شريف الشافعي المحاصر بأقماره

01:46 مساءً الخميس 23 يناير 2014
محب جميل

محب جميل

كاتب و صحافي من مصر.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

شريف الشافعي يطالع النسخة الأولى من الديوان

(١)

في ديوان »كأنه قمري يحاصرني «للشاعر المصري »شريف الشافعي« الصادر مؤخرًا عن »دار الغاوون – بيروت« تبدو الذات الشاعرة في حالة حصار متواصلة تحاول خلالها التملص من كواليس العالم الحائرة والمشتتة، فالقمر الذي يشير إليه النص قد يبدو منطفأ في لحظات تمامه، وفي لحظات ضعفه وخسوفه يواصل محاصرته للذات الشاعرة التي تحاول استنطاق مفردات العالم المحيط بها.

في عتبة هذا النص، يبدو »الشافعي« متحفزًا لاختراع حيزه الشعري الخاص. فالمفارقة الشعرية لا تتأتى من لفظية المفردات فقط بل من دلالتها أيضًا، وبالتالي يصبح الكذب هو الصادق الوحيد في بداية الصباح على الرغم من أنه لم ينطق بكلمة واحدة.

»العبير/ حيث تعبرين/ والندى/ فطيرة جيدة/ ليس لها سوى أن تأكل جيدًا/ أما الكذب/ فلم يقل شيئًا/ ورغم ذلك/ هو الصادق الوحيد/ هذا الصباح«.

تحاول الذات خلال مقاطع عدة أن تبدي موقفها الغرائبي من نبرة الصوت المرتفع والتنازع على أشياء منتهية؛ فالأشياء المعطلة لم تعدْ تستحق الاهتمام ومع ذلك تستمر حالة التنازع والتخاصو عليها. »جن جنوني/ إذ رأيتهم/ يتقاتلون بجنون/ على المقعد الأمامي الخالي/ لا أحد منهم يدرك/ أن النوم مركبة لم تعد صالحة/ للسير على طريق الحلم«. لا تنتهي فضفضة الذات عند هذه المرحلة لكنها تواصل استنكارها للواقع المحيط بكل ما يتصل به من منظومات افتراضية وأشخاص عبثيون. »بقدر ما يزعق الفارغون/ يهزأ بهم الفراغ«.

(2)

يبدو أن علاقة الشافعي بالمفردات السلعيّة لا تنتهي عند حد الاستلاب والخدميّة، بل إنه يحاول مرارًا وتكرارًا أن يستنطقها بما لا تعرفه، ومن هنا تصبح المادة المقموعة في الذاكرة الاستعمالية منتصرة في غير موضعها؛ فالسكين الذي يتخذ دائمًا دور الجاني قد يصبح المجني عليه عندما تغيب عدالة المنطق. »ينزف السكين دمًا/ من جرحه يا ترى ؟«.

من هنا تتعدد أوجه الحقيقة التي تظل غائبة في العالم وبالتالي داخل النص الذي يعد نواة مصغرة للعالم. وتواصل الذات هندسة تلك الفضفضة التي تبثها من مقطع لآخر مما يوحي بالعزلة والانسحاب التدريجي من العالم القائم. »الحقيقة سجادة صلاة/ تمتص أنسجتها الظمأى دموعنا/ لكن لا يزول عطشها تمامًا/ لأنها متشوقة/ إلى ما لا تستطيع عيوننا أن تسكبه«.

تتجلى النزعة الصوفية في عدة مواضع داخل النص؛ حيث علاقة الذات بالمفردات الكونية، ومدى تداخل كل منهما مع الآخر في إطار هندسي منتظم يظل السؤال جوهره الأساس. فروح »بن عربي« تبدو ظاهرة في محاولة اكتشاف ماهية الأشياء وشريعتها، لذلك نجد أن هناك تبادل للأدوار والأقنعة بين أقطاب الكون الثلاثة (الأرض/ الشمس/ القمر) فالأرض في حالة تساؤل وألم من كسوف الشمس الذي يبدو وكأنه يؤثر سلبا على الذات الشاعرة، ثم تواصل الأرض تبادل الأقنعة مع القمر، لكن هذه المرة في استفهام حول ماهيته ولماذا يواصل التنكر والتخفي، وما تلبث هذه الأسئلة المقموعة أن تنهار عندما يتحد كل من الشمس والقمر ضد الأرض ويصبح السؤال صفعة مفاجأة واستنكار.

»الأرض للشمس/ متي ينقضي كسوفك؟/ الأرض للقمر/ من أنت؟/ متى تخلع قناعك/ الشمس والقمر للأرض: تساؤلاتك فصوص العتمة«. في نهاية هذا المقطع تتجلى روح »بن عربي« بقوة وبالتحديد في كتابه »فصوص الحكم« الذي يبحث في جوهر الأشياء والحكم من ورائها. إن هذه النزعة الصوفية بالنص تتمحور حول آلية الرجوع إلى الطبيعة والتماهي مع ما يمكن اصطلاحه بعناصرها الأولية التي تظل نقية وشفافة بعيدة عن كل شوائب الحياة التي يمكن أن تعلق بها. »التحيات للعناصر المشعة بذاتها/ لا لفوانيس راضعة من كهرباء«. إذا لا يمكن فهم طبيعة الإنسان وذاته إلا من خلال الرجوع إلى أصل الأشياء في صورتها.

(3)

الأيقونات الصغيرة هي الأكثر ألقًا في حياتنا، لا تقدر هذه الأيقونات بضائلة حجمها بل بما توفره من حيز أمن ومقدار ما تسربه من أقساط طمأنينة للآخرين. الشمعة التي تحترق وتتحول من سياقها الفيزيقي إلى سياقها الحسي كأن تعبر الذات عن حفاوتها بشمعة صغيرة. »في حياتها القصيرة/ تفعل الشمعة/ ما لا يقدر عليه صنم يعبد/ أليست أولى بالخلود من جنة الخلد ذاتها؟«.

تنزح الذات الشاعرة نحو مناطق أكثر خصوبة بالنص، حيث تتماهى الألوان ويعطى كل لون مفرد مدلوله الخاص. ولأن هذا النص يتجاوز المجاز المعهود فإن اللون الأبيض المعروف على مستوى الذاكرة الجمعية بكونه سيد الألوان، ونتاج جماع العناصر الأولية على المتسوى الفيزيقي، يتحول في النهاية إلى لون مجازي يعاكس طبيعته وصيرورته. وربما هذا المقطع يؤكد على رؤية الذات في تحول المواد من صورتها النقية إلى إليكترونية مركبّة بفعل الانسحاق الزمكاني. »كل ما حولنا قابل للإزاحة/ بمزيد من الحظ/ إلا كشافات الإضاءة القوية/ كم أنت قاسٍ وأسود/ أيها الأبيض«.

الغلاف

يبدو أن مقاطع النص تتكأ على المفارقة الشعرية سواء على المستوى الخطابي أوالبنائي في محاولة لإظهار كم التناقض والتوتر الذي أصاب العالم المحيط، ومن هنا تتلبس الذات بصورة متصلة رداء الدهشة والمفاجأة، والمشكلة ليست بماهية الأشياء بقدر ما تتعلق بالفراغ الذي يلتف حولها طوال الوقت، كأن تقول في أحد المقاطع: »النور: عالم يسكننا/ العالم الذي نسكنه: الظلام«. هذه الصورة الرمادية السابقة تقتنص أعلى نقطة في المنحني الشعري لهذا النص، فالاضطراب والتناقض الذي يكتنف الذات يبرز بقوة من خلال النقيضين: النور والظلام. السخرية داخل هذا النص لا تتأتى بصورة مألوفة بل أقرب إلى السخرية المكلومة. »سأمشي على قدم واحدة/ وأؤجل الرجوع إلى الأخرى/ يالبؤسي/ حتى الحذاء أخطأته قدمي«. سخرية متواصلة من (الأنا المتكلمة) تترفع نبرة صوتها في المقطع السابق، إنها محاولة لاختبار الذات وقرارتها المتعجلة. كأنها تحاول أن تختبر هذه القرارات المتعجلة على امتداد النصّ،و يبدو أنها كلما تقدمت خطوة إلى الأمام، وزعت أختها بالتساوي على الخلف. اقتصاد وتكثيف في الألفاظ المستخدمة للتأكيد على جوهر الفكرة أكثر من الزخرفة الشعرية والإطارات المزيّنة.

(4)

علاقة مضطربة على طول النص تربط الذات بالأنثى متعددة الأوجه. لا يفصح النص عن كينونة الأنثى بقدر ما يفصح عن بعدها الدلالي، فهي متعددة الصور والأوجه، قد تختزل في شفاة تحاول الإبصار، زهرة رمان ملغومة بأنوثتها، موجة تتجاوز سطح البحر، أو عنب يقطر خمرًا.

في أحد المقاطع يختزل »الشافعي« القالب الأنثوي في شفاة مغمضة تتطلع لأن تبصر رحيق الكلمات على الشفةِ الأخرى، وهذه الإيروتيكية المسربة أقرب إلى التلقائية من التداعي؛ حيث تختصر الصور الشعرية في حاستي ربما التذوق واللمس. محاولة لإزاحة نقطة من بعدها الفيزيقي إلى بعدها الميتافيزيقي. »حاولي أن تبصري بشفتيكِ/ حاولي مرة واحدة من أجلي/ أنتِ لا تتصورين كم قاسيت/ كي أذيب صورتي في كأسكِ«.

من القرارات المتعجلة إلى الجريمة المشتركة وعدم التبرير، فكل الأشياء التي تكون في بعدها المادي جزء من مكون الجريمة تكون بالأحرى أحد المشاركين فيها، فإذا حاولت أن تقفذف عصفورًا بحجرٍ صغيرٍ فإن الجريمة لا تلتصق بيدك فقط بل الحجر المصمت كذلك. »لو كان طابع البريد بريئًا/ لما التصق هكذا بالتهمة/ هو متورط في الجريمة بالتأكيد/ جريمة إفراغ الرجل من محتواه/ برسالة فارغة/ من إمرأة فارغة«.

(5)

تتنفي الغنائية الشعرية في المناطق التي تطرح فيها الذات الشاعرة أسئلتها بصيغتها الإنشائية، إنه التماس ربما بين (الذات/الرواي/ الأنثي)، حيث كل عنصر من الثالوث السابق يقف عند حافة الآخر. ولكي يؤكد الشاعر على غياب الغنائية الشعرية عن المقطع، قام بتقليص دور الصور الشعرية في مقابل الإرتكاز على بناء هندسي (هيراركي) للألفاظ المستخدمة. »أما من بحر واحد/ لأقيس ارتفاعكِ/ عن مستوى سطح البحر؟«، ولكي يؤكد الشاعر صعوبة التحصيل والتلاقي فإنه يستدعي في مقطه آخر صورة مشابهة لسابقتها يقول فيها » أما من نجمة واحدة/ لأقيس ارتفاعكِ/ عن مستوى سطح النجوم؟«.

تستقطب الذات شكلًا آخرًا للعلاقة مع الأنثى، أقرب ما تكون إلى نمطية الهدم والبناء، لكنها هذه المرة تعيد ترتيب البداية والنهاية بعد أن تستند على بعض مظاهر الطبيعة. لا تبدو الذات في حالة استقرار مع الأنثى داخل هذا النص؛ إنها كدالةٍ منقوصةٍ تنتظر أن تكمل الأنثى نقاطها وحدودها الناقصة، لكنها بمجرد أن تكملها فإنها تعود إلى الحالة الصفرية بعد أن تقوم بحذف عواملها المساعدة والمكوّنة. » أنتظرتكِ بلهفة نهر/ يتمنى أن رسم دلتاه أولاً/ ثم يغرقها بفيضانه«.

بعيدًا عن استحالة الأنثى، يكتب »الشافعي« نصًا يؤميء يكتنز في بنيات مشهدية متلاحقة، تتابع بداخله احاسيس الغربة الداخلية التي تدفق من عالم أسود من شدة البياض! يبدو خلاله الواقع أكثر قسوة من الجماد. » الغريب الذي يعبر الطريق/ ليس بحاجة إلى عصا بيضاء/ ولا كلب مدرب/ هو بحاجة إلى أن تصير للطريق عيون/ تتسع للغرباء«.

يبدو العالم في مرحلة خلخلة انتقالية داخل النص، لا يوجد مطلق أو ثابت، يوجد فقط أناس في بعدهم الأنثروبولجي والسوسيولجي، يتوزعون ما بين حكام ومحكومين لا يربط بينهم سوى الانتفاء ةالضباب. »الغرق ثمن ضئيل/ لشق بحر في الضمير«.

نص »الشافعي« يتسم بالتقشف الاستعاري، تمارس فيه الذات عزلتها وانفرادها، وهذه العزلة تكون مصحوبة بالإلتباس، وبالتالي يمكن القول أن التساؤل والاغتراب الداخلي محاولة لإعادة الاتزان إليها من جديد.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات