نيلسون مانديلا .. الضوءُ الذي اخترقَ ظلماتِ السجون ليضيء للأجيال!!

12:43 صباحًا الجمعة 20 ديسمبر 2013
بشير عياد

بشير عياد

شاعر ، وناقد ، وكاتب ساخر ، يغني أشعاره كبار المطربين، له عدة كتب في نقد الشعر، متخصص في " أمّ كلثوم وشعرائها وملحنيها " .

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

سلام إلى مانديلا

ربّما كانت البقعة التي سقطت على الثوب الأبيض للزعيم الأسود نيلسون مانديلا  وهو على فراش الموت وفي الهزيع الأخير من مشواره الاستثنائي في الدفاع عن الحرية وكرامة الإنسان هي الأسوأ في حياته ، تلك البقعة أو الوصمة التي ألصقتها به الأفواه المشروخة عندما قالت إن مرسي العيّاط هو مانديلا العرب ، وربما كانت هذه الأكذوبة سببا في المضاعفات الجانبية التي ألمّت بالرجل الفذّ وهزمته ، وهو الذي هزم الهزيمة وقهَرَ القهر وانتصر على كُتل السواد التي تجمّدت في زنازينه المتعددةِ على مدار سبعة وعشرين عاما في السجون العنصرية القاسية ، قضاها صامدًا جسورًا واثقًا ثابتًا متفائلا ، لم يسمح لليأس أن يشاركه ليله السرمدي المعتم ، ولا للإحباط أن يتسلل إليه من تحت الوسادة البالية القاسية وهو ممدد على حصير تأنف العين رؤيته ، ولم يمنح أعداءه وسجّانيه الفرصة لأن يشمتوا أو يروه في موقف ضعف أو ندم أو استكانة .
 مانديلا ، المفعم بالوطنيّة والإنسانية ، نزف شبابه في الثورة وفي التحدّي والوقوف في وجه العنصريين البيض من أجل قيم الحرية والعدالة والمساواة في كلّ وطنه ـ جنوب أفريقيا ـ ولم يدُر بذهنه مرّة واحدة أن ينادي بالحرية أو المواطنة لأبناء أهله وعشيرته من السود أصحاب الأرض الأصليين ، بل كان همّه منصرفا إلى كلّ مَن يقيم على أرض الوطن بيضا كانوا أو سودًا ، لدرجة أنه اختلف مع حلفائه وزملائه في الكفاح عندما وجد من بعضهم ميلا إلى الدفاع عن حقوق السود فقط والمطالبة بها ، وعندما ساومته السلطات ـ عدة مرات ـ على أن يمنحوه الحرية وبعض المكاسب الأخرى في مقابل التخلّي عن أفكاره والنأي بنفسه عن المتاعب والمنغّصات بعد أن أنهكه المشيب وسرحت في جسده كل صنوف الأمراض التي ما كان لينجو منها ولو كان جسمه من الحديد ، أبى ، وظلّ قابضًا على جمر مبادئه ، لا يتزحزح ولا يتنازل ، ولا يخفف الضغط قيد أنملة .

مانديلا، ابن زعيم قبلي (١٩٦١)

كانَ الرجل يحملُ الوطن بداخله ، ويأخذه في أحضانه ليستضيء به ويستدفئ وينام ، الوطن بكل أطيافه وشرائحه ، وبأرضه وسمائه وأشجاره وأطياره وأنهاره ، منعوا عنه الزيارات ، والرسائل ، والصحف ، وآذوه نفسيا وجسديا ، وكان وهو يقاسي في الأشغال الشاقة خصوصا عندما نقلوه للعمل في الجير بدلا من الصخور ، يسترحمهم ليسمحوا له بارتداء نظّارة تقي عينيه الغبار الجيري ، لكنهم رفضوا ، وأصروا على طغيانهم وجبروتهم ليجبروه على التراجع والرضوخ ، فلم يتراجع ولم يرضخ ، وارتضى أن تصاب عيناه وأن يعاني حتى آخر حياته في سبيل أن تتحقق أهدافه وأحلامه التي لم يحلمها لنفسه ولا لعشيرته التي تعد من أكبر العشائر في جنوب أفريقيا ، كان الرجلُ يحلُم للوطن ، الوطن فقط ، وللأبد ، لم يحلم للجماهير التي تهتف باسمه في الشوارع والميادين والصحف ، ولم يحلم للذين تتفتح أعينهم ويعرفونه للمرة الأولى مع كل نهار ، بل حلُم لهم ولكل الأجيال المقبلة ، ظلّ يبذرُ أيّامه في صحراء الألم ويرويها بالصبر وبالقيم وبالثبات لتكون أشجارًا وثمارا وظلالا لكل القادمين على أرض بلاده إلى يوم القيامة ، أما الأنانية والمطامع الخاصة والمنافع الوقتيّة فلم تستطع التسلل إلى ضميره النقي ونفسه العفيفة الشريفة المترفّعة ، ارتضى قسوة السجون بكل ما فيها من امتهان وتعذيب ولا إنسانية ، نزف أجمل سنوات عمره ( من 12 يونيو 1964إلى 11فبراير 1990م ) ،

يوم الحرية

ودفعها راضيًا سعيدا ما دام فيها الخلاص والحريّة والسعادة والرفاهية لكل الأجيال القادمة ، كان يبتسم لمعذبيه وسجانيه ، ولم يهتز وهو في زنزانة قذرة  عندما يتحدّاه نظام متكبّر تدعمه المرأة الحديدية ( مارجريت تاتشر ) وتحثهم على عدم الإفراج عنه ، وبرغم كلّ هذا خرج إلى صباحه الجديد الذي أشرق على أمته ووطنه ، قابل كلّ المساومات بالرفض ، ولم يسمح لأحد أن يتسلل إليه سرًّا ، وظلّ يفاوض ويثابر علنًا وعلى رؤوس الأشهاد حتى جنت بلاده ثمار ما زرع ، ورأت أحلامه تتسابق في شوارعها وميادينها ، وبعد أن أنهى سياسة الفصل العنصري ، وبعد أن اكتسح الانتخابات وصولا إلى رئاسة الدولة ، لم يشأ أن يستبد ، ولم يقل : لقد قضيت زهرة شبابي في السجون من أجلكم ، ولكن أصر على أن تكون ولايته ولاية واحدة بدأت في العاشر من مايو 1994م ،وفي التاسع والعشرين من مارس 1999 ألقى خطاب الوداع ليتقاعد في يونيو من العام نفسه ، بعد أن أسس للحرية والمساواة ، ووضع دستورا للوطن وليس لفئة على حساب الآخرين ، كما امتد نشاطه السياسي خارج الحدود معلنا عن ميلاد جنوب أفريقيا جديد ، وكان من أهم مواقفه تحدّيه لإسرائيل على أرضها إذ أعلن على الملأ أنه يدعم ياسر عرفات والفلسطينيين ويساندهم من أجل نيل حقوقهم المشروعة ، وأنهم مثله تماما عندما حارب من أجل تحديد مصير مواطنيه ، وقال إن على العرب أن يعترفوا بحق إسرائيل في الوجود ولكن خارج الأرض المحتلة ، وبعد تركه للرئاسة لم ينسحب من الساحة السياسية ، وكان من أشجع المجاهرين برفض العدوان الأمريكي على العراق في الحرب القذرة التي قادها الأرعن جورج بوش الابن وكان قاسيا في هجومه عليه في خطب متتالية ، ووصفه بما لا يجرؤ أحدٌ ( ذو قيمة مثل مانديلا ) على وصفه بها ، كما انتهز الفرصة ليمسح بكرامة الرؤساء الأمريكيين الأرض ـ بأثر رجعي ـ فانتقد ما فعلوه بهيروشيما ونجازاكي والفلبين ..إلخ ، مُجملا القول :” ليس هناك دولة في العالم ارتكبت فظائع غير قابلة للوصف مثل الولايات المتحدة الأمريكية ، وهم لا يبالون ” .

في الخامس من ديسمبر 2013م رحلَ نيلسون مانديلا ، أو ماديبا ، اسمه الأصلي ، بعد حياة حافلة بكلّ أنواع العطاء الإنساني ، أعطى حريّته وسبعة وعشرين عامًا من عمره كضريبةٍ وفداءٍ منه ليعيش وطنه عمره كلّه في ظلال الحريّة ، رجلٌ ، وقفت الكرة الأرضية كلها احترامًا لبطولته وحزنا على رحيله بالرغم من أنه بلغ من العمر عِتيّا ، ولم يشذ عن المشهد سوى بعض مشايخنا الكرام الذين حرّموا الترحّم عليه باعتباره كافرًا ، ونسوا أن ملايين المصريين الشرفاء ، وأعني المسلمين ، كانوا يتبادلون العزاء في البابا شنودة ، في الشوارع أو على الفيس بوك بالآيتين الكريمتين “إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون “، و” يا أيّتها النفسُ المطمئنّةُ ارجعي إلى ربّكِ راضيَةً مَرْضيَّة “، وإن كان هؤلاء لم يراعوا حُرمة الموت وجلاله ، فالكثيرون لم يراعوها عندما رحل الشاعر أحمد فؤاد نجم قبله بيومين ، وقالوا فيه ما قالوا ، متصوّرين أن الموت سينساهم ويتركهم للتهكّم على أولئك الذين يرحلون وتنعدم فرصتهم في الدفاع عن أنفسهم!!
 رحل مانديلا ، وترك بذور الحريّة في أرض بلاده ، تلك البذور التي رواها برحيق عمره ، لتظل تنبت وتورق وتثمر وتتكاثر ، وليعرف الناس الفرق بين مَن يدفعون العمر من أجل الوطن ، ومَن يدفعون العمر من أجل حَرقه وتدميره وإغراقه في الفوضى والخراب.
ــــــــــــــــــــــــــ
(( عن العدد 97 من جريدة ” فيتــــو “، الثلاثاء 17ديسمبر 2013م ، بورتريه ، ص 9 ))

One Response to نيلسون مانديلا .. الضوءُ الذي اخترقَ ظلماتِ السجون ليضيء للأجيال!!

  1. بشير عياد

    basheer ayyad رد

    20 ديسمبر, 2013 at 12:49 ص

    لن أتردد ، في كلّ مرة ، سأجيء لأعرب عن دهشتي وذهولي ، وعجزي عن الشكر !!
    شكرا لروحك وذوقك ـ أخي أشرف أبو اليزيد ـ أنتم تعطون ما نكتب أبعادا أخرى بهذه الجماليات الخرافيات .
    شكرًا كثيرًا لكم .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات