لو وين فو ويارا المصري | الذَّوَّاقة والمتذوقة

10:21 مساءً السبت 30 يوليو 2016
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
المترجمة يارا المصري مع غلاف رواية لو وين فو التي ترجمتها: الذواقة

المترجمة يارا المصري مع غلاف رواية لو وين فو التي ترجمتها: الذواقة

شاع فن الرواية القصيرة novella  في الصين المعاصَرة شيوعًا كبيرا، وقد بدا هذا الجنس الأدبي ـ في بدء نشأته ـ محيرا. فالرواية بشكلها الكلاسيكي، والقصة القصيرة بهيكلها المعروف هما ابنتا التقليد الأدبي الغربي، لذا كان استقبال هذا الشكل الذي يتوسط – حجما – الطريق بين الفنين السرديين مشوبا بالحذر وعدم الثقة، خاصة وأن انطلاقة الأدب الصيني إلى ما وراء الحدود، كان يتطلب، حسب الرؤى النقدية، أن يتماثل الانتاج الأدبي مع ذلك الموجود في “الخارج” وخاصة في الغرب. كان الغرب، بالنسبة للصينيين، وكما هي الحال عندنا لعقود، يصوغ القوالب والقواعد الأدبية للآخرين، ليقلده هؤلاء. لذلك خشي الصينيون من استخدام مصطلح “الرواية القصيرة” حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر حين استخدم لو شيون  Lu Xun علنا لأول مرة هذا المصطلح في تاريخ الأدب الصيني. ثم كان على الحقل الأدبي أن ينتظر قرنا آخر ليأتي اعتراف رسمي بهذا الفن حين منحت الجائزة الوطنية الأولى للروايات القصيرة إلى خمسة عشر عنوانا نشرت في الفترة بين عامي 1977 و 1980. وكانت هذه أول جائزة رسمية تضع هذا الفن في فئة الرواية.

وإذا كان علينا أن نضع فارقا بين الفنون الأدبية الثلاثة؛ القصة القصيرة، الرواية القصيرة، والرواية، فقد اعتمد التقسيم الغربي، كذلك، بأن الوسطى تحتوي بين ٢٠ و ١٠٠ الف كلمة، وإن كان ذلك التقسيم القسري ليس بقاعدة، فبين القصص القصيرة ما يصل الى ٣٠ الف كلمة، وبين الروايات القصيرة ما تصل كلماتها فوق المئة ألف كلمة.

وقد ساعدت الدوريات الأدبية على نشر الروايات القصيرة، ومنها الرواية التي اختارتها المترجمة النابهة يارا المصري لتنقلها إلى العربية، وهو اختيار مثالي، فلم يكن حجم الرواية ضد موضوعها أو مخالفا لهدفها، وإنما، على العكس، ساعد في تكثيف الأحداث، الظاهر منها والباطن، المكشوف في النص، والمفهوم من تورياته، خاصة لدى كاتب يتمتع بحس ساخر مثل لو وين فو.

ولعلي أدفع القاريء لرواية لو وين فو، التي ترجمتها يارا المصري باسم “الذواقة”، أن يتخيل شخصيات هذه الرواية البديعة تعيش في مجتمعنا المصري، فلا تخيفه الأسماء الصينية من أن يعثر على مقابل لها، خاصة ونحن نتحدث عن مجتمع في أتون التغيير، وفيهم غني الحرب، ومنهم أرباب الأحزاب، وبهم المنفيون من المجتمع طوعا أو قسرا، فالمجتمع الصيني عاش تحولات راديكالية، صحيح أن رصدها في الرواية كان بالنظر إلى الموائد، ولكن الموائد أكثر انباءً وكشفًا من كتب التاريخ المزيّٓفة والمزيِّفة.

في الإصدار الأول من مجلة Harvest  (الحصاد)، يناير 1983، طبعت رواية لو وين فو Lu Wenfu  المترجمة باسم “الذواقة” (The Gourmet)  لتقدم سيرتين معًا، رغم حجمها الدقيق؛ سيرة الكاتب، وسيرة الوطن. وكي أعطي إشارات للنص ـ محتواه ـ فهو يعقد مقابلة بين شخصيتين؛ تشو زي تشي، وهو الثري الذي يُقدَّم عبر طقوس أرستقراطية تقسم النهار بين التهام الطعام ومحاولة هضمه والتلذذ بأسلوب الحياة الشره، قبل أن يعمل ذواقة في أحد المطاعم، في مقابل الثوري المكافح من أجل مبادء ليس من بينها الاستئثار بالطعام، بل على العكس ، يحارب قاو شياو تينج هذا البذخ اللا ثوري.

لقد قرأت أعمالا أدبية محورها الطعام، مثل وصفات إيزابيل الليندي في أفروديت، وعالم المطبخ اللبناني الشامي الفلسطيني كما قدمته بسمة الخطيب في روايتها برتقال مر، وأعتقد جازما أن المطبخ هو  مرآة العالم وصنو التاريخ. وكعاشق للطبخ علي الاعتراف بأن الرواية أسرتني، فهي تفتح بابا واسعا للمطبخ الصيني، أساس وصفاته، وطقوس تناول طعامه، لدى شرائح كثيرة، فضلا عن أدوات المطعم التي برع المؤلف في سردها. وقد حسدته، لأن لو وين فو حول سنوات العقاب التي قضاها منفيا إلى دروس في تأمل عالم المطعم الصغير الكبير، فإذا بقائمة الطعام هي مانفيستو الثورة، وهي فصول الرواية، في آن واحد. وقد برعت المترجمة المتذوقة للأدب الصيني بشغف أن تنقلنا بسلالسة لعالم الذواقة، فكأننا نقرأ له منذ بدأ يكتب.

في فاتحة للفصل (8) تحت عنوان: الطرق تتلاقى، يكتب المؤلف:

“لم أكن أتوقع على الإطلاق، أن يسلك شخص نهم وآخر معارض له المسار ذاته! ففي أثناء الثورة الثقافية سلكتُ مسلك الرأسمالية، وتحولتشو تزي تشي إلى مصاص دماء، وكلانا علق لافتة، ووقفنا أمام بوابة مجلس الحي لطلب العفو والسماح.”

مثل هذه العبارات التقديمية في الرواية (140 صفحة)  يتم شرحها وكأن راوية يقدمك لمسرح الحدث قبل أن ترفع الستار، وهكذا نستمع إلى أصوات عديدة من داخل المشهد وخارجه تجعلك تتمثل نفسك بجانب شخصيات الرواية جميعهم. وأعيد فأذكركم بأن نتمثل دائما عادات شعبية محلية ونحن نطالع ما تصفه الرواية / المترجمة، مثل استهجان الشراهة الذي تبثه الأم في الأطفال، وهو مقابل موضوعي لنبذ “تفجع” الأطفال في الشرق العربي.

ومن السخرية أن تشعر كيف أن بطل الرواية الثري لا يقدم شيئا للتاريخ، فهو رغم نهمه وشراهته وشغله الصفحات بعادات أكله ليس له من فائدة:

“زئير الرياح والنهر البارد، وعاد المحارب الشجاع بعد رحيله. عدت إلى سوجو مرة أخرى، وبعد انعطافات عددة في الأحداث، عدت للسكن أمام منزله. وتغيرت نظرة تشو زي تشي نحوي، فصار يناديني بالرفيق، وأنا أدعوه بالمدير، وكان دائما يقدم لي سجائر من نوع (سان باو تاي)، لكنني حينها أخرج سجائري من نوع (شوانغ فو) وأرد سجائره. لا تتصرف معي هكذا، سجائرك الغالية مغمورة بدماء الشعب وعرقه، وتنبعث منها رائحة زنخة عندما تنفث دخانها. كان يعتري تشو زي تشي بعض الخوف قبل التحرير، وكان يخشى أن يسجنوه، كما أن طعام السجن ليس شهيا! ولكن بعد مرور بعض الوقت، صار تشو زي تشي هادئا مطمئنًا، وذلك لأنه مع حظر الدعارة وتعاطي الأفيون، ومقاومة البلطجية المحليين، وقمع أعداء الثورة، إلى حركة المكافحات الثلاثة (الاختلاس والتبذير والبيروقراطية)، وحملة المفاسد الخمسة (الرشوة، التهر من الضرائب، اختلاس أموال الدولة، غش العقود الرسمية، وسرقة المعلومات الاقتصادية)، لم يمسه (تشو زي تشي) شيء…”

الرواية قد تكون لها بداية، ولكن لا نهاية لها، لأننا نعيش وقائع ما قبل الثورة، وأيام الثورة، وما بعدها، في كل شيء، وكل يوم. ولهذا أقدم إعجابي الشديد لاختيار هذه الرواية في السلسلة التي وهبتها الدكتور سهير المصادفة حياة جديدة حين استطاعت أن تكون “الجوائز” مرآة لثقافات العالم الرفيعة والمتنوعة، وكان الانفتاح مؤخرا على أعمال إبداعية من الشرق الأقصى نموذجا عمليا للتحرر من أسر النموذج الغربي الذي لازمنا طويلا، لذلك سعدت بأن أقرأ مؤخرا ثلاثة عناوين لأعمال من الصين وكوريا، أبطالها صاحب الذواقة، ومويان الفائز بجائزة نوبل، والشاعر الكوري الكبير كو أون، الذي قدمتُه عبر الإنجليزية للقارء العربي للمرة الأولى قبل 3 سنوات، ليعود في سلسلة الجوائز عن الكورية مباشرة في “قصائد الهيمالايا” بترجمة الدكتور محمود عبدد الغفار.

لم يكن غريبا أن تفوز المترجمة بجائزة أخبار الأدب عن نقل رواية الذواقة إلى العربية، فقد ساعدت يارا المصري على نقل القاريء إلى عالم مدهش بلغة سلسة ومعرفة عميقة في آن.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات