محمد السعدي… يكتب الشعر بكاميرا سينما 9 ملم

02:40 مساءً الأربعاء 22 يناير 2014
محب جميل

محب جميل

كاتب و صحافي من مصر.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

(1)

يقول الفيلسوف إميل سيوران: »لماذا كل صمت هو شيء مقدس؟ لأن الكلمة -هي عادة- مع استثناء لحظات متميزة تمامًا، هي تدنيس«، من هنا تصبح الكلمات التي لم تُقل أكثر تعبيرًا ودلالة من الكلمات التي قيلت. في ديوانه »جغرافيا شخصية« الصادر عن دار »الغاوون-بيروت« يحاول الشاعر السعودي الشاب »محمد السعدي« الكتابة في إطار لقطات سينمائية قصيرة تبدو فيها الذات أكثر رشاقة ويُسْر. تستقطب الذات مفرداتها من البيئة المحيطة؛ حيث تصبح الصحراء بحيزها الزمكاني خريطة تتوزع عليها فوتوغرافيا الشاعر وأيقوناته. »ببطء/يطوي سجادة صلاته/كما تطوي الإبل الصحراء«.

تبدو الذات داخل النص في حالة حنين متواصلة تتقاطع بداخلها الصور والذكريات، فكلما توقفت عند عتبة معينة تجاوزتها من أجل محطة أخرى، وكأن الأشياء المفقودة من الوقت الراهن لم تسقط من حلقة الذات وذاكرتها الجمعية. »تلك المأذنة/ كانت رجلاً/ عندما مات قبل عشرات السنين/ رفعوه على زاوية المسجد/ لقامته الفارعة وصوته الجميل«. كما تتميز نصوص الديوان بقدرة عالية على التكثيف والاقتصاد اللغوي حيث تنتزع قشرة الزخرفة الشعرية من أجل استجلاء بطانة الصورة الشعرية التي تميل إلى عناصر نقية في حالتها الأولى، ومن هنا يصبح النص ساحة للصراع المحتدم بين الوعى واللاوعى من ناحية، وحالات الارتداد والانفصال داخل النص من ناحية أخرى. »الرائحة/ خيال المادة«.

بالرغم من التشقف اللغوي الشديد الذي يرتكز عليه »السعدي« إلا أن هناك حميمية خاصة تشهدها المقاطع الشعرية من خلال سوسيلوجيا المكان والرائحة، حيث تقول الذات في أحد المقاطع: »بين حجر وآخر/ رائحة نعناع قديم/ ودموع وقعت عن المناديل«. لا يختزل النعناع هنا في إطار حاستي التذوق والرائحة فقط بل بكونه قنطرة للعبور من فترة زمنية لأخرى. الحنين الذي يغلف الصورة السابقة هو سمة مائزة لمقاطع الديوان، ويصبح النفس الطللي بمثابة خميرة تحفز حداثة النص على الاكتمال. هذه الرائحة التي يمتزح أريجها بفوح الماضي يبقى أثرها باقيًا في أقمشة المناديل.

يحاول »السعدي« كتابة نص شعري أقرب ما يكون إلى لقطة سينمائية قصيرة تم تصوريها بكاميرا 9 ملم. هذه المشهدية التي تتصف ببلوفونية الصوت تستقطب ألقها من ثنائية (الصوت/الصورة) في تبادل أدوار يغلب عليه النبرة الرومانتيكية. »كانت تمطر/ حتى أن الأصوات/ كانت تصل مبلولة«. ولأن ماء العيون يحتاج إلى من يجدده، فإن الحنين يستحيل من حالته الميتافيزقية إلى الفيزيقية بحيث تصبح الندرة وقلة الحيلة تيمة غنائية يكررها النص.

تغلف النص مشهدية متكررة من التأمل والنزوح تجاه العزلة، فالذات في حالة تملّص من الواقع والهروب إلى حيز شبيه ببوتقة معزولة حراريًا. لا تتأتى هذه الحالة من فراغ حيث الإحساس بالآخرين وبخاصة الفقراء منهم، وبالتالي تحاول إختزان العلاقة بينها وبين الآخر. »القروي كان يعد النجوم/ كما يعد الشحيح/ نقوده/ قبل النوم«. لا تسلك الذات طريقًا مأهولة بالأصوات، بل تنتعل أحذية بطيئة تجر خطوة وراء الأخرى، وتتحول الطريق إلى خيطٍ يلتف حول نفسه. لا ننوه هنا إلى الذات الشاعرة بل إلى ذوات الفقراء المضطربة التي كلما وصلت نقطة تبددت وأصبحت أكثر ثقلاً. »أحذية الفقراء/ طرقات بطيئة«.

(2)

حسنًا. يبدو أن هذا النص ينزح نحو الإحتفاء بالتفاصيل اليومية والمتعلقات الشخصية، كأنه يحاول كتابة تغريدات وتدوينات قصيرة تشير إلى لحظةٍ ما. من هنا يتكيف النص مع التغير والتطور المتواصل في الحياة اليومية، إنها الكتابة بالمحو حيث الممحاة بطل اللعبة، فكلما أضافت الذات تفصيلة صغيرة تقدمت الممحاة وأزالتها بشكلٍ تلقائي، كأن تقول في أحد المقاطع: »حبنا/ يبعث العطر في وردة اصطناعية«. إذا توقفنا أمام الصورة السابقة، فإننا نتحول بشكلٍ ما من الحيز الميتافيزيقي إلى الفيزيقي، فالحب هو مفتاح التحول الذي يبعثر رذاذه الكحولي على المصطنع من الورود، ليحيله في النهاية إلى شيء ملموس.

يحيل النص بدوره إلى حميمية ترتبط بالأشياء المجردة التي تسعى الذات لاستنطاقها بما تجهله، فتتحول هذه الأشياء بدورها إلى واقع يتم إدراكه، فالنشيد الذي يبدأ بصافرةٍ، قد يمد عنقه من النافذة الصغيرة، يحتك بالجدران، يعبر أمام عيون المارة، وفي نهاية المطاف يحاصر المدينة على مرأى ومسمع من الجميع. »الأغنية التي تنطلق من النافذة الصغيرة/ تملأ الشوارع/ وتعبر عيون المارة/ وتحك جدران البيوت/ وتمامًا/ تحاصر المدينة«. مجرد محاولة لإختراع عالم موازٍ للعالم القائم، والتفلت من حصار الذات. تستمر الصور السابقة في النمو والتنوع ولا تقف عند هذا الحدّ، بل تنتقل من أبعاد الصورة إلى جسد الصوت، فيأخذ كل منهما حيز الآخر. الشجرة التي تقف باثقة بلا صوتٍ، قد تكتسب نبرتها من عصفور صغير يلوّنها. »العصفور/ صوت الشجرة«، وكذلك الأمواج التي تشق صدر البحر لتموت على الشاطيء، قد يحق لها يومًا أن تتجاوز قدرها المحتوم، لتقف في عرض البحر. »متى/ تفعلها احدى الموجات وتقف في عرض البحر؟«.

(3)

لا تخلو مقاطع هذه المجموعة من (النوستالجيا) والتي عادة تأتي في إطار يغلفه الحزن والألم،  وتصبح محصلة الصورة النهائية صفرية. إن كتابة نصوص من هذا النوع تنزح في مجملها إلى الفقد، عملية شاقة تحتاج إلى الكثير من التأمل والعزلة. كأن تقول في أحد المقاطع: »خبز ساخن/ وجبن مصري/ وفنجان شاي لم يمتلىء/ كان هذا عشاءَه الأخير«. إنها صورة تلتمس موضعها في سياق الذاكرة والحنين، تنساب في سهولةٍ وانسيابية أقرب إلى تدفق تيار الماء في عرض النهر. لكن يبدو أن المكان هو حافظة للذكريات التي تعصى على الإنتهاء، فكل منا لديه ما يتركه في حيزه المألوف كي يبقى عالقًا في الذاكرة.

»أحيانا/ هناك نفسٌ عميقٌ/ تركه رجل ورحل«.

يوضح »جاكو بسون« أن الهدف الأساسي للشعرية هو تحديد الفوارق الخاصة بالفن اللغوي والمميزة له عن بقية الفنون ومظاهر السلوك اللغوي، ففن الشعر يعالج مشكلات الأبنية اللغوية بنفس الكيفية التي يهتم فيها تحليل الرسم بالأبنية التشكيلية. من هنا يتحول النص الشعري في حد ذاته إلى نص فني يرتكز على ألفاظه المستعملة، ولا يقتصر فقط على ميزان الموسيقى. هذا النسيج اللغوي لديه ملامحه الخاصة من حيث الدلالة والسياق، وفي »جغرافيا شخصية« قد يحدث إختفاء لغناية الجمل الشعرية، ولكن البنى الأسلوبية للنص التي تخرج من زمكانية الشاعر وسياقه، تفرض إيقاعها الخاص على أجواء النص. »في قرية بعيدة/ فانوس/ ورجل يتكىء على صوت أم كلثوم«. بالرغم من طول المسافة، مازال صوت كوكب الشرق قادرًا على تمرير أقساط مناسبة من الطمأنينة والتجلي.

لغةٌ شعريةٌ خاصة تختال على طول النص، وتستقطب رشاقة (الهايكو) الياباني في صبغ أطراف القصيد؛ حيث تتحول الأشياء الصغيرة بدورها إلى عالم متكامل، أقرب ما يكون إلى مجسم. يقول »السعدي«:»الوردة/ شجرة مراهقة«. كتابة أقرب ما تكون إلى تغريدة هاتف نقال، لديها القدرة على اقتناص الصورة الشعرية مع التأملية المجردة التي تنحو تجاه التماهي مع الطبيعة وتلوين أيقوناتها الصغيرة. باستقصاء الصورة الشعرية السابقة نجد أن استنطاق الجماد هو ثيمة متكررة داخل النص من اختزان العلاقة معه سواء على المستوى الخطابي أو الدلالي. إن اكتساب الصورة الشعرية داخل النص يأتى عن طريق السياق (الزمني/المكاني) الذي تتواجد بداخله الذات؛ بمعنى أن مفردات القصيد هي انعكاس (داخلي/خارجي) للبيئة المحيطة. »النخلة/ صلاة قديمة«.

(4)

الذات/ الآخر/ المرأة

إن المرأة الأنثى في هذا النص لا تستقر عند هيئة واحدة، إنها تتداخل عند موضع وتنفصل عندالآخر. في الفيلم المميز »العاهرة والحوت« والذي تم انتاجه في العام 2004 بين الأرجنتين وإسبانيا، يأتي المشهد الإفتتاحي عندما يحمل المصور كاميرا صغيرة ويقوم بتصوير ساحة الحرب الأهلية بإسبانيا، ثم يقع أرضًا بعد أن يتم إصابته، ولا يتبقى منه سوى بعض الذكريات عن الفتاة التي أحبها والكاميرا التي تهشمت. بداية النهاية التي تتقاطع بداخلها عناصر الصورة والصوت من أجل إضافة مشهد سوريالي يشير إلى العدمية وفزع الحروب.

في أحد المقاطع تستحضر الذات هذه المشهدية عندما تصف اضطراب العلاقة ما بين (التوتر/ المفاجأة) في صورة فلاش كاميرا داخل ساحة المعركة، إنه التجاذب والتنافر بين (الرجل/المرأة) في صورة مختزلة أقرب إلى حلم مؤقتٍ. »رجل وامرأة/ وهواء/ يرتجف/ كعدسة مصور/ في ساحة المعركة«. كما تبدو الأنثى مستحيلة في بعض مقاطع هذا النص، لذلك تحاول الذات استحضارها عن طريق إنطاق ضمير الغائب، كأن تقول: »رسم بنتًا/ وانتظرها«.

سبق وأن أشرت إلى النفس الطللي الذي يكتنف بعض صور النص ومفرداته، فالقصيدة الجاهلية قد تشهد نزوحًا حداثيًا هي الأخرى، إذا تم تطويعها وتحريك قوالبها ليس على المستوى الدلالي لكن اللفظي. تدور الذات في حلقاتٍ متصلةٍ تشبه سلسلة الجبال، بمعنى أن كل حبة رمل فيها تدلُ على نوعها وجغرافيتها، فالنهدان داخل هذا النص يكتسبان الاستدارة من تقوّس الخيام التي نُسجتْ من سوالف البدو. »نهداكِ/ خيمتان من سوالف البدو«.

لا تأتي الأنثى بكينونتها التامة، بل أيضًا بملحقاتها التفاعلية، فالقبلة الصغيرة قد تصبح حجرًا له ضجيج تهتز على وقعه مياه العينين. »صوت القبلة/ يسقط في الأعماق كحجر/ ترتج منه مياه العينين«.

تخترع الذات عالمها الخاص الأقرب إلى الحلم، وبالتالي يصبح النعاس والحلم من ضمن مفرداته، تختصر طرفي المعادلة في صورة آلية، بحيث يصبح وجه الخير معادلًا موضوعيًا للخير حين تقول: »تصبحين علىَّ«. هذه العلاقة المتبادلة بين طرفي المعادلة تتكرر في أكثر من موضع حيث ثنائية (الصورة/الصوت) التي تعطي إيقاعًا خاصًا للقصيدة. فالأمنيات لم تعد مرهونة بالصعوبة بل تتخطى السور نحو الإستحالة أحيانًا أخرى، وذلك في دوالٍ هندسيةٍ يتبادل فيها الصوت والصورة المواقع، كأن نقرأ في أحد المقاطع »كل ما يفكر فيه/ هو امرأة/ صوتها لحم«. هذه الشهية الصوتية السابقة ذات الجرس الدفين إنما هي أقرب إلى الرسم التجريدي الذي تتحول فيه الأيقونات والمنحنيات من مجسمات إلى مجموعة من الخطوط الباهتة وضربات الفرش الملونة، كأن الجسد يحل محل الصوت والعكس. هذه البساطة التي يندفع بها النص كجدول ماء، هي أقرب إلى قصائد (الأبيجرام) القصيرة التي تجعل من الطبيعة ملعبًا فسيحًا، ومن أشياء هذه الطبيعة طابة تتدحرج في إتجاهاتٍ شتى. إن الأنثى في هذه القصائد القصيرة هي مفتاح في حد ذاتها، تحاول في كل مرة أن تكمل الآخر وتزيل الإلتباس الذي يهدهد النص. »رجل وامرأة/ وشرشف/ يكاد يطير من الفرح«.

إن التراث في هذا النص، لا يُستحضر بقالبه الجامد وإنما مع تطويع لأخباره وألفاظه. إن أنثى البادية في هذا النص تكتسب سحرها وألقها من جمال البادية، كأنها أيقونة للخصب والتجدد. »قصة عربية قديمة/ ثم حملت جرة الماء على كتفها/ وبين نهديها حملت النبع«. هذه الأنثى التي تشبه عيونها مطالع المعلقات، تتلون على طول النص بمفردات بيئتها المتداولة، تلمع عينها العسلية المخلوطة من رملٍ وقهوة في قرط الشمس. »عيناكِ/ من رملٍ وقهوةْ«.

إن محاولة اجتياز الحيز الفيزيقي نحو الغرائبي أو الغير مألوف من الثيمات الأساسية لهذه المجموعة من النصوص. فالبرغم من أن الشاي يبعث الحرارة والدفء إلا أنه يصبح أدفأ بمجرد ملامسة أصابع الأنثى التي لا يفصح عنها هويتها بطول النص، فهي في بعض الأحياة فتاة بدوية بسيطة تملأ جرار الماء،  وفي البعض الآخر مع رجل يفصل بينهما شرشف، وقد تختزل في شفاهٍ تنتظر قبلة مدوية. »يدها/ تجعل الشاي أدفأ«.

(5)

بالرغم من بكارة التجربة لدى »السعدي« إلا أنه يكتب بصوتٍ مختلف، أقرب ما يكون إلى الشذرات التي تتكأ على التأملية والمفارقة من خلال عدد بسيط من الكلمات والألفاظ المستخدمة. لغةٌ طيعةٌ لها بريقها الخاص الذي يتجدد من خلال المزاوجة بين ثبوت الأفعال الماضية وتكرار الأفعال المضارعة في قالب شعري حداثي يشبه الرسالة الإليكيترونية (التغريدة). إنها محاولة متواصلة من أجل خلخلة العالم القائم باستخدام لغة الحياة اليومية. فالصحراء التي تنكشف مفاتنها باستمرار هي نفق ليلىّ أشبه بالمتاهة. والخريف الذي يطول يحول الكلوروفيل الأخضر-المعادل الموضوعي للحياة- إلى أشجار تشبه الحصى المُفتتْ. »عندما طال فصل الخريف/ هذه السنة/ صارت الأشجار حصى«.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات