بشــير عيـَّـاد …في وَقْفَةٍ بين الفنِّ الرفيع ….والفنِّ الرقيع : لُطفـي بوشناق.. يُحاصرُ القُبحَ ويحارِبُهُ بالجمال !

10:43 مساءً الجمعة 6 ديسمبر 2013
بشير عياد

بشير عياد

شاعر ، وناقد ، وكاتب ساخر ، يغني أشعاره كبار المطربين، له عدة كتب في نقد الشعر، متخصص في " أمّ كلثوم وشعرائها وملحنيها " .

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الفنان إبراهيم راشد

لم أكن سمعت أغنيته ولا سمعت عنها ، غير أن الأخبار المتتابعة عن الشاب إبراهيم راشد الذي غنّاها بالمسرح الكبير وأبكى الحضور ودفع المسؤولين بالأوبرا إلى اختياره في عدة حفلات متتالية ليؤديها ، دفعني للبحث عنها والاستماع إليها ، وفي ثوانٍ معدودة وجدتها ـ بغزارة ـ على اليوتيوب وآلاف المواقع ، وللوهلة الأولى وبعد أقل من دقيقتين بكيتُ وبكيتُ وبكيتُ ، وصفّقت كثيرًا وقلتُ : هذا هو الفن الرفيع المختلف تماما عن الفن الرقيع الذي نجدّف في مستنقعاته ، قلت: هذا هو الفن الذي يليق بوطن خارج من ثورة إلى مجهولٍ لا يعلمه إلا الله بعد أن سُرقت ثورته ووُئِدت أحلامُه بفعل الخونة والمتواطئين وبائعي الوطن !

الفنان التونسي الكبير لطفي بو شناق

أحدّثكم عن الفنان التونسي الكبير لطفي بو شناق ، ورائعته “خذوا المناصب والمكاسب” التي شاعت بين جمهور الغناء بـ” أنا مواطن “، تلك الأغنية العميقة التي تصلح لأن تكون عالميّة وأبدية لا تموت في أي زمان ولا أي مكان فهي ثوبٌ نظيف يرتديه كلّ وطن، فهذا العشق المتفاني من المواطن البريء النظيف النقي لتراب وطنه هو الأبقى والأخلد ، وهو الذي يدفع الإنسان إلى التضحية بنفسه وماله وولده فداءً لحبّةٍ من تراب هذا الوطن ، ذكرتني الأغنية ببدائع الفلاح الفرعوني الفصيح الذي كان يبدو بسيطا وبريئًا ، بينما شكاواه تفيض بالحكمة والفصاحة والبلاغة والعمق ، سبحت وراء الأغنية وتواصلت مع أصدقائي التوانسة لأعرف شاعرها فأجابوني بأنه الدكتور مازن الشريف (وكنت أظنّ أنها لآدم فتحي الذي كتب كثيرًا للشيخ إمام عندما أقام بتونس)، وبحثت عن مازن فوجدته أستاذًا غارقا في أعماق الفصحى ،ويجيد الغوص في بحور المنطق والفلسفة والدراسات الأدبية،وهو كذلك خبير استراتيجي في الشؤون الأمنية والعسكرية ومختص في التيارات الإسلامية والإرهاب ( رئيس قسم الاستشراف ومكافحة الإرهاب بالمركز التونسي لدراسات الأمن الشامل )، واستوقفتني لمحات صوفية شديدة الرهافة في بعض كتاباته التي توصّلتُ إليها ، ثمّ تواصلتُ معه وكتبت له عددا من الأسئلة لأعرفه أكثر ولأكتب وورائي وعيٌ كافٍ به ، فلم يجبني حتى كتابة هذه السطور .
الكلمات سهلة وبسيطة ،كتبها الشاعر بالعاميّة البيضاء(كما أسمّيها ) أي غير المغرقة في المحلية المغلقة،والتي من السهل فهمها في كل الوطن العربي ، واللحن الذي وضعه بوشناق جاء خاليا من التعقيدات،وترك البطولة كلها لصوته العميق العريض المؤثر ، وكان كأنه يتقدّم بالشكوى ( كالفلاح الفصيح ) في شكل أقرب إلى الخطابة إذ تسنده الكمنجات لعدة ثوانٍ في الاستهلال ، مع بعض وشوشاتٍ من القانون ،ومن العود الذي يحتضنه كطفل رضيع،ومع الغناء تتراجع الموسيقى إلا من بعض التدفئة من البعيد البعيد ( الخطاب إلى السياسيين وحرامية الثورة والانتهازيين ) :
أنا مواطن .. وحاير .. أنتظِر منكم جواب
 
منزلي في كلّ شارع .. ف كلّ ركن وكلّ باب
 
واكتفي بصبري وصمتي .. ثروتي حَفنة تراب
 
ما أخاف الفقر لكن .. كلّ خوفي من الضباب
 
ومن غياب الوعي عنكم .. كم أخاف من الغياب
 
سادَتي وانْتُم حكَمْتم .. حكمُكم حكم الصواب
 
وثورتي كانت غنيمة .. وافِرَة لحضرة جناب
 
ما يهمّ ولا أُبالي .. الدِّنيا دايسها بمداسي
 
لكن خلّوا لي بلادي .. وكلّ ما قلتم ع راسي !!
 
تصرخ الكمنجات صرخة مفاجئة ، ويرتفع النبض والسخونة ، ويصدح بو شناق :
يا هناه ال كانِ مثلي ما يهمّه مَنْ ومَنْ

أنتم أصحاب الفخامة.. والزعامة ..وادري لنْ

لن أكونِ ف يومِ منكم .. يشهد الله والزمن

أنا حُلمي كلمة واحدة ..إنْ يظل عَندي وحدي

لا حروب ولا خراب .. لا مصايب لا محن
يؤدي الفنان الكبير الجزء ـ أعلاه ـ وكأنه على منبر ، ويلقي الكلمات مشبعة بالحزن والشجن والرعب والقلق من المستقبل ، ثم يباغتنا ببيت القصيد المبلل بالدموع :
خذوا المناصب والمكاسب .. لكن خلّوا الوطن
لم يتركه الحاضرون ليكمل ، بل عاجلوه بعاصفة من التصفيق الملتهب استمرت 45 ثانية ( فبكى ) ، ثمّ أعاد فلم يتركوه وعاجلوه بعشرين ثانية موازية للغناء ، وعندما مرّ إلى الهزيع الأخير من الأغنية ران الصمتُ على القاعة في هذا المقطع الشديد العمق والعاطفيّة والصدق :
يا وطن وانتَ حبيبي .. وانتَ عزّي وتاج راسي

أنت يا فخر المواطن …والمناضل والسياسي

أنت أجمل وانتَ أغلى .. وانتَ أعظم م الكراسي
ومع الختام اشتعل التصفيق بغزارة وقوة لم نعهدهما من بعد حفلات أمّ كُلثوم ، غير أن التصفيق هنا ليس سوى صراخ بالأيدي تعبيرًا عن الغضب من سارقي الشعب وخائني الوطن وبائعيه ، والرعب من كلّ المعاني والمشاعر التي فجّرتها الأغنية وأيقظتها في القلوب والضمائر .

الشاعر الدكتور مازن الشريف

ويبدو أن الدكتور مازن الشريف يعي سطوة الكراسي وقسوتها ، فقبل أكثر من عامين كتب فريدة أخرى لبو شناق أيضا عنوانها “الكراسي” ، وهي حوار ( مُتَخَيَّل ) بين صبي وأبيه :
ابني سألني :يا أبي اسْمَع كلام عن السياسة

وما دريت معنى السياسة يا أبي

قالوا نظام ، وقالوا عالم فيه أضواء وظلام

واختلط في ذهني وفكري الكلام

يا أبي خبّرني شو معنى السياسة !!
يرد الأبُ مبيّنًا الفارق بين العالم المتحضّر وبلادنا المنكوبة بحكامها وسياسييها:
….
السياسة يا بُني ف عالم الأنوار حريّة وأمل

والسياسة تعرف اتكوِّن وطن ،وتعلّم الناس العمل

تفتح ابواب التحاور بين اوجاع المواطن والرئاسة

والسياسة يا بُني ف أرضنا لعب وكياسة

كنز محروس ومحرّم ..قصر مولانا المعظم

والمدجج والمسيّج بالحراسة

والسياسة إنْ تظلْ لو زال شعبَك

تسقي ناسك سُمّ كاسك مُرّ رُعبَك

وحتى لو زال الوطن ما يهِمّ اوراق لعبَك

المهم اتظل وتظل الكراسي

والكراسي يا بني ف اوطاني لعنة ..بغيرِ قيمة وغيرِ معنى

فرعنة فرعون ..كفر نمرود ..والظلم التعيس

والسياسة يجوع شعب ..يزول من أجل الرئيس

والحكمنا كان طاغي .. عقل مفكوك البراغي

وما يهمه في المظالم والمآسي

والسياسة اوهام في فكر السياسي

يا بني امنحت عمري.. وفات عمري وشاب راسي

واهل الكراسي على الكراسي بلا عقول ولا فراسة

يدّعوا فهم السياسة
ويلتفت الأب صارخًا في وجوه الحراميّة أنفسهم ، ويحاول إيقاظ ضمائرهم ووطنيتهم وتذكيرهم بالمسؤولية في الدنيا والآخرة :
يا اهل السياسة
 
اليوم ثورة شعبنا قالت كلام عن السياسة
 
قالت إن الظلم غادر
 
إن صوت الشعب هادر
 
وان رب الكون قادر
 
يمحق اصحاب الكراسي والكراسي
 
وكل سياسي ان كان يفهم
 
خلّي كرسي الحكم واجلس مثل شعبك ع الحصير
 
كون حرّ ف أرض حرّة ..وافتكر يوم المصير
 
بإيدك تحدد مصيرك
 
بفكرك وشعبك نصيرك
 
تبني مجد وتزرع احقول الأمل
 
بالتفاهم والمحبة والعمل
 
وما يهمّك في الكراسي
 
يظل شعبك والوطن ، ويظل تاريخك زمن
 
وتزول الكراسي!!
هذا التبر الفنّي لا يمكن مقارنته بالسقَط المتطاير في الساحة الفنية المصرية ، لا أغنية واحدة محترمة أو تعيش ، وانشغلنا بصافيناز وتضاريسها المتوهّجة ومكائد منافساتها وتحدياتهنّ ، وتسابقنا إلى دور السينما حيث مجازر اللحم الرخيص تُلقي نفاياتها المسمومة في عيون المراهقين وضاربي البانجو والترامادول ، وأصبحت إعلانات أفلامنا وكأنها إعلانات عن افتتاح شقق دعارة ، بل تسابقنا في البحث عن فضيحة لنصنع مجدا لصاحبتها .. فالراقصة إياها زاد الطلب عليها بعد فيلمها إيّاه ، والمطربة ـ مقدمة البرامج ـ ارتفع سعرها عقب مشاهدتها في حفلة جنس جماعي ، ولم تعد ثورتنا فقط هي التي ترجع إلى الخلف ، بل كل ما هو جميل في حياتنا .
شكرًا لمازن الشريف ولطفي بو شناق اللذين أضاءا هذه العتمة بما يليق بالوطن وبالثورة وبأحفاد الشابي ، أما نحن فقد أكلنا آباءنا في وضح النهار ، ولم نعد نستحق أن نكون ورثة البارودي وشوقي وحافظ ورامي وأمّ كلثوم ، نحن مجرّد دخان ، وغبار صوتيٍّ يتطاير في ثنايا الكلام .

2 Responses to بشــير عيـَّـاد …في وَقْفَةٍ بين الفنِّ الرفيع ….والفنِّ الرقيع : لُطفـي بوشناق.. يُحاصرُ القُبحَ ويحارِبُهُ بالجمال !

  1. بشير عياد

    basheer ayyad رد

    7 ديسمبر, 2013 at 12:04 ص

    يبدو أنني سأجيء كلّ لحظةٍ إلى هنا لأجدد الشكر والتقدير ، ليس لهذا الإبداع الذي لا نظير له في نشر كتاباتي ، ولكن لاعتنائكم بكلّ حرف في فضاء هذا الموقع الكبير ….
    تحياتي لكم وأجمل أمنياتي وخالص تقديري

  2. Pingback: أغنية (أنا مواطن) : لطفي بوشناق | THEAsiaN | Arab

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات