موسم الجوائز الأدبية: النيل يتحرك نحو الجنوب

08:42 صباحًا الثلاثاء 4 ديسمبر 2012
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

سكولاستيك موكاسونج

علمتنا المناهج الدراسية القديمة، من خلال مقولة هيرودوت، ان مصر هبة النيل، اننا نحن فى مصر تقريبا اصحاب هذا النيل وحدنا.. قد يمر فى بلاد أخرى، وينبع من أواسط أفريقيا، وشرقها لكنه فى المقام الاول من ممتلكاتنا، ولهذا السبب فإن المصريين بنوا السد العالى، الذى اختلفو عليه فيما بعد، ولا توجد جملة واحدة فى الكتب الدراسية ان دولا اخرى هى ايضا هبة النيل، ومنها اثيوبيا، والسودان، ورواندا، وبلادا اخرى.

وعندما بدأت بعض البلدان بعمل مشاريعها على ضفاف النيل، وبدأت أزمات المياه تلوح فى الافق.. كان لابد من الانتباه الى ما تعلمناه، وحقيقة ما يحدث من حولنا، فحسب معلوماتى فإن ورود اسم “النيل” على غلاف احدى الروايات العالمية يعنى انها تدور حول مصر، مثل رواية “الموت على النيل” لاجاثا كيستى و”الحياة على النيل” لجانيس اليوت،  وكلاهما من بريطانيا، ثم رواية “سيدة النيل” للكاتبة الكندية بولين جونج، وعشرات من الروايات الاخرى التى رأت ان النيل هبة مصرية فى المقام الاول.

بهذه العقلية، استقبلت عنوان رواية “سيدتنا النيل” للكاتبة سكولاستيك موكاسونجا التى اخترقت حاجز الجوائز الادبية الفرنسية فى شهر نوفمبر الماضى، فحصلت على جائزيتن بالغتى الاهمية فى فترتين متقاربتين، الاولى هى احمد وكوروما، ثم جائزة رينوود، التى تأتى الرابعة فى الترتيب حسب اهمية الجوائز الادبية، بعد كل من جونكور، وفيمينا، ومدسيس.

“نوتردام النيل”

المفاجأة فى الأمر ان الكاتبة من رواندا، مولودة عام 1956، وهذه هى روايتها الاولى، والتى لم تكن على قائمة أى ترشيحات للحصول على جوائز كما أن غرابة العنوان يأتى كالتالى “Notre-dame du nil” ففيه اقتباس لرواية فيكتور هيجو التى نعرفها باسم “أحدب نوتردام” والترجمة الصحيحة هى “نوتر دام باريس” وهو اسم كاتدرائية تقع على نهر السين، وفى مركز باريس، ولا يمكن ان نترجم الرواية بهذا الاسم، اما العنوان الانسب للرواية التى فازت بالجائزة فهو “نوتردام النيل” باعتبار ان هذه الكاتدرائية تكتسب اهمية نهر النيل عند الكاتبة.

وبمتابعة الراية سوف نكتشف انها اقرب الى السيرة الذاتية للمؤلفة، وانها لا تدور احداثها بالمرة فى مصر، وعلى ضفاف نهرها، مثل عشرات الروايات الاخرى السابق الاشارة الى بعضها.

لقد تغيرت المفاهيم، والمصطلحات، وهذه رواية يدل عنوانها ان النيل هو ايضا رواندى، مثلما هو يحمل جنسيات اخرى لقوميات عديدة، يمر من خلالها، جنوبا وشرقا، وتبعا لاهمية الحدث فسوف نتوقف عند الكاتبة، والجائزيتن اللتين حصلت عليهما، ثم الرواية نفسها، فسرعان ما دخلت الرواية لكاتبتها التى كانت مجهولة قبل شهرين تقريبا الى قائمة اعلى المبيعات.

الكاتبة التى تحمل اسما صعب النطق عاشت تحت قسوة الصراعات العرقية، وعانت فى طفولتها كثيرا من الخزى والعار بسبب الصراعات السياسية فى بلادها، وارتبطت حياتها بمصير وطنها وتاريخه المعاصر، فبسبب الفقراء والاستعمار انتقلت اسرتها بين اكثر من مدينة، ومدرسة، واضطرت الى النفى فى بروندى عام 1973 وفى عام 1993، رحلت الى فرنسا.

كانت عيناها دائما متجهة الى وطنها، ففى عام 1994، حصد احداث توتسى مليون قتيلا فى عشرة ايام، وعرفت ان سبعة وعشرين فروا من اسرتها ماتوا قتلى، وعلى رأسهم مهاستيفانى.

لم تبدأ الكاتبة حياتها فى عالم النشر الا عندما بلغت سن الخمسين عام 2006، حيث نشرت كتابها الاول “انينزى اوه المتظاهرون” وهو بمثابة سيرة ذاتية، تحمس لها الناشر المعروف جاليمار فى سلسلة “قارات سوداء” وبدت عبقرية النص، منل خلال ارتباط المؤلفة بأرض الذكريات، وقد كتب ناقد من الكونجو ان الكتاب يعير عن احتجاج حقيقى ضد العنف، وانه بمثابة محاولة لاحياء الموتى.. كما ان الكاتبة كشفت ان المنفى الداخلى لابناء وطنها اكثر الما من المنفى الذى اجبرت عليه بالرحيل الى فرنسا.

وبعد عامين نشرت كتابا يحمل عنوان الحافيات حول أمها، وقدمته الى كل الامهات الشجاعات اللاتى نلن المصير نفسه، ثم بعد عامين آخرين قدمت تابها الثالث “البئر المجنونة” وهو ديوان شعر بالغ الرقة، تتفتح كل صفحة فيه عن الوان الحياة من حولنا، الزهور، والاشجار، والطيور وقد امتلأ الكتاب الرقيق بكافة تناقضات العصر، فالكاتبة شاهدة على العذابات، والمعاناة وتقوم بدور الشاهدة على تاريخ رواندا المعاصر.

وفى مارس من العام الماضى 2012، نشرت الكاتبة روايتها “سيدنا النيل” لدى نفس الناشر الذى قدم كتبها السابقة، والاسم هنا لمدرسة تقع عند اطراف النيل من جهة الكونجو قريبا من ينابيع النهر العظيم، التى تقع فى رواندا والرواية تدور حول الايام العشر التى تمت فيها الابادة المعروفة باسم “توتسى” وقد عادت الكاتبة الى بلادها عام 2004، وعملت على تأسيس مؤسسات خيرية.

هذا عن الكاتبة، اما الجائزتان اللتان حصلت عليهما، فالاولى تمنح فى سويسرا، وهى تحمل اسم الكاتب احمد كوروما “1927 – 2003” وتمنح فى المقام الاول للادب الافريقى الزنجى، وهى تمنح من قبل اتحاد الصحافة السويسرية وقد منحت لأول مرة عام 2004، كل عام، ومن الذين حصلوا عليها تانيلا بونى عن رواية “صباح التغطية النارية” 2005، والى كوفى كواهوله عن روايته “وجه طفولى” عام 2006، ثم الى سامى تشاك عن روايته “فردوس الجرو” عام 2007، والى نمرود عن رواية “حفل الامراء” 2008، والى كوسى افوى عن رواية “العائد الوحيد” 2009، والى فلورن كواو – زدتى عن روايته البوليسية “لو كانت حظيرة القطيع قذرة فليس الخنزير هو السبب”، 2010، والى ايمانويل دونجالا عن روايته “صورة جماعية عند اطراف النهر”.

اما جائزة رينودو فعمرها الآن سبعة وثمانين عاما، تم انشائها لتنافس جائزة جونكور فى اختياراتها، ولتنشيط الابداع الروائى، ورغم اهمية الجائزة، فإنها لم تصل ابدا الى مكانة جائزة جونكور، وقد منحت احيانا لادباء مغمورين، وفى احيان اخرى لادباء مرموقين، ويكفى انها منحت الى الكاتب المعروف فردينان سيلين عام 1932 عن روايته “رحلة الى اطراف الليل”، كما ان الشاعر لوى اراجون، حصل عليها عام 1936 عن روايته “الاحياء الجميلة”، واعطت لمن حصلوا عليها دوما بريقا، فإذا كانوا قد نالوها فى بداياتهم، فإنهم صاروا فيمابعد من ابرز كتاب الرواية، ومنهم ميشيل بوتور 1957، ولوكليزيو 1962، وجورج بيريك 1965، وفرانسوا ويرجان 1991، والكاتبة الجزائرية الاصل نينا براوى عام 2005 وفردريك بيجبيديه 2009.

وتعتبر الكاتبة سكولاستيك هى خامس روائى افريقى يحصل على جائزة رينودو، بعد يامبو اولوجم “مالى” عن روايته “واجب العنف” عام 1968، واحمد كوروما “ساحل العاج” عن روايته “الرب ليس مجبراً” عام 2000، والآن مبانكوا “الكونجو الفرنسية” عن رواية “مذكرات خنزيرِ” عام 2006، ثم تيرنو منعمبوا غينيا، عن “ملك الكاهل” عام 2008.

تنتمى الكاتبة إلى قومية التوتسى، التى تعرضت لحرب ابادة، مات على اثرها آلاف من أبناء عشيرتها، عام 1994، وقد حصدت الرواية على ستة أصوات، من الاعضاء العشرية للجنة التحكيم، فى اكاديمية رينودو، وقد نافستها ادباء لهم مكانتهم الادبية، ومنهم فاليسيس الكسياكيس وفيليب جان.

لاجئو التوتسي

وحسبما نفهم، فإن الرواية تدور حول هذه المذابح الوحشيسة التى عاشتها قبائل التوتسى فقد أشارت الكاتبة أنها الوحيدة من اسرتها التى فقدت ثلاثين شخصا فى المذبحة العرقية التى حصلت على قدر لا بأس به من التعليم، وهى بالطبع الوحيدة التى سافرت إلى باريس، بينما الكثير من التوتسى قد تم نفيهم، عقب نجاتهم إلى الكونجو.

هى رواية حول المكان، والآلاف التى عاشتها فيه، فهى ترى أن بلادها تتمتع بجمال خاص، من خلال تلالها الكثيرة، التى يصل عددها إلى ألف تل، ولم يكتشف أبناء العشيرة هذا السحر فى التلال الا بعد حدوث مذابح الابادة، حيث ساعد هذا أن يتكاتف اكثر ابناء العشيرة الواحدة.

تدور الاحداث فى بنسيون تقيم فيه المغتربات القادمات من رواندا، ابان سبعينيات القرن الماضى، هؤلاء البنات يمثلن النخبة من مجتمع افريقى، جاءتهن الفرصة للاقامة فى باريس، يتولى تعليمهن مدرسين فرنسيين، وراهبات من بلجيكا، هن بنات كبار التجار، والنبلاء ورجال أعمال، وعسكريين، ورجال سياسة من الهوتو، وعشرة فقط فى المائة من المقيمات من التوتسى، منهن فرونيكا وفرجينيا، وهى دائما فى مقدمة المتفوقات، ومع مررو الايام، فإن التلميذات المراهقات يتقاربن، ويتشاركن فى اقتسام الهدايا التى ترسلها الامهات من قلب افريقيا، وجميعهن يحلمن بالبقاء فى اوروبا، رغم الحنين إلى الوطن، وهن يعلقن فوق الجدران صورا للمطربات والمطربين البيض، مثل نانا موسكورى، وجونى هاليداى، ويحاولن تبييض وجوههن، بدهانها ليل نهار بالكريم، ويدرسن اللغة الانجليزية والجغرافيا، ويبكين معا عندما تموت زميلتهن فريدة.

وتبدأ مشاعر الكراهية تتولد فى رواندا، فهؤلاء الهوتو يريدون طرد التوتسى من البلاد حيث يطلقون عليهم “أحفاد الفراعنة السود”، وسرعان ما تنتقل هذه المشاعر العرقية الى البنسيون، وتدفع الفتاتان فرونيكا وفرجينيا الثمن.

ومأساة الصراع الذى يدور فى البنسيوم، انه يتم بين بنات متعلمات، مثقفات، لدى كل منهن طموحها الخاص، وتتحدث الكاتبة ان التوتسى نزحوا من مصر والسودان واثيوبيا وتقود هذه المشاعر المليئة بالكراهية الفتاة جلوريوزا، ابنة أحد الوزراء، حيث تصب كل مشاعرها تجاه التوتسى، وتتصاعد الاحداث، حتى تدور المذبحة الكبرى فى عام 1994

وتقول الكاتبة ان الموت كان يمكن ان يلحق بها لو كانت فى تلك الفترة فى رواندا، انها تشير ان الاستعمار البلجيكى هو الذى أجج مشاعر الكراهية بين فصائل الشعب فى رواندا، وذلك على طريق “فرق تسد” وقد اشترك الانجليز فى مساعدة البلجيكية لتعضيد المذبحة.

كما تروى الكاتبة ان ابنة الوزير تشعر بالغيرة من الأنف الملىء بالكبرياء لبنات التوتسى، انه نفس الكبرياء الموجود فى ملامح تمثال يطل على نهر النيل، يمثل ان السيدة مريم العضراء كانت سوداء البشرة، وليست بيضاء مثلما يرسمها الاوروبيون.

وفى الرواية هناك رجل فرنسى يدعى دو فونتانى، يحاول العثور على الذاكرة الثقافية الضائعة لقبائل التوتسى، وهو يضفى على رواندا الكثير من القصص التخيلية، فمنزله مزين بقرون الحيوان، وخاصة الافيال، والخراتيت، وهو الذى يحاول التأكيد ان التوتسى جاءوا من جنوب مصر، كما يشبه الفتاة بالملكة الاسطورة ايزيس التى يضع لها تمثالا فى حديقة منزله الذى يقع على مسافة قريبة من البنسيون.

ورغم أننا أمام اسم وهمى للبنسيون، فإن الاحداث كلها حقيقية، وتذكر المؤلفة أسماء السفراء، والرؤساء، وتقول ان الرئيس موبوتو كان خاطبا لاحدى بنات المنزل.

الجدير بالذكر أن الكاتبة سكولا ستيك موكا سونجا، ليست الوحيدة التى كتبت عن هذه المذابح، حيث عرف من يسمى بأدباء الشتات، ومنهم فنوست كايماه الذى عمل طويلا فى سفارات افريقية، وبنجامين شين الذى ألف كتابا بعنوان “الفخ العرقى” وله رواية باسم “نيران اسفل ثوب الكاهن” المأخوذ من قصة حقيقية ، وأسماء أخرى عديدة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات