كانت متعة الذهاب إلى (البلد) كبيرة، وأذكر أنه في الليلة السابقة على السفر كانت تتسلل للأنف رائحة أكواز الذرة المشوية على نار المّنْقَدْ، وتتحسب مجسات التذوق من الشاي المر الذي يقطع نفسه على النار، فلا يقوم الإبرايق من فوق الفحم إلا ليصب لك في كأسك الزجاجية شرابا أقرب للطمي من الشاي، لا تفك مرارته سوى ملاعق السكر الكثيرة. وبين حلاوة الذرة ومرارة الشاي تتأرجح الحكايات في القرية، تارة ونحن ننتظر التوت أسفل الشجر، وأخرى حين يغلبنا النوم قبل مجيء أرغفة الذرة الطازجة بالجبن القديم والمش، والعسل الأسود، وغزليات أظرف أعمامي لصاحبة دكان البقالة الوحيد من البيت إلى الغيط.
ثم حدث ما خشيت أن يحدث، ويخرجني من اندماجي في عالم الفلاحة. وصلنا الأرض، مع أعمامي، وأولادهم، على ظهر الحمير، وبدأنا رحلة تنظيف الأرض من الحشائش الضارة. بالطبعة كانت اللعبة سهلة، تركوا لي قيراطا أو قيراطين، وذهبوا إلى قطعهم، ليعودوا بعد ساعة ليكتشفوا أن الفلاح ابن البندر قام بقطع قرون الفلفل المسورة للأرض. وبدلا من تنقية الحشائش، قصفت عمر الفلفل. كان لا بد من أخذ دروس خصوصية حتى لا تتكرر المأساة، بالنسبة لهم، وكانت مادة للتندر بمن قتل الفلفل في مهده، وكنت أستغرب وأنا أقطعه: كيف للحشائش الضارة أن تنمو بمثل هذا التناسق كشريط من الجند المصفوف؟
لماذا تذكرتُ هذا اليوم؟
لأنني رأيت في غمرة احتفالات الكوريين بمهرجاناتهم الفلاحية يدربون أطفالهم على غرس الشتلات، وحرث الأرض وراء الدواب، والغوص في الطين، حتى أن السياح يشاركون أبناء الكوريين في هذه المتعة. إن هذا البلد الصناعي الكبير لا يتوانى عن تقديم صورة أخرى لوجهه الفلاحي.
أعتقد أننا لو كنا ـ أبناء المدن ـ نتدرب في مدارسنا على الفلاحة، وتقوم رحلات من المدارس إلى الأراضي الزراعية المجاورة للمدن، للتعرف على أهمية الزراعة، وعمل الفلاح القاسي، وجهد الأسرة الفلاحية، وكيف تصبح البذور ثمارا، لاكتسبنا الكثير، وما بقي عندنا جهل بالمواسم الزراعية وأهمية الزراعة شريانا للحياة وقوتا للبشر.
صور بديعة وذكريات تأخذنا بعيدًا، لكنها تؤكد أن التفكير في مستقبل بلد كبير لا يهمل جانبا من جوانبه، وإذا كان أبناء نهر الهان قد تفوقوا ، فذلك لأنهم لم يهملوا أرضهم، كما أهملها أبناء نهر النيل.
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.