لا يعني موت الضحايا في هجوم الإرهابيين على صحيفة “تشارلي إبدو” الفرنسية نهاية للعنف، فهناك من ماتوا بالأمس، وهناك من ينتظرون دورهم، وهناك أيضا الذين يغيبون بالموت البطيء.
فالحادث الغادر، الذي شنه مسلحون بأفكار متخلفة ومدججون برغبات انتقامية، يعني أن الحوار لم يعد يجدي مع هؤلاء، وأن خطأ ما يقع في المسافة الزمنية ما بين ميلادهم وارتكابهم لجريمة بهذه البشاعة.
هل هو خطأ الحكومات الأوربية التي آوت الهاربين من قصاص بلدانهم الديكتاتورية، بحجة الدفاع عن الديمقراطية المفقودة، فإذا بهؤلاء الهاربين، والأجيال اللاحقة لهم والمنتمية لفكرهم خناجر في ظهر تلك الحكومات ومواطنيها؟
هل هو خطأ العدالة الكسيحة، التي تقوي قبضتها على جهة وترخيها على أخرى، فتدفع الموتورين اليائسين من عدل الحياة، إلى قضاء الموت؟
هل هو خطأ الإعلام، الذي يقتات على تفشي الإرهاب، وعموم الكراهية، وانتشار العنف، لمسألة تجارية بحتة، فباتت الشاشات الصغيرة والكبيرة والأثير المرئي والمسموع ممرات للإرهاب يرتع بها حتى يعبر عن ذاته في حوادث مماثلة، وجرائم مشابهة؟
هل هو التعليم، الذي غرس الفرقة بين أبناء الإنسانية، بين داخلين للجنة وممنوعين عنها يصنفهم صاحب فتوى ينعم في سندس من دماء أعداء أفكاره؟
هل هي شركات السلاح، ومنظمات الجنود المرتزقة، التي تقتات المليارات من دماء ضحايا الحروب والاغتيالات؟
لقد تحالف كل هؤلاء، ووضعوا السلاح في يدي المجرم، وأمروع بإطلاق الرصاص، لكن الحقيقة أن رصاصا قادما سيأتي، ويستدير، لينال منهم، فلن ينجو أحد، وما هي إلا ميتات مؤجلات.
الهجوم الذي قام به ملثمان بالأسلحة الآلية، أودى بحياة أربعة من أشهر رسامي فرنسا، أولهم رئيس تحرير المجلة “ستيفان شاربونيه”، ومعه كابو Cabu، وتينيوس Tignous وفولينسكي. Wolinski .
رأى من تابع القاتلين على الشاشة كيف لم يتركوا حتى الشرطي المصاب، بل اتجهوا إليه ليفرغوا الرصاص في رأسه، تنفيذا لشريعة الغاب.
إذا كانت صيحة الشيخ التنويري محمد عبده “رأيت إسلامًا ولم أرَ مسلمين” صالحة للاقتباس، فقد رأيت في هذا الحادث مسلمين ولم أر إسلاما.
ولو أن الإسلام دعا للقتل لما كان دينا سماويا، فالسماء لا ترضى أن تسود شريعة الثأر بلا حق، والقتل بلا ذنب، والقصاص بلا حكم، ولا أن يصبح الجلاد قاضيا؛ وإلا لاقتص كل شخص من آخر يظن أنه ظلمه، ولتحولنا إلى عراك أبدي لا يبقي ولا يذر.
لا أتعاطف مع القتلة، حتى ولو ادعوا أنهم ينتقمون باسم الدين، أو يدافعون عن الرسول، فالدين والنبي، عليه الصلاة والسلام، لا يحتاجون إلى هؤلاء قدر حاجتهم إلى من ينشر تعاليم التسامح والسلام.
لقد حدثت الجريمة في بلد يعترف بحرية التعبير، ويسمح بانتقاد الجميع، سواء من كانوا شخصيات اعتبارية، أو حقيقية، وسواء أتوا من التاريخ أو يعيشون الحاضر، وهي ثقافة لم تنشأ عليها المجتمعات العربية، حيث أن لكل شيء سقفا، ليس فقط لدى تناول محرمات الدين والسياسة والجنس، بل حتى في مجال الابتسامة، التي يخشى من يرتكبها إثما، فيردد بعد ضحكة أفلتت منه: اللهم اجعله خيرا!
هذه الثقافة التي لا تحتمل الآخر، ولا تؤمن بحقه في الحياة، هي المجرم الحقيقي، وهي التي يجب أن تعالج، يجب أن يكون هناك كتاب حضارات يدرسه الطلاب، لا يقرأون فيه عن ثقافات الأمم الأخرى وحسب، بل يطلعون فيه على أساليب حياتهم، وبيان معتقادتهم، الأرضية والسماوية.
إذا لم نعالج ما يحدث، بالسرعة اللازمة، فلن يكون عقابنا سوى موت مؤجل، سيأتينا على غرة ممن أسأنا تثقيفهم وتهذيبهم وإدراجهم في كشوف الحياة الجميلة.
لن يكفي أن يدين الأزهر الإرهاب، بل عليه أن يراجع الممناهج التي تدرس بين جدران مؤسساته التعليمية، وأن يحذف منها ما يحض على الشر.
إن النار التي يشعلها الغرب في مناطق بعيدة يطاله منها شرر كثير. لذا لن يكفي أن تمنع الدول الغربية نعيمها عن هؤلاء المتطرفين، بل عليها أن تعيد النظر في سياساتها تجاه قضايا العدل الكسيح والحرية المنقوصة والديمقراطية المتحيزة، فهي بمثابة حطب يأخذه المحرضون تكئة لدفع الجهلاء إلى مثل تلك الجرائم.
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.