د. خليل الشيخ يحقق ملحمة (الراميانة) التي ترجمها البستاني شعرًا

06:45 مساءً الجمعة 7 مارس 2014
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

ننشر فيما يلي مقدمة الدكتور خليل الشيخ، لكتاب الراميانة الذي قام بتحقيقه، وترجمه الشاعر والمترجم اللبناني وديع البستاني الذي كانت له اياد بيض في الدفاع عن عروبة فلسطين وخدمة الثقافة العربية، وتحمل المقدمة عنوان (الراميانة: المترجم والعمل)

المحقق والأكاديمي الأردني د. خليل الشيخ، مع غلاف (الراميانة)

ينتمي وديع البستاني (1888-1954), مترجم هذه الملحمة الشعرية, إلى أسرة لبنانية مارونية نبغ العديد من أفرادها في الأدب واللغة، وكان لها مع أُسر لبنانية أخرى أمثال: اليازجي والمعلوف والشرتوني، دور جليل في خدمة اللغة العربية وآدابها.
يبدأ تاريخ آل البستاني العلمي بالمعلّم بطرس البستاني (1819-1883) الذي يعد, مع الشيخ ناصيف اليازجي (1800-1871) من كبار مثقفي القرن التاسع عشر في بلاد الشام. بدأ البستاني نشاطه الفكري في مجال التعليم فأسس في بيروت عام 1863 مدرسة سماها المدرسة الوطنية، وفتح أبوابها للطلبة على اختلاف طوائفهم، وصب جلّ اهتمامه على تعليم العربية؛ لأنها من مكونات الهوية القومية، ولكونها وعاء للمعارف والعلوم, فألّف في نحو العربية وصرفها عددًا من الكتب التعليمية, لكنّ انجازات المعلم البستاني الكبرى ما لبثت أن توسعت لتتجلّى في ثلاثة أعمال كبرى ذات طابع نهضوي:
فقد بدأ البستاني منذ عام 1860 بإصدار عدد من الصحف والمجلات، تقع جريدة “نفير سوريا” على رأسها، وهي مجلات ثقافية الطابع عربية الأبعاد, تعكس التحوّلات الثقافية الجديدة، وتبيّن الأثر الذي بدأت الطباعة تتركه, مثلما توضح اتساع قاعدة التعليم تدريجيًا. أمّا في عام 1870 فقد أصدر معجم “محيط المحيط” في مجلّدين كبيرين، اعتمد فيهما على “القاموس المحيط” للفيروآبادي، وإن كان قد أضاف إليه الكثير من المصطلحات الحديثة الخاصة بالأدب والفنون، وكان يأمل وهو يكتب مقدمته أن “يرى أبناء وطنه يتقدمون في المعارف والآداب والتمدن تحت لغتهم الشريفة”. أما العمل الثالث الذي شرع البستاني في إصداره فكان دائرة المعارف، التي بدأ العمل بها عام 1870 مع ابنه سليم (1848-1884) ونسيبه سليمان معرّب الإلياذة فيما بعد (1856-1925).
إن المتأمل في هذه الأعمال الثقافية يجد أنها تنطوي على بعد تنويري لا يخفى, فقد أراد بطرس البستاني أن يقدم للقارئ العربي عملا موسوعيا على غرار الموسوعات الكبرى التي كان يرى أنها “قاموس لكل فن ومطلب”.
إن مقدمة بطرس البستاني للموسوعة تبيّن أنه كان يرى في هذا اللون من المصادر ضرورة معرفية؛ لأنها سبب “من أسباب المنافع العمومية التي تبسط أمام المطالع كلّ علم ومعرفة وفن وصناعة وحكمة، بل كل ما في العالم من المطالب والمعارف المهمة “مثلما توضح أنه كان يعي في الوقت نفسه أهميتها للعرب، كونها تسهم في “ترقية أسباب التقدم والتمدن والثروة والرفاهية والعلوم والمعارف في ربوعهم”.
استمر سليم في دفع مشروع أبيه ,بعد وفاته, إلى الأمام, كما بدأ ينشر عددا من الروايات في مجلة “الجنان”, لعل “الهيام في جنان الشام” التي شرع ينشرها منذ كانون الثاني عام 1870 لتكتمل في تشرين الثاني من العام ذاته من أكثرها أهمية. وقد توقف عند هذه الرواية العديد من الدارسين وأشاروا إلى ريادتها ودورها في نشأة الرواية العربية الحديثة.
أمّا سليمان فقد تخرج في المدرسة الوطنية وتعلّم فيها الإنجليزية والفرنسية والسريانية، وكان ينشر بعض مقالاته في المجلات التي أسسها أقرباؤه, مثلما كان له دور في تنظيم دائرة المعارف وكتابة بعض موادها. غير أنّ المشروع الذي وهبه سليمان ستة عشر عاما من عمره، كان تعريبه لإلياذة هوميروس, التي نشرها في القاهرة عام 1904 في 1260 صفحة, إضافة إلى مقدمة ضافية تقع في حوالي مئتي صفحة تحدث فيها عن هوميروس وشعره، وقارن فيها بين الشعر اليوناني والشعر الجاهلي، وتوقف مبكرًا عند المسألة الهومرية كما تحدث عن ترجمته للملحمة والأسس التي اتبعها.
لقد شكلت تلك المقدمة مع كتابي محمد روحي الخالدي وقسطاكي الحمصي، اللذينْ ظهرا في العام الذي نشرت فيه الملحمة, نقطة تحول في مسار النقد العربي الحديث من حيث المرجعيات والأسس والمنظور.
كان من الطبيعي أن يتأثر وديع (1888-1954) بهذه الأجواء المعرفية الخصبة العابقة بالشعر والترجمة، والحرص على إتقان اللغات والتبحرّ في الآداب العربية والغربية. فعندما أحس عمه سليمان أن لغة وديع ركيكة، وأنّ عربيته لن يستقيم حالها إلا إذا حفظ القرآن الكريم, استجاب وديع للنصيحة وتعلم القرآن على يد مقرئ, وكانت لغته من ثم عالية تحفل بالكثير من الإشارات القرآنية.
درس وديع في الجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج فيها عام 1907, ثم عمل مدرسًا للفرنسية والإنجليزية فيها حتى عام 1909, سافر بعدها إلى اليمن ليعمل كبيرًا للمترجمين في القنصلية البريطانية, ثم إلى القاهرة ليعمل موظفا حكوميا فيها، ولتتعزز صلاته بكبار الشعراء المصريين آنذاك. وما أن اكتشف وديع ترجمة ادوارد فتسجيرالد لرباعيات الخيام حتى أبحر إلى لندن عام 1911؛ ليعرف المزيد عن الخيام، وليقوم بنشر ترجمة لرباعياته عام 1912، وهي ترجمة تنتمي إلى بواكير الترجمات العربية للرباعيات.
إنّ أحدًا من دارسي وديع البستاني لم يبين البواعث التي قادته للذهاب إلى الهند على هذا النحو المفاجئ في هذه الحقبة التي شهدت بدايات الحرب العالمية الأولى. ويبدو لي أن وديع كان يريد عبر ذهابه إلى هناك، أن يتعرف إلى منطقة مجهولة، وأن يقدم للقارئ العربي أدبًا جديدًا، وملاحم شعرية لا تقل أهمية عن تلك التي سبق لعمه سليمان أن قدمها. زار وديع الهند عام 1912، ومكث فيها عامين, ثم عاد إليها عام 1915، وبقي حتى عام 1916.
أكبّ وديع على آداب الهند القديمة، وشرع يقرؤها مستعينا بالترجمات الإنجليزية والفرنسية وباللغة السنسكريتية التي عرفها. وقد نقل البستاني ملحمة المهبراتا التي تعد واحدة من أكبر الملاحم الهندية إلى العربية شعرًا, مثلما ترجم بعض أشعار أكثر أدباء البنغال شهرة، وهو رابندرانات طاغور(1861-1941) إلى العربية, وكان طاغور قاصًّا وشاعرًا ومؤلفًا موسيقيًا ورسامًا وكاتبًا مسرحيًا. وقد نال في عام 1913 جائزة نوبل للأدب, وتمزج كتاباته بين العناصر التقليدية والحديثة، وبالرغم من أن موضوعاته عالمية، إلا أن النكهة البنغالية القوية واضحة في كتاباته.
كان البستاني قد زار طاغور في معهده، ومكث في ضيافته ثلاثة أيام أطلعه فيها على ترجمته لمختارات من أدبه, نشرها وديع عام 1917 تحت عنوان “البستاني”. وكان وديع قد نشر في “الهلال” في أيار 1916 كلمة عن الرجل عندما أشارت المجلة إلى زيارته لمعهده.
جاء حديث وديع عن طاغور طافحا بالإعجاب, فقد رفعه إلى مصاف القديسين وكبار الحكماء، فرأى أن شعره مزيج من خواطر الأطفال وعواطف الأمهات، وتبيّن له بعد أن رآه عن قرب أنه “يمتلك نَفْسًا سامية, تنبعث من عينيه أشعة سنية وتسيل مع صوته الرخيم العذب نغمات”.
كانت فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني, البلد الذي ألقى فيه وديع البستاني عصا الترحال, فقد وصل إلى يافا عام 1917؛ ليعمل مساعدا مدنيّا للكولونيل البريطاني باركر, لكنه سرعان ما تخلى عن هذا العمل، وانتقل إلى حيفا ليصبح من أبرز المدافعين عن الحق العربي في فلسطين، وليظل فيها بعد سقوطها حتى تم طرده إلى لبنان عام 1953 ليتوفى هناك بعد سنة من رجوعه.
عرّف وديع ذاته في مقدمة ديوانه الشعري “ديوان الفلسطينيات” الذي صدر عام 1946 بأنه “لبناني المولد والعشيرة وفلسطيني الإقامة والتوطن” وقد توقف سليمان جبران في كتابه “نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب” الصادر عن جامعة حيفا عام 2006، عند شعر البستاني وجعله رائدا في تلك الحقبة؛ نظرا لما يتميز به هذا الشعر من وعي وجرأة وروح عربية, ولما يتصف به من سمات فنية قادرة على خلق روح استنهاضي، وكان عبد الرحمن ياغي قد أصاب عندما وصفه “بأنه شاعر خصيب الوجدان, يقظ العقل, واعي الضمير, يتصل بحياة هذه البلاد السياسية اتصالا وثيقًا خبر خفاياها, لا يبخل على أهلها بالتوعية والتحذير” ولعلّ أحدا لا يقرأ شعر تلك المرحلة إلا ويتذكر قصيدة البستاني القوية المنشورة عام 1920, في الرد على رائية الشاعر العراقي معروف الرصافي (1875-1945) التي يمدح فيها المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل وما صنعه ردّ البستاني من أصداء أجبرت الرصافي على مغادرة القدس مرغمًا.

البستاني

الراميانة -كما هو متداول- ملحمة شعرية هندية مغرقة في القدم، مكتوبة باللغة السنسكريتية لا تُذكر إلا وتُذكر معها رديفتها الأخرى المهابارتا التي سبق لوديع -كما أشرنا- أن ترجمها وقد تولى نشرها “جمعية متخرجي الجامعة الأمريكية” وصدرت بعد وفاة وديع كما أشار ابنه في مقدمتها.
تنتمي الراميانة إلى الموروث الهندي المقدس، وتنسب إلى الشاعر الهندي فالميكي valmiki الذي يظهر في الملحمة بوصفه إحدى شخصياتها, لكن الراجح أن القصيدة من إنشاء عدد كبير من الشعراء والمنشدين, لتغدو في النهاية بأبياتها التي تبلغ 24 ألفا, من صناعة العقل الجمعي الهندي، وتعبيرا عن مخيال تلك الأمة ومعتقداتها, لذا فإن شخصية راما ما تزال حاضرة في الأغاني والرقص والدراما إلى يوم الناس هذا على امتداد آسيا، وحضورها يعلي من سيطرة العنصر الآري على مقاليد الحكم في الهند، ويحتفي بتلك اللحظة بوصفها لحظة مهمة في التاريخ القومي والديني عند الهنود.
يمثل راما وسيتا الشخصيتين الرئيسيتين في الملحمة, أمّا راما فهو ابن ملك عود ووارث عرشه، الذي يتعرض لمؤامرة تفقده حقه في الملك وتجبره على الذهاب إلى الغابات منفيا مدة أربعة عشر عاما ترافقه زوجته ولقشمان, أخوه غير الشقيق. أما سيتا فهي ابنة الملك جاناك الذي كان قد عثر عليها وهو يحرث الأرض, وعندما كبرت وتقدم إلى خطبتها الكثيرون, عقد جاناك مسابقة بين هؤلاء الخاطبين بحيث يفوز بسيتا من يتمكن من تقويم اعوجاج قوس جاناك التي يقاتل بها، ولم يتمكن من فعل ذلك سوى راما الذي تزوج من سيتا في احتفال مهيب.
يعيش الثلاثة المنفيّون في الغابات حياة التقشف والزهد, تحكمهم علاقات المحبة والإخلاص وحياة السمو الروحي.
يبدي لقشمان طاعة مطلقة لأخيه راما، ويسهر على رعايته مع زوجته. لكنّ الملحمة تشهد تطورًا ميلودراميًا عندما يقوم رافانا ملك لانكا -وهو مقابل لشخصية راما- أن يمسك به، فيقوم راما بمطاردته إلى مسافة بعيدة، وعندما تأخر راما في العودة, طلبت سيتا من لقشمان أن يذهب للبحث عن أخيه، فيرفض لقشمان في البداية لكنه يرضخ لإلحاح زوجة أخيه, فيقوم رافانا باختطافها وحملها إلى بلاطه. عزم راما وأخوه على استرجاع سيتا, فتحالفا مع الملك/القرد سوجريفا ودخلا في حرب لتحرير سيتا من الأسر تنتهي بمقتل رافانا وتحرير سيتا، وعودة الجميع إلى عود ليغدو راما ملكا وليعود الحق إلى صاحبه.
تروي بعض أجزاء الملحمة, التي يرجح أنها أضيفت في عصور متأخرة, أن بعض الشكوك ساورت راما وبعض رعيته في براءة سيتا وإخلاصها, لأنها أمضت زمنا طويلا في الأسر, على الرغم من وفائها المطلق لراما, فتقرر أن يتم إلقاؤها في النار التي لن تنال منها إن كانت بريئة. تجتاز سيتا محنة النار وتنجو من لهيبها، ومع ذلك يقوم راما بإرجاعها إلى الغابة لتعيش في صومعة في كنف الناسك فالميكي الذي تعهدها وولديها بالرعاية, فيصبح الولدان منشدين جوالين لملحمة الراميانا.
وعندما يقومان بإنشاد الملحمة أمام راما على مدار عدة أيام, يدرك أنهما ولداه ويبعث إلى سيتا كي تعود, وعندما يطلب منها أن تشهد الأرض على براءتها, تطلب سيتا من أمها الأرض أن تفتح لها أحضانها لتعود إليها, وترجع راما إلى أمها, ويبقى راما ملكا عادلا يشعر بالكثير من الألم.

(3)
تتحقق في الراميانة شروط الملحمة وخصائصها، فهي تقوم على الشعر القصصي البطولي القابل للإنشاد الذي يحكي قصة عدد من الشخصيات التي تسمو فوق مستوى البشر, ولها ما للأبطال الأسطوريين من قدرات.
تحوي الملحمة الكثير من الأحداث الخارقة، والمعارك الحربية التي تخوضها الشخصيات دفاعا عن الفضيلة. من هنا كان من الطبيعي أن تتمحور الأحداث في الراميانة حول راما بوصفه بطلا قوميا، فيه سمات البطل الملحمي المدافع عن الحق والخير، والمتمتع بقوة خارقة تفوق قدرة الناس العاديين.
تتميز الراميانة -شأنها شأن الملاحم الكبرى- باتساع الفضاء المكاني, فهي تدور في أرجاء واسعة من الهند وخارجها وتصف مظاهر طبيعية متباينة, كما تتداخل في أحداثها الخوارق والعجائب حيث تظهر الآلهة أو أنصاف الآلهة في مجرى الأحداث.
والراميانة ملحمة طبيعية أي أنها من ذلك النوع الذي يظهر في العادة في المراحل الأولى من حياة الأمم، وتصاغ على نحو تلقائي ويتعدد ناظموها ويكثر رواتها, لهذا يتعرض هذا النوع من الملاحم إلى الكثير من الإضافات والحذف والتغيير, لكنها تنسب في نهاية المطاف إلى شاعر عظيم.
إن الراميانة ليست ملحمة شعرية فحسب, ففيها يتداخل الشعري بالديني كما تتجلى في أجزائها نبرة اعتزاز قومي.
قسّم وديع البستاني الراميانة إلى اثني عشر سفرًا، تحوي في مجموعها الملامح الكبرى لشخصية راما منذ شبابه الأول مرورًا بنفيه وموت أبيه، ومحاولة أخيه أن يعيده إلى عود بعد تلك الوفاة، ورفض راما حفاظًا على العهد الذي قطعه على نفسه الذهاب إلى الغابات واجتيازه مع أخيه وزوجه لنهر الكنج وصولا إلى صومعة فلميكي, حيث تحتفي الملحمة بحياة التقشف والزهد وتسرف في الحديث عما يتمتع به الهند من طبيعة خلابة، وغابات فسيحة الأرجاء وأنهار غزيرة الأمواه.
بعد ذلك تتحدث الملحمة عن خطيفة سيتا وبحث زوجها وأخيه عنها، وصولًا إلى الحرب الضروس التي قامت لتحريرها من الأسر.
يتحدث البستاني عن الحرب على نحو تفصيلي، فيذكر مجلس الحرب والحرب في سيلان وانتصار راما وعودته إلى عود والنهاية التي انتهت إليها سيتا.
وقد حرص البستاني أن يشير في مقدمة كل سفر إلى الفصول المترجمة، معتمدًا في ترجمته للملحمة على ترجمة ROMESH DUTT الإنجليزية المعنونة بـ: RAMAYANA:EPIC OF RAMA,PRINCE OF INDIA التي تختار فصولًا بعينها من الملحمة تتطابق مع الفصول التي اختارها البستاني، كما تتطابق مع مقدمات الأسفار التي ترجمها البستاني إلى العربية.
(4)
يصدر البستاني عن إعجاب واضح بالأدب الهندي, فقد ظل مشتغلًا على ترجمته، وفلسطين تعيش لحظات حرجة من تاريخها، ويبدو أن البستاني كان يجد في هذه الأجواء الملحمية المملوءة بالانتصارات ما يعوضه عن ذلك الواقع الكئيب الذي كان يعيشه, فقد انتهى من تعريب “الغيتا” أو النشيد السماوي يوم مقتل غاندي عام 1947، وأنهى الملحمتين المشار إليهما في هذه الفترة كذلك، وكان البستاني معجبًا بغاندي ونضاله السلمي, لذا كان من الطبيعي أن يهدي العمل إليه باسم عرب فلسطين الذي كان متعاطفا مع قضيتهم.
كانت تجربة سليمان البستاني حاضرة في وجدان وديع وهو يترجم ملاحم الهند، وهذا الحضور يتخذ تجليات شتّى, فقد حرص وديع البستاني على استخدام جملة؛ عربها شعرا “التي سبق لعمّه سليمان أن استخدمها، ومصطلح التعريب -كما أشار جابر عصفور في تقديمه لإلياذة هوميروس في الطبعة الصادرة عام 2004- لا يختلف عن مصطلح الترجمة, لكن سليمان ووديع يحرصان على تقديم هذه الملاحم شعرًا موزونًا ومقفى يحرص على أداء المعنى, مثلما يحرص على الأداء الشعري الجميل.
يبلغ عدد أبيات الراميانة التي ترجمه وديع إلى العربية 3950 بيتًا شعريًا، أما عدد أبيات المهبراتا التي ترجمها فقد بلغ 3472 بيتًا، فالمجموع هو 7422 بيتًا شعريًا.
وهذا العدد الضخم شاهد عدل على قوة شعرية عارمة، وعلى قدرة على منح الملحمة طابعًا شعريًا عربيًا من خلال قوة التصوير وانسياب الجملة الشعرية.
ومثلما سبق لسليمان وهو يترجم أسماء الأعلام والأماكن والمصطلحات, لجأ وديع إلى تعريب تلك الأسماء أو ترجمة مدلولاتها, وكان يسعى في كل الأحوال إلى أن تبقى الترجمة منسجمة مع ذائقته الشعرية العربية التي لا تسيغ الرطانة والعجمة.
ولم يكن مستغربًا أن ينوع البستاني بين البحور الشعرية العربية, وهو الواعي بموسيقى الملحمة الأصلي الذي تحدث عنه، وهو ما يسميه بحر الشلوقة السنسكريتي الذي حاول البستاني أن ينظم على إيقاعه. وهو لايختلف عن الرمل كما يتبدى في المقطوعة الشعرية المسماة “وصف الشتاء” في بنشفاتي.
لكن الملاحظ أن البحر الشعري الغالب على الملحمة هو بحر الوافر, الذي بلغت عدد قصائده ما يقرب من نصف عدد القصائد, يلي ذلك الطويل والبسيط. أما القافية فهي قافية موحدة, باستثناء بعض القصائد التي يحاول التنويع في قافيتها.
لايكاد المرء يرى كبير فرق بين أسلوب وديع في أشعاره وأسلوبه في الترجمة. فهو يحرص على بناء قصيدة شعرية, عالية الإيقاع ,واضحة المعنى, محكمة المنطق, تتسلسل فيها المعاني وتتنامى بإحكام بحيث يبدو هذا التنامي شبيها بالمرافعة القانونية في بعض الأحيان, ولاغرو فقد أنهى البستاني دراسة القانون في القدس في أوائل ثلاثينات القرن الماضي.
لهذا تتميز قصائد البستاني بالمباشرة وعلو النبرة, لكنها طافحة بالإيقاعات الموسيقية، ولا تخلو من الصور الفنية الموحية.
لقد أشار سليمان جبران أن قصائد البستاني مليئة بالإشارات إلى الشعر العربي القديم, وهو ما يتكرر في ترجماته, فما أن يشرع المرء بقراءة النصوص الشعرية المترجمة, حتى ترد إلى ذهنه إيقاعات ذلك الشعر, لكن البستاني كان قادرًا على أن يستلهم الإيقاع الشعري ليصنع النص الشعري المترجم على إيقاعه, لذا فإن ترجمات وديع الشعرية, وإن كانت تفيد من آليات الترجمة التي وضعها عمّه, الا أنها أكثر جمالًا وأقل$؟؟ وعورة، وإن كانت تلجأ هي الأخرى إلى لغة قاموسية في بعض الأحيان. وهي مثل ترجمة سليمان، حريصة على عدم الإطناب والثرثرة.
إن المتأمل في الراميانة, يجدها على الرغم من زمنها الطويل وفضائها المترامي الأطراف, تقوم -شأنها شأن الملاحم الكبرى- على التتابع الفوري للأحداث، وعلى تداخل الوظائف وعلى القدرة على إثارة خيال القارئ, وقد حاول البستاني أن ينقل ذلك كله, مثلما سعى ليعرفنا بالمجتمع الهندي وتكوينه وطبقاته ومعتقداته وطقوسه الدينية.ظعندما ذكر فؤاد وديع البستاني الراميانة في مقدمة المهابارتا, ذكرها من بين الكتب المعدة للنشر. وقد مر ّعلى ذلك نحو من ستين عامًا، ولم تنشر هذه الترجمة الرائدة, وإن كان جرى في تلك الأثناء ترجمات نثرية للملحمة إلى العربية.
لهذا فان إقدام “كلمة” على نشر هذا العمل, يقدم خدمة معرفية جليلة للقارئ العربي، ويعيده إلى زمن الانجازات والكشوفات التي أثرت الثقافة العربية. ويطيب لي أن اشكر الدكتور فضل الرحمن من المعهد العلمي الهندي لقء هذه الخدمة للثقافتين الهندية والعربية.
لقد كان وديع البستاني حلقة قوية من حلقات آل البستاني, يشبههم في الموهبة و الموسوعية والجلد والعطاء, ويتفوق عليهم وعلى الكثيرين في الانتماء إلى الأمة العربية، وما خلفته من موروث حضاري.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات