عبدالوهَّاب محمّد … عُصارةُ شعراءِ الأغنيةِ في القرنِ العشرين

01:45 صباحًا الثلاثاء 24 ديسمبر 2013
بشير عياد

بشير عياد

شاعر ، وناقد ، وكاتب ساخر ، يغني أشعاره كبار المطربين، له عدة كتب في نقد الشعر، متخصص في " أمّ كلثوم وشعرائها وملحنيها " .

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

عبد الوهاب محمد ( آخر صورة له على الإطلاق ، 7 نوفمبر 1995م )

 

– أطلقتْهُ أمُّ كُلثوم في فضاءِ الستينيّاتِ فأَصْبَحَ متعهّدَ النّجاحِ للأصواتِ الأصيلة

– معرفتُهُ بالشعرِ القديمِ كانت جوازَ مرورِهِ إلى مجالسةِ أمّ كُلثوم ، وعشقُهُ للفصحى جعلَ لعاميّتِهِ وأزجالِهِ مذاقًا فريدًا .
ـ كلماتُهُ .. جامعةٌ للدولِ العربيّةِ الغنائيّة .
ـ لم ينجحْ في تحقيقِ رغبتِهِ بأنْ يكونَ موسيقيًّا ، فعزفَ أعذبَ الألحانِ على أوتارِ كلماتِه .
ـ اكتفى بأنْ يكونَ صديقًا لعبد الحليم حافظ  ورفضَ التعاملَ الفنّي معه .
ـ متى يرقّ قلبُ فيروز وتفرجُ عن رائعتِهِ ” آهِ لو تدري بحالي ” ؟
ـ وهل تجودُ الأيّامُ بأصواتٍ تصلُحُ لغناءِ ما لم يرَ النورَ من أشعارِه ؟
بالرّغمِ من أناقةِ العاميّةِ المصريّةِ التي يعتبرُها أشقّاؤنا العربُ بديلاً من الفصحى  عندما تضيقُ بهم سبلُ التفاهمِ إذا التقى اثنانِ أحدهما من المشرقِ والآخرُ من المغربِ ولم يستطيعا التحاورَ بلهجتيهما المحليّتينِ أو بالفصحى ، إلا أنَّ يختلفُ تمامًا عندما نكونُ في رحابِ الإبداعِ إذ يبدو الفارقُ شاسعًا بينَ الشاعرِ الذي يأتي من الفُصحى إلى العاميّةِ ، وزميلِهِ الذي يدخلُ إلى العاميّةِ من بابِ الزّجلِ مباشرةً .
وفي حقلِ الأغنيةِ المصريّةِ تلوحُ عشراتُ الأسماءِ  التي جاءت من الفصحى إلى العاميّةِ فأحدثت قفزةً واسعةً في الأفكارِ والمعاني والصّورِ ، وفي مقدّمةِ هؤلاءِ يأتي إسماعيل باشا صبري ثمّ أميرُ الشعراءِ أحمد شوقي وأحمد رامي وبيرم التونسي ، ثمّ الموجةُ التاليةُ لهؤلاءِ الرّوّادِ من شعراءِ الأغنيةِ الذينَ جمعوا بين الفصحى والعاميّةِ وأحدثوا قفزةً أخرى أوسعَ من التي أحدثها الكبارُ ، ما جعلهم يملأونَ وسطَ القرنِ العشرينَ بآلافِ الأعمالِ الخالدةِ التي سكنت الوجدانَ والذكرياتِ لعدّةِ أجيالٍ ، وما تزالُ ساريةً في الزمن ، وفي مقدّمةِ هؤلاءِ مأمون الشنّاوي وطاهر أبو فاشا وصالح جودت ومرسي جميل عزيز وعبد الفتّاح مصطفى ثمّ فاكهةُ الأغنيةِ العربيّةِ وساحرها الشاعرُ ( الشاب ) عبد الوهّاب محمد الذي بدأ الطريقَ من القمّةِ وكانَ حديثَ الستينيّاتِ عندما فاجأتِ السيّدة أمّ كلثوم الجميع باختيارِ أغنيةٍ من كلماتِهِ لتبدأَ بها موسمَها الغنائي 1960 / 1961م ، ويومها لم يكنِ جمهورُ الأغنيةِ يعرفُ له سوى أغنيتينِ إحداهما لإبراهيم حمّودة ، والأخرى لفايزة أحمد وهي الأشهر من الأولى وكانت ” ما تحبّنيش بالشكل ده  “.
كانت أمّ كُلثوم تدرِكُ موقعَ صوتِها على خريطةِ الفنّ العربيّ ، ولم يكن من السهلِ عليها وهي تقطعُ العقدَ الأخيرَ في مشوارِها الفنّي الذي التهمَ نصفَ قرنٍ من الزمانِ ، أن تضمَّ في صفحاتِ كتابِها أيَّ شاعرٍ لمجردِ ملءِ الفراغِ أو إكمالِ الخطواتِ المتبقيّة ، فقد كانت ذوّاقةً إلى أبعدِ مدى ، وكانت ناقدةً قاسيةً إلى الحدِّ الذي لا يُطاق ، ولذلكَ كانت المفاجأةُ الكبرى التي هزَّت الوسطَ الفنّيَّ والإعلاميَّ في اليومِ الأولِ من شهرِ ديسمبر عام 1960 عندما تناقلت الصّحفُ خبرَ الحفلِ الذي ستُحيِيهِ أمُّ كُلثوم في المساء ، وأنها ستغنّي أغنيةً جديدةً من كلماتِ الشاعرِ الشاب عبدالوهَّاب محمد !
  في ذلكَ الوقتِ لم يكن المستمعونَ يعرفونَ عن هذا القادمِ المتحفّزِ  إلا أغنية ” ما تحبّنيش بالشكل ده ” التي غنتها فايزة أحمد قبلَ أكثر من عامين ، وكان الشاعرُ قبلَها يكتبُ أعمالاً هامشيّةً في البرنامجِ الفُكاهي ” ساعة لقلبك ” ، ومن خلالِهِ اقتربَ من الموسيقارِ الناشئِ بليغ حمدي الذي سيصبحُ أهمَّ رفقاءِ مشوارِ الصعود ، وشاءَ القدرُ أن يقدّما معًا أغنية ” ما تحبّنيش بالشكل ده ” التي لقيت نجاحًا منقطعَ النظير ، ولكن ليسَ إلى الدرجةِ التي يتخيّلُ فيها أكبرُ المتفائلينَ أنَّ لقاءَهما القادمَ معًا سيكونُ على صوتِ أمّ كلثوم ، معَ عدمِ معرفةِ الكثيرينَ بالأغنيةِ التي كتبها لإبراهيم حمّودة ولحّنها فهمي فرج بعنوان “عودوا كفاية بعاد “.

عبد الوهاب محمد مع أمّ كلثوم ومحمد عبد الوهاب في بروفة ” فكّروني

كيفَ جاءَ اللقاءُ بأمِّ كُلثوم ؟

كان الشاعرُ الشاب وصديقُهُ الملحنُ الذي يصغرُهُ بعامينِ يعدّانِ أغنية ” حبّ أيه ؟ ” ولا يدركانِ من سيغَنيها ، قيلَ محرم فؤاد ، وقيل ثريا حلمي ، وقيل إبراهيم خالد ( ابن شقيق أمّ كلثوم ) ، ولكنَّ القدرَ كانَ يخبّئُ صدفةً لا تخطرُ على بال ، إذ قامَ الفنان محمد فوزي بترتيبِ سهرةٍ يُفاجَأُ فيها بليغ حمدي أنه أمامَ أمِّ كُلثوم ، وكانَ ذلكَ في منزلِ الدكتور زكي سويدان ، وبعد التعارفِ ظلَّ بليغ مرتبكًا إلى أنْ طلبت منه أمُّ كُلثوم أن يغنِّي شيئًا من أعمالِهِ ، فأسمعها جزءًا من ” حبّ أيه ” ، وهوجالسٌ  على الأرض ، فظلَّت تطالبُهُ بالإعادةِ إلى أنْ فاجأت الحضورَ ونزلت لتجلسَ إلى جوارِهِ وتردِّدَ معَهُ ، ثم دعتْهُ إلى أن يزورَها صباحَ الغَدِ في منزلهِا ـ الذي كانَ ـ على نيلِ الزمالك.

غلاف كتاب أصدره الشاعر بشير عياد عن الراحل ، يناير 1998م

ذهب بليغ وكلُّ تفكيرِهِ أنها ستوصيهِ خيرًا بابنِ شقيقِها الذي يريدُ أن يغنّي ، لكنَّهُ فوجئَ بها تطالبُهُ بأنْ يغنّي ” حبّ أيه ” ثم تغنّي معه ، ثم تسألهُ عن المؤلفِ فيقولُ لها صديقي عبدالوهَّاب محمد مؤلف أغنية ” ما تحبنيش بالشكل ده ” ، فسألتهُ : أينَ هو ؟ قال : يعملُ بأحدِ فروعِ شركة ” شِل ” للبترول بكوبري القبة ، فطلبت منه أن يستدعيَهُ بالتليفون ، لكنَّ الشاعرَ ظنَّ أنَّ صديقَهُ يمازِحُهُ ، فطالبَهُ بالكفِّ عن هذا الأسلوب ، وأدركت أمُّ كُلثوم أن عبدالوهَّاب لا يصدِّقُ ، فتناولت التليفونَ آمرةً : ” صباح الخير يا إبني .. اركب أي تاكسي وتعال البيت فورا ” ، وفي سرعةِ البرقِ كان عندها بملابِسِهِ البسيطةِ التى تفوحُ منها رائحةُ البترول ، رائحةُ العملِ الشريفِ ، فلاحظت أنَّهُ خجولٌ وضئيلُ الجسمِ مثل صديقِهِ ، فقالت له : ” انت شاعر هايل ، كنت فاكراك كبير .. انت عندك كام سنة ؟ ” ، قال : 25 سنة ، فردّت على الفور : ” دا سنّك والَّا تأبيدة ؟؟ ” فضحك ثم قال : بصراحة عندي 28 سنة !! وعندما اطمأن إليها بدأ يتجاوبُ معها ، فطالبَتْهُ بأن يُسمعَها بقيةَ الأغنية ، فأسمعَها ، ووسطَ حالةٍ من الصمتِ دوّى صوتُها : ” أنا ح ابدأ بيكم الموسم الجديد ” وطالبتْهما بألا يبوحا بالسّرِّ ، فأخفياهُ عن أقربِ الأقربين ، ولم يعلمْ أحدٌ بالخبرِ إلا بعدَ أنْ تداولتْهُ الصحفُ من خلالِ تصريحاتِ أمِّ كُلثوم نفسها قُبيلَ الحفل !
 منذُ ذلكَ التاريخِ انطلقَ اسمُ عبدالوهَّاب محمد كعطرٍ ممطرٍ في سماءِ الفنِّ الراقي الأصيل ، وأصبحَ أهمَّ جُلساءِ أمّ كلثوم من الشعراءِ ـ بعد رامي ـ إذ وجدتْهُ ملمّا بتاريخِ الشعرِ العربيِّ ، والتقى ذوقاهما في منطقةِ الشعرِ العبَّاسيِّ التي كانت أمّ كُلثوم مفتونةً بها وتحفظُ أمّهاتِ أشعارِها ، وبعدَ النجاحِ السّاحقِ الذي حقّقتْهُ حُبّ أيه ؟ لم ينجُ عبد الوهّاب محمّد من الغَيرةِ والحسدِ فادّعى أحدُ الشعراءِ الذين يكتبونَ الأغاني أن عبد الوهّاب محمّد سرقَ منهُ ” حُبّ أيه ” ، ولكنّه فشلَ في إثباتِ ذلكَ أمامَ القضاء ، فما كانَ من أمِّ كُلثوم إلا أن تدعمَ شاعرَها الجديدَ دعمًا أكبرَ بأنْ تغنِّي من كلماتِهِ أغنيتينِ جديدتينِ معًا لأوّلِ مرّةٍ ، وهما ” ح اسيبك للزمن ” ( ألحان رياض السنباطي ) ، ” ظلمنا الحب ” ( ألحان بليغ حمدي ) في أوّلِ حفلٍ لها في افتتاحِ موسمها الغنائيّ 1962 / 1963 ، في سهرةِ الخميسِ ، السادسِ من ديسمبر 1962م ، وهذا الحقُّ كانَ مقصورًا فقط على شاعرِها المزمنِ ومعلِّمِها الأكبرِ والأهمِّ أحمد رامي .

أرملته ، السيدة خديجة النصيري وبشير عيّاد ، وخلفهما صورته ، من أرشيف الزميلة ولاء عبد الله .

كانَ الشاعرُ عبد الوهّاب محمّد قد بدأَ رحلتَهُ بكتابةِ الفصحى ، ولم يتخيلْ أن يتجِهَ إلى العاميّةِ أو الزّجلِ المصريّ الدَّارج ، فهو ابنُ أحدِ رجالِ الأزهرِ الشريفِ ، وبيتُهم عبارةٌ عن مكتبةٍ كُبرى  تضمُّ أمّهاتِ الكتبِ في الفقهِ والأدبِ والتاريخ ، وكانت مهمّتُهُ أن يقرأَ لأبيهِ الكفيف ، كما أنَّ كلَّ أصدقاءِ الأبِ من العلماءِ والمشايخ ، وحديثُهم العاديُّ لا يدورُ إلا بالفصحى ، ولا يميلُ إلى العاميّةِ إلا بحذرٍ وحساب . كانَ الشاعرُ في بداياتِهِ يرغبُ في أنْ يكونَ موسيقيًّا ، لكنَّهُ لا يجرؤُ على مجرّدِ التصريحِ بذلكَ في بيتِهِم المحافظِ الذي لا يمكنُ أن يقبلَ بأنْ يحملَ أحدُ الأبناءِ آلةً موسيقيةً ويمشي بها في الشارع !! لكنَّهم فرحوا بنبوغِهِ الشعريِّ وهو ابنُ التاسعةِ من العُمر ، وشاءَ القدَرُ أنْ يرحلَ الأبُ فجأَةً ، ولا يستطيعُ الشاعرُ إكمالَ تعليمِهِ ، فيبحث عن عملٍ بشهادةِ الثانويةِ العامّةِ ليعولَ أسرتَهُ التي فقدت  الأبَ ، ولم يجدْ أمامَهُ سوى فرصةٍ بمحطّةِ بنزين ، تابعةٍ لشركةِ ” شِل ” كما أسلفنا .

جاءَ عبدالوهّاب محمّد من الفُصحى إلى العاميّةِ ، ووصلَ  إلى الزَّجلِ في أبسطِ حالاتِه ، وانطلقَ من منصّةِ أمِّ كُلثوم ليغطِّي كلِّ الأصواتِ الجميلةِ التي كانت حولها وفيما بعدها عدا عبدالحليم حافظ الذي كانَ صديقًا للشاعرِ ، لكنّ عبدالحليم حاولَ استعراضَ عضلاتِهِ في أوّلِ لقاءٍ فنّيٍّ بينهما وظلَّ يُعدِّلُ ويبدِّلُ ، فقالَ له الشاعرُ : ” أمُّ كلثوم لم تفعلْ معيَ ذلك ، وأنا أعتذرُ ولن أكملَ فلن ننفعَ معًا ” وكانت الأغنيةُ مع بليغ حمدي أيضًا وعنوانُها ” حبيبة صديقي ” ( 1963 ) ولم يغنها أحدٌ إلى الآن ، وتوقَّفَ مشروعُ أغنيةٍ أخرى كانت مع كمال الطويل وهي ” حبّك هادي ” التي غنّتها لطيفة التونسيّة ـ بعد ثلاثينَ عامًا ـ بألحان زياد الطويل ، مع تغييرِ بعضِ الكلماتِ وضميرِ المُخاطَبِ من المؤنَّثِ إلى المذكّر، وبعدَ الخلافِ معَ عبد الحليم ( الذي ظلَّ من أقربِ الأصدقاءِ إلى عبدالوهّاب محمد حتّى رحيلِهِ في 30 مارس 1977م ) ، جاءَ الدَّورُ على بليغ حمدي الذي كان يدندنُ مع صديقِهِ الشاعرِ كلمات أغنية  ” فكّروني ” ، وذاتَ لقاءٍ مع أمِّ كُلثوم سألت عبد الوهّاب محمّد عن آخر كتاباتِهِ ، فقالَ لها إنّهُ بصددِ كتابةِ أغنيةٍ بعنوان ” فكّروني ” ، فطلبت منهُ أنْ يُسْمِعَها إيّاها ، فأسمَعَها المذهبَ فقط إذ لم يكنْ قد انتهى من كتابتِها كاملةً ، فأعجبَها المذهبُ أيَّما إعجابٍ ، وطلبتْ منه أنْ يكتبَهُ لها ، فكتبَهُ ، ثمّ فوجئَ بمكالمةٍ هاتفيّةٍ منها تقولُ لهُ فيها إنّها أعطت الموسيقار محمّد عبد الوهّاب كلماتِ المذهب ِ التي أعجبتهُ أيضًا، وطلبت منهُ أنْ يتّصلَ بهِ ، فاتّصلَ بعبد الوهّاب وأملاهُ ما كتبَهُ بعدَ المذهبِ ( وكانَ كوبليهينِ أو مقطعينِ ) فطلبَ منهُ عبد الوهّاب أن يكتبَ مقطعًا ثالثًا ويرسلَهُ لهُ  على عنوانِهِ في مَصِيفِهِ في ” بادن بادن ” إذ سيسافرُ بعدَ قليلٍ ، وتركَ له العنوانَ ، وعندما انتهى الشاعرُ من مهمّتِهِ أرسلَ الرسالةَ إلى موسيقارِ الأجيالِ الذي جاءَ من رحلتِهِ وفي جَعْبَتِهِ اللحنُ كاملاً ، ومع غناءِ الأغنيةِ ونجاحِها ثارَ بليغ على صديقِهِ الشاعرِ وقالَ لهُ كيفَ تتركُها لعبد الوهّاب بعدَ أنْ بدأتُ تلحينَها ؟ قالَ الشاعرُ : نحنُ لم نكنْ قد فعلنا شيئًا يُذكرُ ، فقط مجرّدَ دندنةٍ لبعضِ ما انتهيتُ منه ، ثمّ كيفَ أجرؤُ على رفضِ طلبٍ لأمِّ كُلثوم ؟ و…. حدثتْ جفوةٌ وفجوةٌ بينَ الصديقينِ وطالت كثيرًا ، ويشاءُ القدرُ أن يلتقيَا معًا على صوتِ أمّ كُلثوم في آخرِ عملٍ لها على الإطلاقِ وهو أغنيةُ  “حكم علينا الهوى “.

الشاعر مع أم كلثوم والموجي في بروفة ” للصبر حدود “

كتبَ عبد الوهّاب محمّد لكلِّ الأصواتِ ” الكُبرى ” وتعاملَ معَ كبارِ الملحنينَ بدءًا من رياض السنباطي وعبدالوهَّاب وصولاً إلى آخرِ موجةٍ من أبناءِ الفنِّ الأصيل ، واشتهرَ عبد الوهَّاب محمّد بأنّهُ ” متعهدُ النجاح ” فمعظمُ الأصواتِ كانت تبدأُ مشوارَها بكلماتِهِ ، كما اشتهرَ ـ وهو الأولُ في ذلكَ ـ بأنّهُ يكتبُ لكلِّ الأصواتِ العربيةِ الوافدةِ إلى القاهرةِ وفي مقدّمتها فايزة أحمد ووردة الجزائريّةِ وصولاً إلى لطيفة التونسيّةِ التي غنّت وحدها أكثرَ من مائة أغنيةٍ من كلماتِهِ ، ولديها عددٌ كبيرٌ لم يرَ النورَ بعد ، فوقَ ذلكَ كانَ بارعًا في كتابةِ أغنياتِ المسلسلاتِ الإذاعيّةِ والتليفزيونيّةِ والاستعراضاتِ المسرحيّةِ ( آخرها ” ريّا وسكينة ” ومع بليغ أيضا ) كذلكَ كانَ بارعًا في كتابةِ الأغنيةِ الدينيّةِ والأغنيةِ الوطنيّةِ ، كما يأتي عبد الوهّاب محمّد كرائدٍ لكتابةِ الشعرِ الغنائيِّ على الموسيقى ، وكانت البدايةُ بأغنية ” أنا وقلبي ” للفنانة شادية ( لحن إبراهيم رأفت )  وكانت شادية قد وقعت في مأزقٍ عند رفضِ السلطاتِ الإعلاميّةِ المرتعشةِ أن تغنّي أغنيةً من كلماتِ نجيب نجم لاقتراب اسمِهِ من اسم أحمد فؤاد نجم  المرفوضِ والمغضوبِ عليهِ إعلاميًّا ، ولإنقاذِ الموقفِ تدخّلت أمّ كلثوم التي كانت تحبّ شادية وتساندها ، وطلبت من عبد الوهّاب محمد أن ينقذَ شادية ، وكانت ثقتُها فيهِ كما يليقُ بهما ، ونجحَ نجاحًا باهرًا في كتابةِ النصِّ على لحنِ الأغنيةِ الموؤدة ، وبعدها كتبَ الكثيرَ من الأعمالِ الناجحةِ على موسيقى سابقة ، وفي مقدمةِ كلّ ذلكَ قصيدة  ” خشوع ” التي تؤدّيها الفنّانةُ المعتزلةُ ياسمين الخيّام ، وأغنية ” آل جاني بعد يومين  ” لسميرة سعيد ، وأغنية ” سلامات  ” لنادية مصطفى .

   وبعدَ أن كتبَ لأمّ كُلثوم تسعَ أغنياتٍ ، شاءَ القدرُ أن تكونَ العاشرةُ هيَ آخر أغنيةٍ في مشوارِها ، ليعودَ ويلتقيَ فيها ـ بعد عشرةِ أعوامٍ من ” ظلمنا الحب ” ـ   برفيقِ العمر بليغ حمدي وهي أغنية ” حكم علينا الهوى ” التي لم تستطعْ غناءَها في حفلٍ عام ، وسجَّلتْها بالإذاعةِ وطُرحَت على اسطواناتٍ في أبريل 1973 م ، وكما بدأَ بالفُصحى فقد تركَ عددًا من القصائدِ المغناةِ خصوصًا في الأعمالِ الدينيّة ، وحتى الآنَ لم تظهرْ إلى النورِ قصيدتُهُ ” آهِ لو تدري بحالي ” التي لحنها السنباطي لفيروز وسجّلتها في بيروت قُبيلَ رحيلِ السنباطي في العام ( 1981 ) ولحّن معها قصيدتينِ رائعتينِ من شعرِ جوزف حرب هما ” بيني وبينك ” ، ” أمشي إليك ” ولا أحدَ يدري متى ستفرجُ فيروزُ عن الألحانِ السنباطيّةِ الثلاثةِ خصوصًا بعدَ رحيل أحمد السنباطي ـ يرحمُهُ اللهُ ـ  الذي عانى مع فيروز وزياد الرحباني لأكثرَ من ربعِ القرنِ من أجلِ الإفراجِ عن ألحانِ أبيهِ ، ولم يصلْ معهما إلى نتيجة !

عبد الوهاب محمد مع مع ابنه محمد ( أيضا 7 نوفمبر 1995م )

وُلدَ عبد الوهَّاب محمّد في السابعِ من نوفمبر 1930 م ، وعَرَفَ المرضُ طريقَهُ إليهِ لحظةَ إبلاغِهِ نبأَ رحيلِ أمِّ كُلثوم ، زرعت الصدمةُ جذورَ الشللِ في الجانبِ الأيمنِ من جسدِهِ ، ثم جاءَ رحيلُ عبد الحليم فالسنباطي ليعمّقَ الجرحَ والأسى ، ومع نهاياتِ الثمانينياتِ من القرنِ الفائتِ بدأَ الشاعرُ رحلاتِ العلاجِ بالخارج ، ومع أوائلِ العام 1996 م ، حاصرتْهُ الآلامُ من كلِّ جانبٍ فأُدخلَ المستشفى بجوارِ منزلِهِ بحيِ الدُّقِّي بالجيزة ، وعادَ إلى المنزلِ يومَ الأربعاءِ ( العاشرِ من يناير 1996 ) ، ولكنها كانت الزيارةَ الخاطفةَ الأخيرةَ إذ عادَ إلى غرفةِ العنايةِ المركّزةِ يومَ السبتِ التالي مباشرةً ، وبعدَ شروقِ شمسِ الاثنين ، الخامس عشرمن يناير 1996 م ، فاضت رُوحُهُ إلى بارئِها ، تاركةً أصداءَها في ذكرياتِنا في مئاتِ الأغنياتِ الشجيّةِ ، بألحانِ كبارِ القرنِ العشرين ، وعلى أصواتٍ من الصعبِ تكرارُها وفي مقدّمةِ الجميعِ يقفُ صوتُ مصرَ الخالدُ أمّ كُلثوم ، وفوقَ ذلكَ فقد تركَ أكثرَ من خمسمائةِ نصٍّ في كلِّ ألوانِ الغناءِ لم تظهرْ للنورِ بعد ، وفي يقيني أنّهُ من الصعبِ أن تجودَ الأيّامُ بأصواتٍ يليقُ بها أن تغنّيها ، ولن يكونَ أمامنا سوى إصدارِها في ديوانٍ يحفظُها مع ما عرَفَهُ المستمعونَ من روائعِ كلماتِهِ المغنّاة .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات