عبد الله العروي يسدد لكماتٍ قاسية إلى نجيب محفوظ!

07:17 صباحًا الأربعاء 18 ديسمبر 2013
شريف صالح

شريف صالح

قاص وروائي وكاتب صحفي، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
نُشر مع مجلة الدوحة في عدد نوفمبر كتيب بعنوان «عبد الله العروي: من التاريخ الى الحب». وهو عبارة عن حوار مطول، أجراه معه محمد الداهي ومحمد برادة الذي كتب مقدمة اضافية.

غلاف الحوار

أهمية الكتيب أنه يرينا الوجه الآخر للعروي الأكاديمي والمؤرخ الذي نظّر للأيديولوجيا ومفاهيم العقل والحرية.. فنحن هنا أمام العروي صاحب روايات: الغربة، اليتيم، الفريق، وأوراق. متحدثاً عن عالمه الروائي.. وأمام العروي قارئ الرواية والمتابع لها عربياً، وعالمياً. يناقش العروي قضايا ومفاهيم متعلقة بالسرد الروائي أهمها: اللغة، الشكل، الموضوع، العقدة، والزمن. وهو يدلي بدلوه مستعيناً بأقوال ونتاجات كبار الروائيين. ويطرح بالتأكيد أفكاراً لامعة.

لكن الصادم في كتابه بالنسبة لي، وربما لكثيرين ما يتبناه العروي من استنتاجات، وأحكام، وسنكتفي هنا بذكر ثلاثة أمثلة من أحكامه:
ـ «مع اننا لا نجد عنده جملة واحدة يمكن أن نعتبرها دقيقة في تعبيرها»، هكذا وصف ديستوفسكي، معتبراً أنه «لا يمثل قمة الصناعة الروائية رغم أهميته».
«أما الكتاب الايطاليون الآن فهم يبحثون عن رواية في شكل لعبة ذهنية. وهذا ما سار فيه أمبرتو ايكو، وما سار فيه دينو بوزاتي، وايطالو كلفينو وما سار فيه في المسرح، برندلو».
«في نظري، لا يحس نجيب محفوظ باللغة زيادة على أشياء أخرى. وجائزة نوبل لا تغير شيئاً». ثم يعود ويكرر «فنجيب محفوظ لا يعير، حتى الآن، أية أهمية الى الوسيلة اللغوية».
هذه مجرد عينة من أحكامه الصادمة، ومع تسليمنا له بحق الطرح والتحليل دون تقديس أحد، فهو ما يعطينا الحق ذاته في مناقشته وعدم التعامل مع أحكامه باعتبارها مقدسة. ولا يسعنا هنا بالطبع مناقشة كل حكم أورده، لكن ثمة ملاحظات عامة، فهو حين ينتقد أساطين الرواية ممن أشرنا اليهم، يبدو متفهماً لمنجز روائيين أقل منهم في المكانة والحضور، بل انه يستشهد مثلاً في تقييم ديستوفسكي، برأي هيمنغواي، صحيح أنه كاتب عظيم لكن منجزه القصصي قد يكون أهم من رواياته، وحضوره كروائي أقل من حضور ديستوفسكي. كما يعيب على فورستر قوله بأن لا أحد من الروائيين الانكليز استطاع أن يكون في «مستوى وحجم تولستوي» ثم يقع في نفس الآلية، في اطلاق الأحكام!
واذا أخذنا كلامه عن نجيب محفوظ نموذجاً للتحليل، فهو تقريباً سلبه «كل قيمة» بما فيها حصوله على جائزة نوبل، وهاجم «لغته»، وموضوعاته المتكررة، وعجزه عن ادراك «العقدة» التي تميز الشخصية المصرية، وهو يقصد ب «العقدة» الموضوع أو الثيمات التي تميز شعباً ما عن غيره، وربما هي أقرب الى مفهوم «الهوية» بتناقضاتها وصراعاتها.
اللغة بالنسبة الى اللغة، طرح العروي اشكاليات مختلفة تتعلق بازدواجية الفصحى والعامية، وقدرة اللغة على استيعاب مصطلحات الحضارة، والفروق الشاسعة بين معاجم كل لغة، فمثلاً ثراء الرواية الروسية والانكليزية مقارنة بالفرنسية، مرده، الى ثراء المعجم الذي يصل الى 200 ألف وحدة لغوية، بينما المعجم العربي 50 ألف وحدة.
وكلها اشكاليات، لا يُسأل عنها محفوظ، بل هو قد وقع تحت ضغوطها، مثل أي روائي عربي آخر. ولا تبرر له وصف محفوظ بأنه «لا يحس اللغة»، فهو حكم بالغ القسوة، والفجاجة، فمن الصعب حتى على كاتب متوسط الموهبة «ألا يحس اللغة» فما بالنا بكاتب امتدت علاقته مع اللغة لأكثر من ستين عاماً، وأكثر من خمسين عملاً. ولو كان محفوظ يتعامل ببلادة مع اللغة لجاءت أعماله نمطية ورتيبة، لكن أي قاريء عادي لأعماله سوف يفطن الى تحولاته اللغوية من رواية الى أخرى، وانفتاح معجمه على التراث، بكل تنوعه، من لغة الشعر الى لغة التصوف، ولغة العلم والحداثة، كما لا نعدم مفردات أجنبية هجينة، أو من اللغة المحكية.
صحيح أن محفوظ آثر أن يتجاهل اجمالاً «اللغة المحكية»، واستنطق شخصياته مهما كانت شعبية بالفصحى، لكن هذا لا يعني أن شخصياته فقدت روحها، وذاتيتها، فمن يقرأ مثلاً الحوار الفصيح بين اللص سعيد مهران والصوفي الشيخ الجنيدي في «اللص والكلاب» سيدرك بسهولة، الفروق اللغوية والأدائية بين طرفي الحوار، رغم التزامهما بالفصحى.
وهذه القضية ثار جدل طويل بشأنها، منذ أن بدأ محفوظ الكتابة، ورأينا من انتبه مبكراً الى حساسية محفوظ اللغوية واشتغاله عليها، ومنهم يحيى حقي عندما قارن «اللص والكلاب» لغوياً ب «الثلاثية»، ووصف هذه ب «اللغة الديناميكية» والأخرى ب «اللغة الاستاتيكية».
ولو انتقى أي قارئ عدة أعمال من محطات مختلفة لمحفوظ مثل: عبث الأقدار، اللص والكلاب، ملحمة الحرافيش، يوم قتل الزعيم، وصولاً الى «أحلام فترة النقاهة» و«أصداء السيرة الذاتية»، سيدرك بكل سهولة، مدى التفاوت الواسع في مستويات اللغة، والبناء الفني أيضاً.

محفوظ وديستوفسكي.. نال من أدبهما العروي

لكن العروي لا يرى كل ذلك، بل يصر أن يسدد لكمة نهائية لقضية اللغة عند محفوظ، رغم أننا اذا طبقنا معياره، وحكمه هو، على رواياته علماً بأنه جاء بعد محفوظ بسنوات طويلة جداً، ولم يحمل مثله عبء التأسيس الروائي لن نعثر على شيء ما تحقق، أو تطور في سرد العروي. ففي روايته «اليتيم» للعروي المكتوبة في السبعينيات نقرأ:

«تجاوزت مقهى الواحات حيث أشرب عادة قهوة الصباح، وتنكبت مطعم بريطانيا حيث أتناول وجباتي، وتابعت الشارع الكبير قاصداً ملتقى المدائن».
سطر كاشف أسلوبياً، أنه أقرب الى التلمذة في مدرسة محفوظ، لم يخرج عنها ولم يتمرد أسلوبياً، رغم أن السرد العربي عموماً تجاوز محفوظ لغوياً مع أجيال تالية منذ الخمسينيات من القرن الماضي وهو ما نراه بوضوح في كتابات يوسف ادريس وبهاء طاهر وادوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وصنع الله ابراهيم.
وهي مفارقة تستحق التأمل، فالعروي الذي يحمل معولاً لهدم البناء اللغوي لمحفوظ، يبدو متأثراً به، وعاجزاً عن تجاوزه! والمثير للدهشة أكثر أنه فيما يهاجم العربية لضيق معجمها، وميلها الى الوجدانيات وخلوها من لغة الحضارة، يعود فيدافع عن كتابة رواياته بالعربية رغم اتقانه للفرنسية والانكليزية الأوسع معجماً ويبرر ذلك بالقول: «أتلذذ بقراءة اللغة العربية والكتابة بها حين لها من قوة ايحائية بسبب تركيبها الاشتقاقي وبسبب التكسير، بحيث يمكن للانسان (لا أقول يتلاعب، ولكن يحس أنه يسيطر على المادة اللغوية)، وهو شيء صعب في اللغات الأخرى التي لها أشكال محددة، بعد أن قطعت كل العلائق مع جذورها الاشتقاقية»!
العقدة

العروي

القضية الثانية التي نسف فيها مشروع محفوظ هي «العقدة» التي يشرحها برادة في مقدمته بأنها ليست الحبكة ولا العقدة النفسية، بل هي تعبير عن «الموضوع الشاغل» لمجتمع ما، يتطلع الى حلها، والروائي المستحق لهذه الصفة هو من يجعل وكده في تجسيد هذه العقدة التي تكون حصيلة ما تركه التاريخ من بصمات على سلوك الناس ومتخيلهم وفي ثنايا لا وعيهم. وهو من يخاطب شيئاً أعمق، وراء الاتجاهات السياسية والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والعقائد الدينية. ويوضح العروي أنه لمس عقدة الشعب المصري نوعاً ما في فيلم «المومياء» لشادي عبد السلام، لكنه لم يلمسها في ابداع نجيب محفوظ! صحيح أنه تكلم عن التراث الشعبي ومسجد الحسين «ولكن لم أجد فيه تلك العبارة المنيرة للعقدة المصرية التي أجدها عند طوماس مان».

أقرب فهم لمعنى «العقدة» أنها تعني «الهوية بكل صراعاتها وتناقضاتها»، وليست كمعطى ثابت، ونهائي. واذا كان نجيب محفوظ الذي امتد مشروعه ليغطي تواريخ مصرية بعيدة منذ عصور الفراعنة، عجز عن ادارك العقدة المصرية والتعبير عنها.. فمن الذي نجح في ذلك؟ وما هي تلك «العقدة المصرية» التي تلمسها العروي في فيلم «المومياء» ولم يعثر عليها في كل روايات محفوظ؟
قد يكون العروي محقاً في وقوع محفوظ في التكرار، ومحقاً في تفاوت نتاجه ابداعياً، لكنه بكل تأكيد غير محق في اصراره على عجز محفوظ عن تجسيد عقدة شعبه، فأية قراءة منصفة لمنجز محفوظ الأدبي ستدرك عمق انشغاله الدائم بمفهوم «العدالة»، أحد أكثر المفاهيم المؤسسة للوعي الجمعي المصري، حتى يكاد التاريخ الثقافي للشعب المصري طيلة آلاف السنين، أن يكون متمركزاً حولها، منذ «شكاوى الفلاح الفصيح» المكتوبة قبل أربعة آلاف عام.
أية قراءة منصفة ستدرك أن محفوظ وضع مفهوم «العدالة» في اطار حواري جدلي، ما بين معطيات الحداثة والارث الديني العميق متنوع المنابع: الفرعوني، المسيحي، الاسلامي، والصوفي. ورغم أن محفوظ منح نصه دائماً بعداً فلسفياً كونياً، لكنه لم يسقط من حسابه الهوية المصرية للنص، وهو ما تم مناقشته حد الملل تحت لافتات «المحلية والعالمية» وأن «المحلية هي التي تؤدي الى العالمية». ويكفي للتدليل على ذلك، العودة الى روايته «أولاد حارتنا» التي تعد تأريخاً للدين، ذات طابع تجريدي، وكيف أعاد محفوظ كتابتها تحت عنوان «ملحمة الحرافيش» بعدما «وكد في تجسيدها» وفقاً للهوية المصرية.
وهل يعقل ألا يعبر محفوظ عن روح وهوية وعقدة الشعب المصري، ورغم ذلك تحظى نصوصه بكل هذا الاهتمام الشعبي، واعادة طبعها عشرات المرات؟ وهل يعقل أن يقبل صناع السينما والمسرح والدراما التلفزيونية على نصوصه بكل هذا النهم حتى يومنا هذا ورغم مرور عشرات السنوات على كتابتها، ما لم تكن معبرة ابداعياً عن عقدة هذا الشعب وثيماته ومتخيله؟
الجائزة
عندما ينسف العروي العمارة اللغوية المحفوظية، وثيمات الهوية المصرية عن نصه، فهو يدلل ضمناً على عدم جدارته بجائزة نوبل اتساقاً مع حكمه السابق والقاسي بعدم جدارة الرواية العربية كلها بجائزة نوبل، وهو الحكم الذي سقط بفوز محفوظ بالجائزة، وبدلاً من أن يراجع حكمه ويعيد اكتشاف المنجز السردي العربي بأدوات مختلفة، أصر العروي على صحة حكمه واتهم ادارة الجائزة بأنها منحتها لمحفوظ لأنهم «لم يقرأوه في النص الأصلي» بمعنى أن الترجمة الانكليزية وغيرها، هي التي أضفت على نصه عمقاً ما! فهل يعقل أن اللجنة ليس لديها خبراء ثقات في كل لغة لترشيح وتقييم الأعمال المستحقة للجائزة في لغتها الأصلية ومدى أصالتها وتأثيرها في مجتمعها؟ وهل معنى ذلك أن فوز كتاب يابانيين وصينيين بالجائزة مرده أيضاً الى «الترجمة»؟!
الغريب أن العروي في اشاراته الى منجز الرواية العربية، لا يبدو مشغولاً الا بـ«نجيب محفوظ» فقط، لا يتحدث الا عنه ولا يستشهد الا به.. فلا نعثر على أسماء لمشاريع أخرى مثل الطيب صالح وعبد الرحمن منيف وبهاء طاهر وجبرا ابراهيم جبرا.. ألا يعني ذلك، بغض النظر عن اللكمات التي يسددها الى محفوظ، مدى التأثير البالغ الذي مارسه نص محفوظ وأنه عن جدارة واستحقاق المؤسس الفعلي للرواية العربية، والمتن الأعظم، حتى الآن؟! بل ان اشاراته النادرة الى أسماء أخرى تأتي مرتبكة، وتفتقر الى الدقة، مثل قوله «كانوا يقولون بدأت الرواية مع حسين هيكل، ثم جاء نجيب محفوظ فعمقها، ثم سار الشرقاوي في تعميقها» لا أدري من يقولون ذلك! وفي موضع آخر يقول «لا الشوارع الخلفية كما ذكر عبد الرحمن الشرقاوي في روايته «الأرض». هاتان اشارتان الى الكاتب الراحل عبد الرحمن الشرقاوي، ولا أظن أن أحداً قال انه طور الرواية، لأن انتاجه فيها محدود وهو معروف أكثر كشاعر ومسرحي! كذلك «الشوارع الخلفية» لم تذكر في رواية «الأرض» بل هي رواية منفصلة أخرى للشرقاوي!
قد تكون أحكام العروي القاسية بشأن محفوظ، أو غيره من الروائيين العظام، مردها الى بنية الحوار الاختزالية التي لا تتيح القدر الكافي من التدقيق والاستشهاد، وتميل الى اختلاق «مانشيتات» والأمر الثاني أنه يتعامل مع المنجز السردي والجمالي بمعطيات التنظير الاجتماعي والتاريخي.
كما انه يبدو محكوماً بتصور أحادي لما يسمى «رواية» فيجعل أي نص لا يدخل تحت تصوره مجرد قصة أو لعبة ذهنية.. وهو تصور يخصه. فهو مثلاً يفترض أن حجم المعجم يلعب دوراً في المنجز الروائي، وهذا ليس صحيحاً الا بشكل جزئي، بدليل أن شعوباً كثيرة محدودة المعجم أنتجت روايات عظيمة. كما يكرر الكلام عن أهمية المدينة والشوارع باعتبارها الفضاء الأهم للرواية حيث نشأت وتطورت في انكلترا وفرنسا وروسيا.. ثم لا يضع قاهرة محفوظ بحرافيشها وموظفيها وباراتها وتكاياها، على قدم المساواة مع لندن وباريس وسان بطرسبورغ! بمعنى أن هذه المدن شكلت قيمة مضافة لروائيها، أما القاهرة ف «لم تكن في مستوى لندن أيام ديكنز».. واذا لم تكن القاهرة مدينة للرواية العربية فأي مدينة عربية أخرى تصلح لها؟ واذا لم يكن محفوظ الذي عاش فيها أكثر من تسعين عاماً، واتخذها فضاء لنصه، هو روائي المدينة العربية، فمن يكون؟!

One Response to عبد الله العروي يسدد لكماتٍ قاسية إلى نجيب محفوظ!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات