كيف نبت صوتُها وسط كل هذا الخراب؟!

12:54 صباحًا الجمعة 22 نوفمبر 2013
شريف صالح

شريف صالح

قاص وروائي وكاتب صحفي، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
لكل منا حكاية تسكن أغنية من أغانيها. لكل منا حكاية وتنهيدة نداريها تحت جناح: اسهار، بليل وشتي، ورقو الأصفر، أنا عندي حنين، لما ع الباب، كتبنا وما كتبنا، من عز النوم، يا كرم العلالي، قديش كان في ناس، أسامينا، ع هدير البوسطة، بكتب اسمك يا حبيبي، أعطني الناي، حبيتك تانسيت النوم، حبيتك بالصيف، سكن الليل، خايف أقول اللي في قلبي، كيفك أنت، سلملي عليه، طلعلي البكي، يا مرسال المراسيل، أشتقتلك، دق الهوا ع الباب، ردي منديلك ردي، سمرا يا أم عيون وساع، أنا خوفي، قالوا لي كن، يا ظريف الطول، نسم علينا الهوى، وصيف يا صيف.
يرسم صوتها بأوتاره الذهبية خريطة أخرى للمدن.. لشط إسكندرية والشام والقدس وبيروت. مدن الناس الطيبين.. مدن الحب والفراق والعتاب والنسيان والذكرى والمناديل في أكف البنات والطائرات الورقية على سطح الجيران، الأبواب المغلقة على القصص، ألبومات الصور، القمر الساطع والليل ورائحة البحر، الجبل البعيد والخيمة والنجمة، الشمس والطير والمزهرية والورد الأبيض، عناقيد العنب والياسمين، التذكار، المواويل، همس الشجر وخرير النهر، ملمس الورد والمخمل، دمعة حبيبة وابتسامة طفل وأغنية محفورة على حجر.
صوتها ناي الوجود وهدير البوسطة ورقصة الدبكة ورنة العود وضوء القنديل وليل الشتاء وسحر القمر ورهافة الكمان والذهب الغالي. يمضي بنا عبر العالم، على مسارح بيروت والقاهرة والشام وبعلبك والقدس والبحرين والشارقة وأبو ظبي والدوحة وعمّان والرباط والجزائر وتونس وبغداد وأمستردام وأثينا وجنيف، وباريس ولندن ونيويورك والمكسيك والأرجنتين وكندا وأستراليا.
في كل مكان، كل مسرح، تغني أرواحنا كأحلى ما تكون أرواحنا. تغني بلادنا التي اغتربنا عنها وفيها.. بلادنا الساكنة في قلوبنا لا تلك التي تمشي عليها أقدامنا.
تعيسة هي الأرض التي لم يصدح فيها صوتها الملائكي وتعساء من لم يروا وقفتها على خشبة المسرح. تكفيها برهة صمت ووقفة العز والكبرياء والشموخ، قبل أن تهتز أحبالها الصوتية فيتعانق الشعر والموسيقى والمقدس والجمال والخيال. هناك في أعماق حنجرتها، بكل رقتها وشجنها وإبائها، سمو وجلال. فمن غيرها يخبرنا أن الغناء هبة الله وبستان الأرواح المتعبة؟
هكذا غنت، وهكذا سيبقى صوتها يغني إلى الأبد.. غناء آخر غير ما نسمعه في الملاهي والجلسات والونسات والحفلات.
ابنة وديع حداد وليزا البستاني، التي حملت عبر صوتها ألحان وأشعار حليم الرومي، عاصي ومنصور وإلياس وزياد الرحباني، ميخائيل نعيمة، سعيد عقل، محمد عبد الوهاب، سيد درويش، أحمد شوقي، فلمون وهبة، زكي ناصيف، جوزيف حرب، وجبران خليل جبران.
هي تاريخنا البهي، تاريخنا المتجاوز، قصيدتنا الحية ضد القتل والحرب والهوان.. هي أكثر من حفلات ومسرحيات واسكتشات وأفلام.. أكثر من نصف قرن من العطاء.. أكثر من سبعمائة أغنية.. أكبر من كل الجوائز والأوسمة والنياشين وشهادات التكريم.. أسمى من كل الألقاب، فلا هي قيثارة الشرق ولا سفيرة الأحلام ولا جارة القمر ولا صوت لبنان ولا صوت العالم.
هي فيروز وكفى.
بالأمس كان عيد ميلادها الثامن والسبعين، هي من تهدينا كل يوم ـ برهافتها الجارحة ـ ميلاداً جديداً لأنفسنا.
هي فيروز التي لن يصدق أحد ـ بعد مرور القرون ـ كيف نبت صوتها مثل ملاك بجناحين وسط كل هذا الخراب!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات