قم يا صلاح .. دا الدنيا ربيع!

10:54 صباحًا الجمعة 27 ديسمبر 2013
شريف صالح

شريف صالح

قاص وروائي وكاتب صحفي، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

صلاح چاهين

عندما فجعت مصر كلها برحيله المباغت عام 1986 وهو في السادسة والخمسين من عمره، كنت صبياً في قرية بعيدة أقرأ مرثية كتبها شاعر لا أذكر اسمه لكن أبياته مازالت محفورة في قلبي:

 
«قم يا صلاح دا الدنيا ربيع
 
قم سمعني دا انا سميع
 
كل كلامك لحن بديع
 
طير بيغني أليف ووديع»
لا أحد يصدق! الشاعر الذي ملأ الدنيا حباً وغناء ومرحاً وفرحاً توقف قلبه عن النبض فجأة! الشاعر الذي آمن أن كلمته قادرة أن تقود وطناً بكامله من النكسة إلى النصر وهو يغني «راجعين بقوة السلاح».. ويغني:
«على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء 
 
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء 
 
باحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب 
 
وباحبها وهي مرمية جريحة حرب 
 
باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء 
 
واكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء»
 
الشاعر الذي غنى للكون كله:
 
«الدنيا ربيع والجو بديع
 
قفل لي على كل المواضيع»
من فيلم «خلي بالك من زوزو» أجمل الأفلام الغنائية في تاريخ السينما العربية، الذي كتبه وأنتجه، بطولة أشهر فنانة ارتبطت باسمه وهي سعاد حسني، والذي استمر في شباك التذاكر لأكثر من خمسين أسبوعاً.
فمن يصدق أن شاعراً قال هذا الكلام مات مكتئباً، أكأبته النكسة وانهيار الحلم وتبدد الثورة وموت عبد الناصر وموت أم كلثوم، أكابه هذا الشعور بأن هذا الزمن لم يعد زمن شعراء ولا نبلاء ولا ثوار!
كان يؤلمني بشكل شخصي وفاته المباغتة، فزرت في بداية حياتي الصحفية شقته في المهندسين لأول وآخر مرة، وتحدثت مع زوجته الثانية عن أيامه الأخيرة والأدوية التي كان يتعاطاها.
صلاح جاهين بجسمه البدين كأجسام «أولاد البلد» كان كتلة من الأحاسيس والإبداع، سبعة مواهب في روح إنسان واحد، شاعر وممثل وكاتب ورسام وصحفي وثائر.

الرسام الساخر… والثائر

لا يمكن إلا أن تحب بدانته وابتسامته الطفولية، وتشعر أنه أبوك أو صديقك الحميم. ومن لا يتذكره يمكن أن يشاهده في أعمال القليلة التي شارك فيها مثل فيلم «اللص والكلاب» في دور «المعلم طرزان» ولمن لا يعرف صوته يمكن أن يسمع صوت «الراوي» في فيلم «شفيقة ومتولي».
في طفولتنا أيضاً اتخذت الإعلامية إيناس جوهر إحدى رباعياته لحناً أساسياً لإذاعة الشرق الأوسط:
«غمض عنيك وامشى بخفة ودلع
 
الدنيا هى الشابة وأنت الجدع
 
تشوف رشاقة خطوتك تعبدك
 
لكن أنت لو بصيت لرجليك تقع
 
عجبي»
لا تعادل شهرة رباعيات الخيام، إلا رباعيات صلاح جاهين التي كتبها بكل الحكمة والجنون والخيال.
ولا يعادل شهرته كشاعر إلا رسومه التي أثارت المعارك وأقضت سكينة المتزمتين دينياً والانتهازيين سياسياً!
قد لا يعلم الكثيرون أن صلاح جاهين هو نجل المستشار بهجت حلمي رئيس محكمة استئناف المنصورة، وحفيد الصحفي الوطني أحمد حلمي رفيق درب الزعيم مصطفى كامل، والذي حرر مقاله الشهير «يا دافع البلاء» عن قتل الفلاحين في دنشواي، فاتهم بالعيب في الذات الملكية وتم سجنه، ، ومازال هناك ميدان وشارع في حي شبرا العريق حيث ولد صلاح، يحمل اسم جده «أحمد حلمي».
شجرة الوطنية والشعر والنضال ممتدة، يمثلها الآن نجله الشاعر بهاء جاهين، وابنته الفنانة سامية جاهين أبرز مغنيات فرقة «اسكندريللا» المعروفة.
ولمن لا يعرف أيضاً جاهين هو من كتب أغاني فيلم يوسف شاهين «عودة الابن الضال»، المحفورة في ذاكرتنا جميعاً:
 
« وفات الأنين وأرجع وأقول
 
لسه الطيور بتفن
 
والنحليات بتطن
 
والطفل ضحكه يرن مع إن
 
مش كل البشر فرحانين»
لا يُقدر شاعر عظيم إلا شاعر عظيم، فليس غريباً أن يكتب عنه الراحل محمود درويش ويصفه بأنه «شاعر القمر والطين»، ويقول:
«صلاح جاهين يجلس على ضفة النيل تمثالاً من ضوء، يعجن أسطورته من اليومي، ولا يتوقف عن الضحك إلا لينكسر. يوزع نفسه في نفوس كثيرة، وينتشر في كل فن ليعثر على الشعر في اللاشعر. صلاح جاهين يأكل نفسه وينمو في كل ظاهرة، ينمو لينفجر..»

جوجل تحتفل بالليلة الكبيرة، رائعة صلاح چاهين الاستثنائية

ومع تذكير Google لنا بعيد ميلاد جاهين الثالث والثمانين (مواليد 25 ديسمبر  ١٩٣٠) قررت أن أحتفل به مع ابنتي وابني، بمشاهدة أوبريت «الليلة الكبيرة».. كانت فرصة لاستعادة طفولتي.. تاريخي الشخصي.. فهو الأوبريت الوحيد الذي حفظته عن ظهر قلب بكل لوحاته وصوره و«أفيهاته»، صور على قدر ما هي واقعية جداً فيها خيال جامح جداً مازال يهزني من أعماق روحي.

أتفرج وأضحك على شخصيات: شجيع السيما والعمدة والريس حنتيرة والأسطى عمارة من درب شكمبة وراقصة «طار في الهوا شاشي» و«مِسعد» وعجورة والأراجوز..
أستمتع بأجمل الأصوات وأكثرها حناناً ودفئاً تغني كلماته: محمد رشدي وشفيق جلال وحورية حسن وشافية أحمد وعبده السروجي.. أصوات على جمال جمالها تستفزني كي أغني معها مهما كانت رداءة صوتي. ولا أعذب من موسيقى الشيخ سيد مكاوي بكل صوفيتها وخفة ظلها ومصريتها.
تاريخ شخصي يذكرني عندما كنا «رفاعية» وأنا طفل أجلس وسط البيارق، أو أنتظر أبي العائد من الليلة الكبيرة.. هو الذي لم يترك «مولد» في مصر لم يذهب إليه.
مصر كلها، بدينها، وتاريخها، وموالدها، ومقاهيها، وناسها الطيبين، في «ليلتها الكبيرة:
«دول فلاحين ودول صعايدة.. دول من القنال ودول رشايدة».
فمن يقدر أن يلخص كل هذا الإبداع، والحب، والجمال؟ لا أحد يلخص من هو صلاح جاهين إلا جاهين نفسه في إحدى رباعياته:
«أنا اللي بالأمر المحال اغتوى
 
شفت القمر نطيت لفوق الهوا
 
طلته ما طلتوش؟ إيه أنا يهمني
 
وليه؟ مادام بالنشوة قلبي ارتوى
 
عجبي»

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات