد القوادين الأسبان الذي يفتش عنه البوليس لإدانته بعشرات من حوادث النصب والاحتيال وصاحبنا كان امهر منه في اللصوصية فهو ينشر إعلانا آخر عن طلب وكيل جديد فكتب إليه ثلاثة خطابات بخطوط مختلفة وامهر كل خطاب بتوقيع وعنوان خاص به واستلم منه الردود وذهب إلى  المحل ينتظر مجئ رئيسه النصاب فلما دخل أطلعه على الخطابات التي استلمها منه وهدده بتسليمها للبوليس وتسليمه هو على أثرها فارتعد الرئيس فقال الأخر : لا بأس عليك وعليك الآن أن تنشر إعلانا آخر تطلب فيه موظفا يدفع 20 ألف فرنك تأمينا فاخذ أنا حقي وتأخذ أنت الباقي فانشرح الرئيس لهذا الحل ونشروا الإعلان فساقت لهم الأقدار أرمنيا ذكيا جاء ليستعمر فرنسا بما معه من المال و دفع 20 ألفا فرنك و عادت النقود لصاحبها وربح الأسبانيولى 5 آلاف أخرى وقد قلنا في إحدى المقالات السابقة إن بوليس  مرسيليا ظريف والمحاكم أظرف منه حكموا على الأسباني بشهرين ثم بالنفي فلا ينفذ ومعظم المطرودين يقيمون تحت أعين البوليس ويتبادلون معه أقداح البيرة والله اعلم وأعرف آخر جاء من مصر بـ 500 جنيه ورأى أن يفتح دكان بقالة فنفدت الـ 500 جنيه ولم يجد بعد أجرة الدهان والذي كتب له اسم الحانوت ولم يحمل إليه بضاعة بفرنك واحد فعرضه للبيع ثلاثة اشهر جاع أثنائها حتى أضناه الجوع ولم يجد المشترى وهو يتعجب كيف سال الذهب النضار من يده وتحول إلى  بخار

والخلاصة أن هناك شعبا متحصنا بالتربية القومية والثقافية ومعرفة الأمور ومن المستحيل أن يفلح من يدخل بلاده ليثرى منها أو يجد منفذا للرزق لم يعرفوه قبله

رأيت المسافرين القادمين من الشرق إلى هذه المدينة يعدون بالمئات في اليوم وينزلون حائرين بحقائبهم يفتشون عن الفنادق الرخيصة والمطاعم التي تناسبهم و يفرون اشد الفرار من جماعة الترجمة و الوسطاء لتوقع الأذى منهم فعلمت انه من الضروري إنشاء دليل عربي لهذه المدينة يبين مواقعها وكل ما يلزم للمسافر ويباع هذا الدليل بثمن زهيد على البواخر وفي مواني الشرق وهو في الوقت نفسه مصدر كبير للربح من الإعلانات عن الفنادق و المطاعم و الملاهي  و غيرها وفصلت مشروعي تفصيلا مسهبا وعرضته على الشركات فكانوا يتأملون الفكرة مغتاظين وأخيرا يرفضونها لا كراهية  للربح ولكن كراهية للعمل مع أجنبي اكتب هذا ولا احسبني أذيع سرا عن مشروع تجارى يمكن لأي إنسان  أن يقفز إليه ويستفيد منه لان تلك الأيام قد انقضت ولا احسبها تعود فساحل مرسيليا الذي كان مزدحم بعباد الله من كل امة هو اليوم كسور المقبرة تقف عليه وتسمع اصطفاق الموج الخفيف على أحجاره و غابت عن الأنظار تلك الزوارق الجميلة التي كانت تحمل الناس إلى  شاتوديف و الحمامات تحل محلها خراطيم غليظة سوداء كانت تستعمل لتفريغ البضائع في زمن العز والآن تستريح كما يستريح كل مخلوق .

 ووقف الرئيس لحظة، ليفهمنا كيف نحمل، فالزمبلك الحديدي الذي يوضع في مقدمة ومؤخرة المركبة ليخفف عنها الضرر وقت الاصطدام، والذي يبلغ وزنه 300 كيلو، يكفي عند الرئيس أن يحمله رجلان بين أيديهم، مادام له طرفان، وهناك كتل أخري حديدية مقعرة، أو مكورة، يختلف وزن الواحدة منها بين 15 و30 كيلو، لا يجوز حملها في نظر الرئيس بالواحدة؛ لأن في هذا مضيعة للوقت. وذهب وعاد يحمل عوداً مستطيلاً من الحديد يبلغ ثلاثة أمتار، وأمرنا أن نسلك فيه تلك القطع من الخروق المفتوحة في وسطها.

 وأجري لنا المثال بنفسه، فوضع في العمود نحو 10 قطع، وكلفني أنا وآخر بحملها من الطرفين. كنت أمر على عمال آخرين وهم يدهنون المركبات بفرشاة الدهان، ويضحكون ويدخنون، وكان في وسعي أن أقول للرئيس إنني كنت دهانا،  فيقبلني كما قبلني دون أوراق رسمية، ولكن لعنة الله علي الصحافة.

 ريتشارد يحاسب العمال علي فرانكين بالساعة، ويحاسب الشركة علي أربع فرانكات، وله في غير الأروجاز معملان آخران لنفس العمل، ويقدر بعضهم ربحه 10,000 فرانك في اليوم.

 أخبرني مهندس بولندي يعمل هناك كاتباً وقال:

في شركه “ب ل م” مهندسون إذا رأوا في المركبة أقل خدش أرسلوها لريتشارد، فيسد خدشها ويجدد دهان أخشابها بالأحمر والأسود، ثم يعيدها لكشف واحد لا تقل أرقامه عن 500 فرانك، وقد تعود إليه المركبة بنفسها بعد بضعة أيام، وهذا أحد أسباب خسارة الشركة المذكورة  عشرات الملايين في العام وتساعدها الحكومة علي سد العجز.

 صاحب المطعم، والفندق ريفي، جنوبي، منتفخ البطن، ضخم الجثة، طويل الشاربين.

 قدم لنا طنجرة كبيرة فيها ماء سائل، تعوم فيه بعض القطع من السفانريه، وقال:

هاكم الحساء.

ثم طنجرة من البطاطة المسلوقة مع كتل اللحم الكريه، وقال:

هاكم البوفتيك.

 يأخذ هذا الرجل من كل عامل، في مقابل الأكل والشرب والنوم ما لا يقل عن ثلثي أجره اليومي.

 كانت الفائدة الوحيدة من هذه الشغلة هي الأوراق الرسمية التي أهجم بها علي كل مصنع بلا خوف ولا تردد.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات