أكدت غير ذات مرة إصرارها على التجدد و التدفق و النهوض من جديد .. منذ أحرقها الرومان و فرشوا أرضها ملحا بغية القضاء عليها .. لكنها عادت للنهوض تحرث و تزرع و تسافر و تطل برأسها عالية على المتوسط لتؤكد أن إرادة الحياة لديها أقوى من بغي الغزاة و الأعداء .. إنها قرطاج سيدة الثلاثمائة مدينة في العالم القديم .. و الساحرة آسرة القلوب في زمن العولمة ..
وكما رعت قرطاج تجارة العالم القديم .. إحتضنت فنون العالم اليوم عقب إستقلال تونس بفترة وجيزة مؤسسة لأحد أهم و أعرق المهرجانات العربية و الدولية الذي أسهم إسهاما فاعلا في بعث الحركة الفنية خاصة في العالم العربي و الإفريقي في الفترة التي صاحبت و تلت إستقلال تلك البلدان ، و للتاريخ صاحب تأسيس تونس لمهرجان قرطاج الدولي .. تأسيس مهرجان الحمامات الدولي و الذي كان لها بعدا نخبويا مميزا و رفيعا ..
الدورة الثالثة و الخمسون :
منذ عام 2011 شهدت تونس والمنطقة متغيرات سياسية و حراكا إجتماعيا كان له تأثيره على كافة مناحي الحياة .. لكن في خضم تلك الأحداث حرصت الإدارة التونسية على إستمرارية التأكيد على إستقرار الدولة بكل مؤسساتها .. و تمثل ذلك في إنتظام مرافقها الرئيسة و منها ما يتعلق بالجانب الثقافي و الفني الذي كان رهانا رابحا للدولة التونسية منذ الإستقلال حيث تميزت تونس بأكبر عدد من المهرجانات الثقافية و الفنية على مدار العام بين أشقائها العرب و الأفارقة .. ، و قدنجحت في الحفاظ على بقاء إسم قرطاج العريق مضيئا رغم كل الصعوبات ليصبح سراج الأمل الوهاج بعد تواري أسماء مهرجانات أخرى عريقة مثل بعلبك و دمشق و بغداد ..فرج الله كروبهم جميعا ..
وعلى الرغم من تغير إدارة مهرجان قرطاج هذا العام 2017 في توقيت بالغ الحرج بعد تقديم مديرته إستقالاتها .. إلا أن الإدارة الجديدة إستطاعت تدارك الموقف خلال وقت قياسي إذ أن أعداد المهرجان و الإتفاق على العروض الدولية يستغرق ما يقرب من عام كامل ، الأمر الذي أتاح الفرصة لعدد أكبر من العروض المحلية كان من حسن طالعها أن حدث مثل هذا الظرف الطارئ ..
بعد إفتتاح تونسي خالص بعرض موسيقي غنائي يمكن وصفه ب ” نوستالجيا تونسية” ، قدمت الفنانة السورية ” فايا يونان” عرضا بديعا كان فرصة لتعبير الجمهور عن محبته للشقيقة الحبيبة سورية و التضامن معها في حربها على الإرهاب .. حيث إرتفعت عقيرة الجمهور بالهتاف للجيش العربي السوري في كفاحه ضد الإرهاب .. و لا يوجد أصدق من مشاعر الشعوب عندما تؤكد على مؤازرتها لإرادة أشقائها في الحياة .. و هو ما أكدت عليه الفنانة الكبيرة المتميزة ليلى طوبال في عرضها الشجن ” حورية” ..
حورية :
البون شاسع بين ” حورية ” الفتاة التونسية أبنة السيدة المكافحة و المناضل اليساري التقدمي .. الطموحة الشامخة المعتدة بنفسها .. ، و حوريات الدواعش المجاهدات نكاحا اللاتي يحلم بهن شباب مضللون .. وصفهم من ضللوهم باللحم النتن بعد أن أدوا مهمتهم في نشر الخراب و الدمار في البلاد الأمنة بإسم الدين و نصرة الإله .. ، و من خلال مقدمة متوجسة تقدم لنا حورية و ظروف ميلادها و واقعها المعيش و الملابسات التي أحاطت بها و بعائلتها في مشهد أقرب إلى النذير الذي هيئ المتلقي للمشهد التالي الذي ينقلنا إلى عالم الأحزمة الناسفة و الدواعش الكابوسي .. ، ننتقل مع ليلى طوبال إلى ما يمكن أن نطلق عليه المضارع الكابوسي المستمر مسرحيا و عمليا من خلال مذيعة متكلفة تقدم برنامجا إذاعيا على الرغم من تكلفه و تكلفه من تقدمه .. إلا أننا نبدأ معا رحلة للوعي و مواجهة النفس و تعريتها إلى حد نزع ورقة التوت بمنتهى القسوة و ذروة الكوميديا السوداء .. إلا أن ذلك العمل يتمسك بالأمل و يراهن على مقاومة الشعوب و تمسكها بإرادة الحياة ..
النص المحكم الذي كتبته ليلى طوبال .. لم يترك شبرا مر به تتار العصر إلا و ذكرنا به من سوريا و اليمن و العراق والعريش و الصومال و كابل الخ وصولا إلى تونس .. كان أقرب للمونودراما بمنهج بريشتي منه إلى الديودراما .. رغم مشاركة عازف البيانو المتميز مهدي الطرابلسي ل ليلى طوبال بالحركة في بعض المشاهد ..
طغيان النص الجيد على الحركة إلى حد بعيد لم يقلل من ثراء المشهدية حيث كان ل مسرح الهواء الطلق الذي أقيم به العرض ” الكتدرائية .. المعلقة” أثره البالغ على السنوغرافيا حيث كانت كل تفاصيل العرض و الجو العام محلقة فوق العاصمة التونسية مطلا على الأفق البحري السرمدي يرنو لقمم الجبال البعيدة .. مما أعطى للعمل بعدا متماهيا إلى حد بعيد مع أجواء الواقعية السحرية التي كرست لها خطة إضاءة ذكية و واعية بجماليات المسرح إستحضرت روح المسرح الإغريقي في نصوص سوفوكليس ..
_ و من حسن الطالع المسرحي أن شاهد كاتب السطور هذا العرض المسرحي مرتين بحضور أسرة الشهيد شكري بلعيد .. أولاهما كانت في التياترو و هو مسرح علبة إيطالية تقليدي ، و الثانية كانت في مسرح الهواء الطلق بالكتدرائية هناك عند سقف قرطاج التي تشرف على العالم القديم ..
كان لحضور تلك الأسرة تأثيره الكبير علي و ربما على الحضور و بطلة العمل أيضا .. رمية بغير رام تشعرك بعمق المأساة و تجعلك تعايشها ، كم من مرة راودتني الرغبة في إحتضان أبنتي الشهيد و الإعتذار لهما و لأرملته عن خيانة مجتمعاتنا و وضاعتها عندما سمحنا لطيور الظلام بإختطاف أمانهم و فرحتهم ..
كان شرف الحضور في معيتهم فرصة لا تتكرر إذ أضافت للعمل شجون على شجون و صدقا على صدق و نحن جميعا في محراب حزنهم النبيل الذي لا يعرفه سوى من يقدمون أنفسهم قربانا للوطن ..
هنا مهرجان قرطاج الذي لن تراه إلا بعيني القلب و الروح
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.