عـدلـي منـصور … النبيلُ الجليلُ الذي أضاءَ حياتَنا بمصابيحِ الشرفِ والقيَمْ

12:59 مساءً الثلاثاء 17 يونيو 2014
بشير عياد

بشير عياد

شاعر ، وناقد ، وكاتب ساخر ، يغني أشعاره كبار المطربين، له عدة كتب في نقد الشعر، متخصص في " أمّ كلثوم وشعرائها وملحنيها " .

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

كنتُ أتمنّى أن أتابع خطاب الوداع المهيب للعملاق المصري المهيب السيد الرئيس عدلي منصور ، فدائمًا أحبّ أن أكونَ مشاركًا في الشعور العام ومتضامنا معه ، لكنّ ظروف العمل حالت دون ذلك ، وعندما عدت إلى المنزل وتأهّبت لمتابعة الإعادة ، كان للكهرباء رأيها الخاص والحاسم والمعكنن المستمر ، ولم أنل إلا بعضا من مقتطفات الخطاب في نشرات الأخبار ، ولا أحبّ الرجوع إلى المشاهدة على الانترنت إلا إذا كان ذلك في إطار التوثيق والتدقيق ، إذ لا أطيق التعامل مع الوجبات المحفوظة في الديب فريزر ، وأميل إلى كل ما هو بـ ” نار الفرن “!

 اكتفيتُ بقراءة الخطاب في صحف اليوم التالي ، وكانت الملاحظة التي فرضت نفسها هي توزيع الخطاب على جميع الصحف ، وتم نشره بعلامات الشكل المنضبطة حرفًا حرفًا ، وهذا شيءٌ رائع ، واعتبرته مكملا لسيمفونية الجمال والرقيّ والاحترام التي عزفها السيد الرئيس المحترم عدلي منصور على مدار العام الانتقالي الذي أعاد فيه الوقار والهيبة والقيمة لمنصب رئيس الجمهورية ، هذا الرجل العملاق الذي تجسّدت في روحه وملامحه خلاصة المصريين بدءًا من أول مصري دبت قدماه على أرضنا الطيبة المباركة ، وصولا إلى هذا اليوم ، الرجل يكتنز في تكوينه حضارة عشرة آلاف سنة ، ويضيف إليها ملكاته الشخصية التي تتجلى في هذا الصدق الإنساني والحنوّ الأبوي الاستثنائي الذي جعله يكاد يضيء ، الرجل الفرعوني القوي الصارم ، يتحدّثُ فتشعرُ بالهَيبةِ والجلالِ ومعنى القيادةِ ، ويبتسمُ فتلمحُ تحت ملامحه براءةً طفوليّةً لم تفلحْ سنواتُهُ الثماني والستونَ في طمسِها وإلغائِها ، وما أغلى دموعَهُ التي نثرها في خطابِ الوداعِ وهو يتحدّث عن الشهداء ، تلك الدموع المصابيح التي لن تخفت أبدًا وستظلُّ مضيئةً في مستقبلِ المصريين ، كيف لا يبكي أبناءَ الوطن الشرفاء والأبرياء والشجعان الذين حصدت أرواحهم أيدي الغدر والخسّة والخيانة ؟ هؤلاء الذين راحوا ضحية الأطماع القذرة التي أطفأت النفوس الخبيثة الدنيئة وأطلقت فيها الضباع والذئاب الغادرة ، وحوّلت الوطن وأبناءه إلى فريسة سانحة يجب الفتك بها والتهامها ! لقد كرّم الله جلّ جلاله الشهداء في محكم تنزيله الشريف ووعدهم الجنة ليكونوا فيها أحياء عند ربهم يُرزقون ، كرّمهم اللهُ العظيم ووعدهم ووعده الحقّ فكيف لا نكرّمُ ذكراهم ، وكيف لا نذرف الدموع الساخنة إذ لم يكونوا شهداء في معركة شريفة يعرفون فيها عدوهم ويبارزونه في ملعب مكشوف ، بل راحوا في معركة قذرة ، وطعنتهم اليد التي كانوا يأملون أن تحميهم وتكون لهم سندا وحصنا حصينا ، ما أعمق جرحنا ، وما أمرّ حسرتنا وخيبة أملنا !!

المستشار عدلي منصور بريشة الفنان عماد عبد المقصود ، رسّام جريدة فيتو

عدلي منصور ، الرجل الذي أخذ نصيبه من اسمه بالكامل ، العدل والنصر والانتصار للوطن وللقيم النبيلة ، تركيبة أرابيسك مُحكمَة ، الرجل رجل قانون ويد من أيدي العدالة وإحقاق الحقّ ، وهو ابن هذا التراث القضائي الشريف ، ذلك الذي وصل به إلى منصب رئيس المحكمة الدستورية ، وما أدراك ما المحكمة الدستورية التي حيكت ضدها أقذر المؤامرات من أجل شلّ يدها وقطع لسانها ، المحكمة الدستورية المصرية المصنّفة عالميا كواحدة من المؤسسات الأولى في قائمة الشرف والنزاهة ، وما كان لها أن تحتل هذه المكانة في هذا الزمن القياسي إلا بعدلي منصور وزملائه الذين سبقوه والذين جاوروه أو يجاورونه الآن ، هم من أغلى كنوز هذا الوطن الكبير بأبنائه وعظمائه في كل المجالات ، جاء عدلي منصور ممتلئا بروح القانون ، القانون الذي يعني النظام ووضع كل شيء في مكانه وفي سياقه ، القانون الذي لا يعطي أحدًا مَيزة أو أفضلية على الآخرين ، ولا يعرف غير المساواة التي هي ميزان العدل ، وكأنه أخذ صفته من العدل والعدالة من قبل أن يدرس القانون ويصبح أحد الجنود الساهرين على حماية العدالة وتحقيق العدل ، هذه المسيرة العلمية والعملية وجدت صداها في تكوينه النقي المفعم بالقيم النبيلة المضيئة ، فازدحمت روحه ووجدانه بالذهب والماس وتحولت نفسه إلى شلالات من النور ، إنسان شفّاف ، مرتفع ، مستغني ، عفيف ، شريف ، يقبض بكلتا يديه على مقابض جمر النزاهة والكبرياء والإباء ، ولا يفرّط فيها مثقال ذرة ، لم يطمع في مليم من مال الدولة الذي هو مال اليتامى والمرضى والفقراء والمحتاجين ، واكتفى براتبه من المحكمة الدستورية ورفض أن يتقاضى راتبه كرئيس للبلاد ، وآثر أن يعيد رائحة النظافة إلى رحاب القصر الرئاسي ، وأوقف مهزلة الموائد المفتوحة التي حوّلت جنبات القصر إلى سلال للبقايا ، وجعلت رائحته تزكم أنوف الحشرات والحيوانات الضالة ، أوقف الرئيس / المواطن المصري المحترم عدلي منصور مهرجانات الطفاسة والأكل السحت ومسابقات الرمرمة التي جعلت أصغر العاملين من طبّاخي القصر وحارسيه يأنفون مما يرونه ويتحسّرون على هيبة القصر التي ضاعت وتمزّقت بين أنياب المفجوعين الذين يأكلون كبد الوطن ، ثم يقفون جماعة ليقيموا الصلاة ويواصلوا التمثيلية التي يوهمون الناس بها أنهم حرّاس الدين ، وأنهم أهل الزهد والطهارة والنقاء ، لم يخجلوا من الله جل جلاله وهم يتاجرون بدينه ، ولم يخجلوا وهم يتاجرون بالوطن ويسرقون ثورته ويدّعون أنهم موقدو جذوتها وأنهم أهلها وأصحابها ، يهتفون : ثوّار …أحرار …حنكمّل المشوار ، والأجدى أن يهتفوا : مفاجيع … أشرار .. ح نخلّص الممبار !! جاءوا من الظلمات ليباهوا بثمانين سنة قضوها في معاقلها ومعتقلاتها ، وإذا سألتهم : لماذا ؟ ولأجل أي هدف ؟ لا تجد جوابا ، ولا تجني إلا علامات الاستفهام الجديدة ! هل قدّموا شهيدا للوطن ؟ هل خاضوا أية معركة من معارك الكرامة ؟ هل أضافوا شيئا إلى حضارة الوطن ؟ هل .. وهل .. وهل ….، فلماذا ، وبأي حقّ ، يحتلون قصر الرئاسة ؟ ولماذا وبأي حقّ يدّعون الوطنية ؟ إنهم حرّاس التخلف والدمار والخراب ، وعشاق الفوضى والدم وقتل المصريين ، بينما الأعداء المزمنون هم الأصدقاء الأوفياء وشركاء المستقبل !!

 في عام واحد فقد المنصب هيبته وقيمته ووقاره ، وترنّح القصر وغادر مكانته ليصبح في حُكم الغُرزة ، وعندما وهبه الله رجلا اسمه عدلي منصور ، ابتسمت أزهاره ، وتكاثرت أغصان أشجاره ، وعادت إليه العصافير وأفواج اليمام ، وتعطّرت جنباته مرة أخرى بروائح الشرف والقيم والنزاهة والعفاف ، كان العام العدلي المنصور كفيلا بتطهير آثار العدوان الذي عاث بالقصر وأهدر كرامته ، كما أعاد إلينا الأمل في أن مصرنا ستظل ولادة ، فبينما كان المخلوع الثاني يجلدنا بخطبه الركيكة المملة وكأنه يتقيّأ في وجوهنا ، جاء عدلي منصور ليعطينا خلاصة اللغة وجمال العبارة وسلامة الألفاظ ، ويأخذنا معه لدقائق يقول فيها كل شيء ، ويترك أصداءه في مسامعنا وابتسامته في عيوننا وينصرف ، لم نشعر بالملل ، ولم نستهن به مطلقا ، ولم ولم ولم ، كنا في كل مرة نقول : آه لو يسمح لك الدستور لتظل رئيسًا للبلاد ولو لفترة واحدة ، كنا نحلم بذلك ، لكنه كان يكذّب كلّ أحلامنا ويعلن أنه لن يبقى يوما واحدا بعد إتمام رسالته ، ولما قال الشعب كلمته واستجاب لها المشير السيسي ، شعر الرجل بفرحة الوصول إلى الشاطئ بعد أن قاد السفينة في لجّ مظلمٍ عاصف ، وها هو يسلّم القيادة إلى رجل رأينا فيه تجسيدا لأحلامنا ، وفارسا يليق بمجابهة هذه الأيام السوداء ، وحوله شعبٌ عظيم على استعداد للتضحية بكل ما هو غال ونفيس وأغلاه الدم والروح من أجل أن تبقى مصر حرّة ، وأن تبقى مصر لكل المصريين وتعيش بكل المصريين ، يمشي عدلي منصور عادلا منصورا مرفوع الرأس مضيء الجبين مشرق الابتسامة ، وعلى كتفيه تلمع نياشين التقدير الشعبي العظيم ، وتتلألأ باقات الحب والإعزاز والاعتراف بالجميل ، يمشي عدلي منصور واثقا أنه ترك لنا النموذج والقدوة لما ينبغي أن يكون عليه المواطن المصري ، يغادر الرجل مكانه في القصر الجمهوري ليسكن في قلوبنا وعقولنا وذكرياتنا ، ويظل رمزا للوطنية وللإخلاص والمسؤولية ، يمشي .. مدركا أن كلّ ثانية قضاها في قيادة الباخرة مصر ، وكل كلمة قالها ، وكل ابتسامة ، وكل دمعة صادقة ، ستظل كالمصابيح التي تملأ ليالينا ، وستظل نصائحه الصادقة في خطاب الوداع أجراسًا تدق في فضاء سهونا وتكاسلنا وتواكلنا ، ستظل مصر كلها تفخر بك يا فخامة الرئيس ويا جلالة المواطن المصري العظيم عدلي محمود منصور ، ستظل عادلا أينما حللت ، وستظل محمودا محبوبا ، وستظل منصورًا بحب هذا الشعب والتفافه وانتباهه لمستقبله ، وسنظل جميعا منصورين برعاية الله وحفظه لهذا الوطن ، وسنبقى على الدهر نضحّي ونواصل ونصنع التاريخ ، أو كما قال عمّنا طاهر أبو فاشا :

هكذا نحنُ في القِمَمْ

نصنعُ الخُلدَ والقيَمْ

سترانا مع الصباحْ

عندما يُقبِلُ الصباحْ

قد كبُرنا على الجراحْ

وارتفعنا على الألــــمْ

حبيبنا ورئيسنا المبجّل ، فخامة المواطن الشريف عدلي منصور : أنت في قلوبنا يا أيها النبيل الجميل الجليل ، فابتسم ، ولا تحرمنا من هذا النور !

*******

ـ عن جريدة  ” فيتو ” القاهريّة ، العدد 122

الثلاثاء 10 يونيو  2014م

ـ البورتريه بريشة الفنان عماد عبد المقصود ، رسّام جريدة فيتو

One Response to عـدلـي منـصور … النبيلُ الجليلُ الذي أضاءَ حياتَنا بمصابيحِ الشرفِ والقيَمْ

  1. بشير عياد

    بشير عيّاد رد

    17 يونيو, 2014 at 1:03 م

    ألف شكر لآسيا إن ، ولأخي الأستاذ أشرف أبو اليزيد ، وأجمل أمنياتنا بدوام التألق والرقيّ .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات