أصلان يرحل في صمت

01:37 مساءً الأحد 16 فبراير 2014
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

هل صرنا نعيش في صحراء جرداء ثقافيا , كل ما يهمنا هو التعرف علي أخبارنا نحن ,لا نكاد نبتعد كثيرا عن حدود أجسامنا وعقولنا؟

العالم من حولنا يعج بالحركة والحياة , ونحن نغلق آذاننا وعيوننا وعقولنا أزاء ما يحدث فيه
الاسبوع الماضي مثلا شهد رحيلا لفنان مبدع لامثيل له في العصر الحديث ولا نكاد نعرفه, متدفق العطاء في مجاله, وترك أثره بقوة فيمن تابعوا أعماله في المعارض والمتاحف والمناسبات الرسمية الفرنسية  والكندية, وقد  بدا هذا الأثر بشكل شعبي حيث تابع الناس رسومه في المجلات المشهورة الأكثر مبيعا  في العالم .
اسمه ” أصلان” وهو اسم يختلف تماما عن المعني العربي الذي نعهده
مفتاح الدخول الي هذا الرجل الذي عاش ثلاثة وثمانين اما هو شغفه بالمرأة , وقد عبر عن ذلك في مقولته التالية التي  تختصر مسيرته:”   انا ارسم المرأة وأنحتها انه واحد من أجمل الموضوعات المطروحة أمام الفنان. أحب الطبيعة وقوانينها ”
والذي نعرفه أن الفنان الراحل أحب الانسان والطبيعة فالي جوار كل هؤلاء النساء البالغات الجمال اللاتي رسمهن او صنع لهن تماثيل , , سواء كانت كاملة ’ أو نصفية , فانه رسم الكثير من كتب الأطفال  الشهيرة , والزعماء الكبار ,وعلي رأسهم شارل ديجول , وجورج بومبيدو .. كما عمل التماثيل البرونزية تكريما للعديد من زملائه التشكيليين كما سنتعرف علي سيرته الفنية الطويلة.
اسمه الحقيقي  آلان جوردون  , مولود في مدينة بوردو الفرنسية عام  ,  1930تدفقت موهبته وهو لايزال طفلا في الحادية عشر من العمر حيث بدأ كنحات قام بنحت  علي الحجرتمثالا باسم” رأس العجوز”, وكان بالطبع لايزال تلميذا ما لفت أنظار استاذته , ومنحه عمدة بوردو أول جائزة في حياته من بين عشرات الجوائز التي نالها عن انجازاته, وفي سن الرابعة عشر قدم نحتا جديدا في شكل تمثال نصفي أعجب اساتذته الذين تولوه بالرعاية , ولم يكن أمامه سوي الالتحاق بكلية الجميلة وهو صغير السن , وفي عام 1945 حصل علي أول جائزة تمنح له من جامعة بوردو التي التحق بها , وقد شجعه هذا للسفر الي باريس والالتحاق بالدرسات العليا  للفنون الجميلة ولم يتوقف عن أعمال النحت, وعقب تخرجه انتبه الجيش الفرسي الي موهبته فصار الرسام الرسمي للقوات المسلحة , يرسم لها الشعارات ووجوةالقادة ,وقام بعمل تمثال نصفي لأحد مارشالات الجيش لفت أنظار الجميع , ما دفع الادارة الي الاستفادة من موهبته بشكل ملحوظ.
الحدث الأكبر في تلك الفترة هو لقائة بالنحات الفرنسي الشهير سيزار , حيث تولدت صداقة فيما بينهما امتلأت بالانتاج  الغزير, علما ان سيزار هو الأشهر في تاريخ النحت الفرنسي في القرن العشرين ,وهو الذي صمم تمثال جائزة سيزار الفرنسية السينمائية التي يعتبرونها أوسكار السينما الفرنسية  وتمنح هذه الأيام
تم اللقاء بين الرجلين لأول مرة عام 1947, ولعل سيزار هو الذي شجع الفنان الي اتخاذ لنفسه اسم اصلان ليوقع به علي لوحاته ورسومه, وأصلان هو ايضا اسم أوروبي حيث نعرف أيضا من خلال الدكتورة آنا أصلان التي ابتكرت العقار الطبي ه 3, كما انه الاسم المستعار الذي اتخذته لنفسها مؤلفة الروايات الماجنة الشهيرة ” ايمانويل”, وهو الاتجاه نفسه الذي اتخذه الرسام حين تعاون مع مجلة “لوي”التي تعتبر صورة فرنسية من مجلة “بلاي بوي ” الأمريكية,  مع الفارق  الكبير بين المطبوعتين, سواء علي المستوي الثقافي أو الفني

في سنوات الخمسينيات . تعددت أعمال الفنان الذي كان عليه اما أن يرسم أو ينحت , وقد اكتشف أن الاعلانات أو تصميم الأفيشات يوصل رسوماته الي ملايين الناس فقام بتصميم أفيشات البومات الاغنيات الشهيرة لمطربي  الخمسينات ومنهم شارل أزنافور وايف مونتان, وفي عام 1952 وقبل أن يترك الجيش تعاون مع متحف مدام توسو في لندن وصمم لها الكثير من التماثيل للمشاهير’ وكان قد حصل علي جائزة عن تمثال نصفي صممه عن المؤلف المسرحي الأسباني بريت برويث,
في عام 1953, تغير نشاطه فاتجه الي رسم روايات الأطفال الشهيرة التي تترجم الي الفرنسية لصالح أحد الناشرين , وبدت عبقريته في رسم  الرواية الايطالية الشهيرة ” بينوكيو, بحيث اعتبر انه أفضل من صورها , وقد تم الاستفادة من هذه الرسوم في الطبعة العربية للرواية المنشورة في دار المعارف, كما نشر لحساب دار هاشيت روايات أطفال أخري منها مؤلفات هانز كريستيان أندرسن ’ وقصص بيرو وغيرها , ويبدو أن المراحل تعددت في حياة الفنان , ففي عام1953 ,وطوال ثلاث سنوات قام برسم فتيات الاستعرض اللائي يشاركن في عمل استعراض الملاهي الليلية الشهيرة بباريس , ومنها ” الفولي بيرجيه” , وكريزي هورس”, و”كازينو باريس” وغيرها , وقد ساعدت رسوماته المتألقة  الي جذب المزيد من الزبائن الي هذه الملاهي التي تعج بالحسان والاستعراض الجميل , وقد استمر هذا التعاون لمدة عشر سنوات

في عام 1956 بدأ يتعاون مع المجلات الاجتماعية الشهيرة التي تنشر القصص العاطفية التي تجذب انتباه الشباب , خاصة البنات المراهقات , وهي المجلات التي اعتمد ت مجلة ” حواء ” المصرية علي ترجمة قصصها  اللغة العربية ’ وقد تزينت صفحات مجلتا “نو دو” ( نحن الاثنان) و” انتيميته”( محبة ) بهذه الرسوم التي استعارت منها مجلة حواء بعض الرسوم ما يعني ان القارئ العربي تعرف علي أصلان دون أن ينتبه الي أسمه
من الملاحظ هنا اننا امام فنان جيد يعمل في بعض الأحيان في المجال التجاري ,وأن التعاون مع الملاهي الليلية يعني انه سوف يتم تجديد واجهات هذه الأماكن من وقت لآخر مثلما يحدث مع أفيشات السينما خيث يأتي الملصق الجديد ليلغي القديم , لكن لا ننسي أن أصلان كان شابا صغيرا مليئا بقوة الابداع لم يتجاوز الثلاثين ,  وقد التقي بالفتاة برجيت مارست عام 1957 التي أنجبت له ابنتين وعاشت الاسرة سعيدة طوال عمرها
من تابع صفحات المجلة لشهيرة ” تان تام” فانه سيلاحظ رسوم أصلان البارزة, ونقول هذا لأن الطبعة العربية التي صدرت في مصر أثناء السبعينيات من مجلة ,تان تان” لاشك انهم انتبهوا الي هذه الرسوم التي تحمل اسم أصلان , كان يرسم الرسم التوضيحي لقصص الأطفال ولم يكن يميل الي الاستربس كما كان يفعل هيرجية صاحب المجلة ومصمم شخصية تان تان.
في عام 1963, بدأت المرحلة الأهم في تاريخه الفني علي الأقل علي مستوي الشهرة , وهي مرحلة استمرت قرابة عشرين عاما, حيث بدأ يرسم لمجلة “لوي” صفحة منفصلة, أو صفحتي الوسط, هذه المجلة التي صدرت علي غرار مجلة بلاي بوي الأمريكية , والجدير بالذكر ان هذا النوع من المجلات يعتمد علي ثقافات مختلطة تمزج بين الاباحية من خلال نشر صور بها العري لفتيات جميلات , وفي الأعداد يمكنك ان تقرأ قصصا قصيرة لأدباء من قامة أرنست هيمنجواي , وترومان كابوت, وجويس كاول أوتس ,. وآخرين , كما أن المجلة تنشرأحاديث مع شخصيات مرموقة عالميا , منهم احدي الشخصيات النسائية البارزة في السياسة المصرية,
أما مجلة “لوي”,  فان جرعة الثقافة تبدو أكثر تواجدا وهي تمثل الثقافة الفرنسية , وتنشر ايضا الاحاديث مع شخصيات محلية وعالمية مرموقة, وقد تعامل  أصلان مع المجلة من خلال ماعرف في القرن العشرين بثقافة الpin up وهي تعني تصوير النساء في وضع أغراء , تبدو بملابسها الداخلية , وقد انتشرت هذه الظاهرة مع اكتشاف وازدهار التصوير الفوتوجرافي’ وقد شاركت فيه أشهر نجمات السينما العالمية مثل ريتا هايورث, وبيتي جرابل ,وجين هارلو ,أخريات , وقد أقبل الشباب علي هذه الصور , وتم بيعها بأحجام كبيرة كانت تعلق داخل جدران غرف الشباب الذين يعجبون كثيرا بنجماتهن الجميلات المفضلات
هذه الظاهرة انتقلت الي عالم الرسم , وتألقت في الكثير من المجلات , وأيضا في صورة بوسترات, ومن ابر ز هؤلاء الفنانين :ايرل موران , وهنري كليف, ومرجريت  برونداج , ولاري ايلمور , ولويس رديو, والعشرات , وأغلبهم من الأمريكيين, أما اوروبا فكل ما كان عليها ان تصدر طبعات محلية بلغات أوربية لمجلة ” بلاي بوي” عدا مجلة “لوي” التي تحمل الهوية الفرنسية, علما أن الفرنسيين هم ابرع من يصدر المجلات النسائية والثقافية  والسياسية في العالم , وكم صدرت طبعات بلغات اوروبا للعشرات من المجلات الفرنسية . ومنها ” لاكسبريس”, و”  ال  -هي” و ” فوج” وغيرها
وبهذه الروح قرر آصلان ان يقوم برسم صفحته الشهرية في هذه المجلات , ووسط الصور الحية لنساء جميلات , فان القارئ كان ينجذب دوما الي اللوحة الفنية التي يرسمها آصلان, ويكفي تأمل ملامح الوجه والأطراف لندرك اننا امام ابرع مصوررسام فوتوجرافي في القرن العشرين , لكنها رسوم بالجواش , أو الأقلام الملونة , وهي الأدوات التي كان يستعملها الفنان

في مرحلة لاحقة عاد آصلان الي عالم السياسة , او لنقل الوطنية , فهناك دوما تمثال يمثل الشخصية الفرنسية يسمي “ماريان”, يتخذ من شخصية مشهورة وجها , أو قناعا, وفي عام 1968, صمم آصلان تمثالا نصفيا يمثل آريان بوجه الممثلة برجيت باردو, وقد ظل هذ التمثال يمثل الشخصية الفرنسية لعدة سنوات حتي أصابت الشيخوخة وجه باردو الحقيقي, وصار هناك وجه جديد يحبه الفرنسيون هو وجه المطربة ميري ماتيو ,  التي تعتبر امتدادا حقيقيا للمطربة الخالدة اديت بياف , فقام أصلان بعمل تمثال أريان الجديد بوجه ميري ماتيو . وذلك لحساب متحف اللوفرالذي صنع عشرين ألف نسخة من كل تمثال  وزعت في انحاء فرنسا ’ وقد حرصت العموديات الفرنسية علي اقتناء التمثال وتوزيعه  كدافع وطني في المقام الأول

وفي هذه السنوات قام بعمل تمثال نصفي للرئيس شارل ديجول عام 1970 , كما ان الفنان صمم الغلاف الخارجي لألبوم الغناء الشهير ” الصيف الهندي” للمطرب  جو داسان، الذي ظهر علي الشريط براقا مثل صوته ما ساعد علي انتشار الشريط وطبعه عدة مرات , وفي الثمانينيات عاد الي المشاهير ليصمم تمثالا نصفيا للنجم الان ديلون، وعقب انتحار المطربة داليدا في عام 1986 صمم تمثالا كاملا لها وضع الي جوار مقبرتها, وهو ايضا من البرونز الذي يستخدمه آصلان , وقد وضعت نسخة من التمثال نفسه في ميدان مونمارتر تحية للفنانة ذات الأصل المصري التي لم يتم تكريمها قط في الوطن التي غنت له ” حلوة يابلدي” وأغنيات عديدة باللغة العربية

في عام 1989 صمم تمثالا نصفيا للرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو , كما عاد مرة أخري ليصمم تمثالا حجريا للفنانة داليدا عام 1997, وبدت المرحلة الفرنسية كأنه يودعها , ففي عام 1995 هاجر مع اسرته الي كندا,واستحدم نفس أدواته القديمة ومنه القلم الرصاص, بالاضافة الي الرسم علي الألومنيوم , وبدا مخلصا للغاية لما يسمي بالمرحلة الكبيكية , فتصرف بمنتهي الوطنية وهو يصمم تماثيل نصفية تمثل المقاطعة الكندية الناطقة بالفرنسية,وايضا تماثيل للشخصيات البارزة هناك, منها تمثال للفنان الفريد بيلان , وفي كندا منحوه المزيد من التكريم, وصار قومسيير عام للمعارض الفنية في المقاطعة وقد قال عنه الناقد التشكيلي بيتر كورنيت أنه:” عندما نتحدث عن البين آب فان الفكر يذهب مباشرة الي آصلان بسماته المدهشة ما يجعلنا نضعه قي مصاف كبار الرسامين في الفن المعاصر” وفي السنوات الأخيرة قامت احدي دور النشر الكندية بعمل ثلاثة البومات تجمع أعمال الفنان المتناثرة , وهو تقليد حميد للتعامل مع الفنان بشكل خاص , ومع الفن التشكيلي بوجه عام.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات