حديقة شاعر كوري

11:12 صباحًا الجمعة 22 نوفمبر 2013
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

تقع جزيرة بوغيل على مسيرة إبحار راكبا العبّارة لمدة ساعة من القرية المسماة «قرية نهاية البر الكوري» في منطقة هينام، وهي أقصى نقطة في الجنوب على الرأس الجنوبي لشبه الجزيرة الكورية. ابتكر يون سون-دو، وهو شاعر بارز في مملكة جوسون في القرن السابع عشر، حديقة عجيبة على هذه الجزيرة الصغيرة، حيث كان يعيش بعد أن استقال من الخدمة الحكومية. حديقة الشاعر، التي تعكس إحساسه الصافي بالجمال وخياله من خلال صهر العناصر الطبيعية وتلك التي من صنع الإنسان في كلٍّ لا يضاهى، هي حديقة تعتبر نموذجا رائعا للحديقة الكورية التقليدية. هنا يكتب هوه كيون مدير معهد الفنون الشعبية الكورية عن زيارته للحديقة في مجلة (كوريانا) التي صورها :آن هونغ-بوم، سوه هون-غانغ، ها جي-كون، لي دونغ-تشون

يون سون-دو (1587-1671) واسمه المستعار كوسان هو موظف مدني وشاعر في منتصف فترة مملكة جوسون، وقد تخلى عن الخدمة الحكومية سنة 1638 وتقاعد في جزيرة بوغيل في منطقة واندو، مقاطعة جوللا الجنوبية. كان ذلك بعد سنة واحدة من استسلام الملك إنجو إلى الإمبراطور تايجونغ لمملكة قينغ الصينية. اعترض الشاعر يون على الاستسلام المذل، وعندما شاهد ملكه يركع أمام الغزاة لم يستطع أن يحتمل الاستياء المرير ولكي يتخلى عن العالم، ترك العاصمة ليعيش في جزيرة جيجو. ولكن في طريقه، توقف في ميناء جزيرة بوغيل، حيث أسره منظرها الرائع. انتهى به المطاف أن قضى بقية سنين عمره التالية وهي 13 سنة في تلك الجزيرة إلى أن توفي فى عمر 85 عاما. حديقة تكمل الطبيعة في جزيرة بوغيل، أنشأ كوسان حديقة بويونغدونغ على امتداد فسيح للأرض المقسمة إلى ثلاث مناطق. تمثل المنطقة الأولى «سييونجونغ» (بهو تنظيف الطبيعة)، وهي سلسلة من البرك الطبيعية، ومنصات صخرية، وبستان من الأشجار المورقة. المنطقة الثانية وهي ملاصقة لبيت كوسان الرئيسي، واسمها «ناكسوجي» (بيت الكتب الممتعة)، وجدول قريب. بينما تقع المنطقة الثالثة على جانب تلة مقابل البيت الرئيسي، وتشتمل على أنواع من البنايات مثل المبنى الصغير المسمى «دونغتشون سوكسيل» (أي غرفة الحجر في أرض الطاوية المقدسة)، حيث كان يجلس فيها كوسان للقراءة والاسترخاء. دون خطوط واضحة للحدود، فإن هذه الحديقة لا يمكن اعتبارها بدقة ضمن تعريف مصطلح الحديقة التقليدي. ومع ذلك، فإنها تضم كل عناصر البيئة، والطبيعة، والعناصر التي من صنع الإنسان، بما في ذلك البركة والصخور بالقرب من السرادق، والأسماك التي تسبح في البرك، والأشجار المعمرة، وظلال أوراق الخريف، وكذلك كل الجبال في الخلفية البعيدة والسحب التي في السماء.

إضافة إلى ذلك، القمر فوق قمة الجبل، والنجوم اللامعة في سماء الليل، والطيور المغردة وصوت الحشرات، وبيئة الجزيرة الطبيعية كلها تعتبر جزءا من الحديقة. في الثقافة الكورية، تسمى مثل تلك الحدائق «الحديقة ذات الجبال والأنهار»، أو الحديقة ذات الغابة والينابيع، واللتين تعتبران مختلفتين اختلافا كبيرا عن الحدائق الأوروبية النمطية المبنية في موقع مرسوم ومزينة بعناصر تجميلية. منذ العصور القديمة، عامل الكوريون الطبيعة على أنها موضوع احترام كبير جدا وتقدير. تعتبر حديقة بويونغدونغ نموذجا ممثلا لهذه الطريقة، وكذلك حدائق فيلات الريف التي كان يملكها النبلاء في عهد مملكة جوسون، مثل حديقة «سوسويوون» في داميانغ وحديقة «إيمديجونغ» في هواسون، بمقاطعة جوللا الجنوبية. سييونجونغ: مركز الانغماس الفني تقع سييونجونغ، أو بهو تنظيف الطبيعة، في وسط حديقة بويونغدونغ. غالبا ما يعتقد بأن الاسم سييون (يعني حرفيا «تنظيف الطبيعة») يشير إلى منطقة أو مشهد طبيعي شديد النقاء وسار المنظر كما لو كان تم غسله بالماء فأصبح نظيفا.

على أي حال، يفترض أن تكون الطبيعة موجودة في حالة من النقاوة، لذا فهي لا تحتاج أبدا إلى تنظيف. بدلا من ذلك، فإن البشر هم الذي يحتاجون إلى تنظيف أنفسهم من الشوائب وعدم النقاء. وبناء على ذلك، من الصواب أن يتم تفسير الاسم على أنه يعكس قدرة الطبيعة على تنظيف عقل البشر. بهذا المعنى، يكون اسم السرادق انعكاسا لمثاليات كوسان بعد أن تقاعد عن السياسة واستقر في الجزيرة النائية. أبواب السرادق على الجوانب الأربعة كلها تفتح على مصراعيها لكي تستحضر المشاهد في الخارج. وهى تشرف على بركة صناعية مستطيلة الشكل تسمى هويسودام (بركة تدوير الماء)، مع جزيرة صخرية جذابة بالاتجاه الخلفى. تقف أشجار الصنوبر الضخمة الأنيقة على حافة البرك بأغصانها المتدلية والمنحنية والتى تكاد تلمس الماء، كما يوجد هناك جلمود ضخم مخفي تقريبا خلف أغصان شجر الصفصاف والعرعر. في الخلفية، تمتد قمم الجبال العالية والمنخفضة البعيدة، مشكلة مناخا من عالم الآخرة.

بالنسبة لكوسان، كان السرادق مكانا لإعادة إنعاش الجسم والعقل والتمتع بالطبيعة والمسارات الفنية. كان يمكنه أن يستمتع هناك بغفوة منعزلة في صمت وسط النهار، يداعبه نسيم بارد، ويتمعن في أفكاره تحت ضوء القمر الفضي. في بعض الأحيان، كان يستقبل بعض الزوار في البهو ويجري معهم أحاديث مهمة حول المشروبات. وعندما كانوا يثملون وهم مسرورون، كانوا يغطسون في عالم الشعر العميق. مكان ولادة المؤلفات الشعرية الرائعة لكوسان كان الشعر جزءا مهما من حياة العلماء والمثقفين في مملكة جوسون. وقد كان طريقة للتعبير عن المبادئ الفلسفية للطبيعة، تفسر المثاليات العليا للفلاسفة القدامى، مثل لاوزي، وجهوانغجي، كونفوشيوس وميشيوس، وتوقظ العقل لطرق الوجود، والطبيعة والكائنات الحية. ولما كان الأمر كذلك، كانت هناك قلة من بين المتعلمين ممن لم يكتبوا بضع مقطوعات شعرية. يبدو أن الأحاسيس الأدبية مرتبطة بحياة العزلة أو المنفى. وهذا واضح من حقيقة أن الكثير من روائع الأعمال في مرحلة ما قبل الأدب الكوري الحديث كانت منتجات لحياة العزلة في صومعة أو منفى. كتب كوسان عمله «مفكرة صياد السمك» وهي واحدة من أروع الأعمال في الشعر الكوري الفصيح الكلاسيكي، بينما كان يعيش حياة التقاعد في جزيرة بوغيل. وعلى حين أن معظم أبيات هذه الفترة قد كتبت بالصينية الكلاسيكية الفصيحة، فإن هذه القصيدة التي تصور حياة صياد سمك يعيش في سلام مع الطبيعة، بعيدا عن العالم الدنيوي، هي في اللغة العامية الكورية. صياد السمك في هذه القصيدة ليس مجرد رجل يصيد لكي يعيش، ولكنه رجل حكيم يتخلى عن الملذات الدنيوية ويعيش في قلب الطبيعة.

بناء على معرفتنا بأن رجال الأدب والثقافة لم يكونوا ينخرطون في أعمال بدنية، باستثناء صيد السمك، يجعلهم ذلك يظنون أنفسهم صيادي أسماك في الصميم، صياد السمك في قصيدة كوسان قد يمثل الشاعر نفسه، الذي أدار ظهره للعالم وعاش في الطبيعة مستمتعا بهدوء العقل. خشبة مسرح للأغنية والرقص يتضاءل الجدول الذي يتدفق من خلال الحديقة خلف البهو، في ممر شبه دائري، قبل الوصول إلى البركة المستطيلة في الخلف ومن ثم يتدفق خارجا منها. يخلق هذا مشهدا بديعا في الصيف عندما تكون ذهور زنابق الماء في أوج إزهارها وتلقي الأشجار حول البركة ظلالا من ورق الشجر في الماء. يصف سجل لجزيرة بوغيل، كتبه يون وي، وهو الحفيد من الجيل الخامس لكوسان، يصف الولائم التي كانت تقام في هذا المكان. طبقا لهذا السجل، فإن كوسان لا يمكن أن يترك حياته في هذا المكان دون شعر وموسيقى لكي يتخلص من القلق الذي يشوب العالم في الخارج. وفي أيام السماء الصافية النضرة، كان يترك غرفته في «البيت الذي يخلو من القلق» ليمضي الوقت في البهو ويتمتع بالغناء والرقص. وعندما كان يتخذ له مقعدا في البهو بوجود أولاده، كان موكب الحضور يبدأ بأغنية مبنية على قصيدته «مفكرة صياد السمك»، التي كان يغنيها الموسيقيون الأطفال الذين يرتدون الملابس التقليدية الجميلة وكانوا يؤدون ذلك من قارب في البركة المستطيلة. ومع الموسيقى الجماعية التي تعزف في البهو، كان الراقصون يؤدون الرقصات على خشبتي مسرح صغيرتين إلى يسار السرادق. وبتسميتهما المسرح الشرقي والمسرح الغربي على التوالي، فإن المنصات المتدرجة كانت تبنى بتركيب الصخور فوق بعضها.

وفي نفس الوقت، على صخرة مستوية تقع في منتصف الطريق إلى الجبل صعودا مقابل البهو، كانت الراقصات يرتدين أروابا ذات أردان واسعة وطويلة يحركنها في الهواء بخفة كالحوريات. مثل هذه المتعة المذهلة قد لا تبدو تتوافق مع نمط الحياة لشخص منعزل يعيش في وحدة. على أي حال، اعتقد كوسان بأن الفلسفة الكونفوشيوسية التي تعتبر الشعر والأغنية والرقص جوانب مختلفة من التعبير الفني، فهي تلقي ضوءا مختلفا على اتجاهاته نحو الحياة. بركة سييون والتشكيلات الصخرية صنعت بركة سييون ببناء سياج من الصخور لتحويل تدفق الجدول الذي ينبع من قمة جبل كيوكجا. على الرغم من أن البركة كانت قد تشكلت على أيدي البشر، فإن مشهدها لا يمكنه أن يكون أكثر طبيعية مما هي عليه وذلك من خلال صخورها، ونباتاتها المائية التي تطفو على سطح الماء، والأشجار على الحافة تلقي بظلالها عليها، إلى جانب آثار الزمن الموجودة في كل مكان. مشهد مميز من بركة سييون هو تشكيل صخورها الجذابة. أعجب أهل العلم والأدب الكلاسيكي منذ القدم بالصخور التي لم تخضع للتغيير، معتقدين بأنها تستحق التقدير لصمودها ومحافظتها على وجودها، على حين أن العناصر الأخرى في الطبيعة، مثل الزهور والنباتات، تصبح عرضة للتغيرات الموسمية وقوى العناصر الأخرى. تتنوع التشكيلات الصخرية في البركة من حيث الشكل. تسمى أكبر صخرة هوغياك وتعني «ذكر الضفدع المتأهب للقفز»،

بناء على مرجع من «كتاب التغييرات»، الكلاسيكية الصينية حول الرجم بالغيب (التنبؤ). من جهة أخرى، فإن كوسان فضل أن يسمي هذه الصخرة واريونغ «وتعني التنين الرابض»، وهو الاسم المستعار لـ»جهوج ليانغ» (181-234)، مستشار مملكة شو هان الصينية، والمشهور بأنه كان يجبر الملك على أن يأتي إليه ويسأله شخصيا ثلاث مرات قبل أن يوافق على إسداء النصح للملك. ممثلا فردا يختبئ في الغموض قبل أن يذهب إلى عالمه، فإن هذا الاسم المستعار يكشف لنا كيف كان كجوسان ينظر إلى حياته في الخلوة. صخرة أخرى رائعة هي تلك الصخرة ذات السطح الواسع التي يقال بأنها استخدمت لمسابقات الرماية، وكان فيها مشاركون يطلقون السهام على هدف على صخرة على جوانب التلال في الجهة المقابلة. البيت الرئيسي والغرفة الحجرية في الجبل كان البيت الأول الذي بناه كوسان عند وصوله إلى الجزيرة هو بيته، واسمه ناكسوجي. ثم زرع بعد ذلك مجموعة متنوعة من الزهور والأشجار ووضع أيضا صخورا جذابة. سمى الصخرة الكبيرة بالقرب من بيته «قمة ينبينغ الصغيرة». وهذا الاسم يعني «شاشة الانزواء»، وقد أخذ الاسم من القمة الشهيرة لجبل ووي، في الصين، حيث استقر فيها «جهو سي»، الفيلسوف الشهير للكونفوشيوسية الجديدة لمملكة سونغ الجنوبية، وتقاعد مكرسا نفسه لدراساته. كما أن «دونغتشون سوكسيل»، أو الغرفة الحجرية في الأرض الداوستيه المقدسة، لها أيضا اسم يشير ويلمح إلى وجهة نظر كوسان حول السكن في جزيرته. خضع هذا البناء المكون من غرفة واحدة، الذي يقف على جانب التلة مقابل البيت، لعملية ترميم منذ 20 سنة. وقريبا من البيت توجد البركة المستطيلة وبركة أخرى مستديرة إلى جنوبها. وبالقرب من البركة المستديرة يوجد درج حجري يؤدي إلى غرفة حجرية تحت الأرض، على الرغم من أنه لا يعرف إذا كان جوسان هو الذي بنى الدرج أو من خلف من بعده.

في جميع الأحوال، فإن القيمة الحقيقية لهذا الملاذ في جانب التلة لا تكمن في البناء الصغير، ولا في الغرفة الصخرية، ولكن في الامتدادات الفسيحة للمشهد الطبيعي الذي يتكشف في جميع الاتجاهات. مقام لرجل صاحب قضية باستقراره على جزيرة بوغيل، حيث لم يكن له أصدقاء أو عائلة، وشيّد حديقته وبيته أثناء حياته في المنفى، وضع جوسان فلسفة الحياة الكونفوشيوسية موضع التطبيق العملي بمعرفته متى يتقدم المرء ومتى يتراجع. كشخص ناضل من أجل العمل لمنفعة الأمة والشعب، ولكنه لم يتردد في التخلي عن منصبه ليخدم قضيته الخاصة به عندما كانت مثاليته تسير بعكس رأي الأغلبية وعندما وجد أن المبادئ الأخلاقية قد اخترقت. هذا لا يعني أن التخلي عن المنصب الحكومي هو بالضرورة عمل من أعمال الاستقامة والنزاهة، أو أن العيش في العزلة هو أكثر حشمة ووقارا، والبقاء في الحاشية مذل أو مناف للوقار. يمكن أن يكون قرار الفرد مبنيا على ما يدركه المرء أنه أكثر فضيلة وصراحة. عند الوقوف على مفترق طرق، يمكن أن يسأل موظفو مملكة جوسون والمثقفون فيها أنفسهم أي المسارات يمكن أن تحافظ على استقامتهم وإحساسهم بامتلاكهم لأنفسهم. وهكذا فعل كوسان، وقد قاده البحث عن الروح إلى اختيار حياة العزلة في جزيرة نائية. بالنسبة لكوسان، لا تعتبر جزيرة بوغيل وحديقة بويونغدونغ ملجأ من الاضطرابات والتقلبات السياسية ولكنها مكان إقامة مثالي حيث يمكن أن ينغمس في الطبيعة ويتمسك بقضيته الخاصة به.

في البهو، يمكن لكوسان أن يأخذ غفوة على انفراد في سكون منتصف النهار، منتعشا بمداعبة النسيم البارد له، ويتمعن في أفكاره تحت ضوء القمر الفضي. في بعض الأحيان، كان يستقبل بعض الزوار في البهو ويجري معهم أحاديث مهمة حول المشروبات. وعندما كانوا يثملون وهم مسرورون، كانوا يغطسون في عالم الشعر العميق

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات