كانت طفلةً ملائِكِيَّةً، جميلةَ الْـمَلامِحِ، هادِئَةَ الطِّبَاعِ، شَدِيدَةَ الذَّكاءِ والتَّرْكيزِ والصَّمْتِ مَعًا.
تَجمَّعَ الأطفالُ فى السَّاحَةِ الكُبْرَى، أمَامِ بيْتِهَا الكَبِيرِ؛ ابْتِهَاجًا بلَيْلَةِ الْمَوْلِدِ السَّنَوِيَّة، التِي تُقَامُ للشَّيخِ -صَاحِبِ الْمَقَامِ- الْمُقابِلِ للبَيْتِ، وقد استَطاعَت الْجَدَّةُ أَنْ ترْسُمَ لهَا صُورةً شدِيدَةَ الْوُضُوحِ عَنْ مَلامِحِ الشَّيخِ، وَكَرَاماتِه الْكَثِيرة؛ رغْمَ رحِيلهِ مُنْذُ سنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ، رُبَّمَا تَفُوقُ عُمْرَ الْجَدَّةِ نَفْسِهَا؛ ولكنَّه الْحَكْيُ الشَّعْبِيّ الْمُتَوارَثُ عَنِ الْجَدَّاتِ.
وكَانَ من عادَاتِهِمْ تقْدِيمُ الطّعَامِ للغُرَبَاءِ فى ليْلَةِ الْمَوْلِدِ الْكَبِيرَةِ، وكانَ منْ نَصِيبِ الأطْفَالِ اللَّهْوُ والْمَرَحُ واللَّعِبُ طَوَالَ النَّهَارِ فى شُرْفَةِ الْبَيْتِ الْكَبِيرِ.
كَانَتْ شُرْفَةً كَبِيرَةً تحتَلُّ وَاجِهَةَ البَيْتِ، يَصْعَدُونَ إليْهَا بسُلَّمٍ أنِيقٍ يَتَوسَّطُهَا، وفي مُقَابِله –تَمَامًا- مدْخلُ البيْتِ ببَابِه الضَّخْمِ الْمُحَلَّى بشُرَّاعَاتٍ زُجَاجِيَّةٍ مُنَمَّقَةٍ، تَتَوَارَى خَلْفَ أَعْمِدَةٍ مِنَ الحديدِ الْمُزَخْرَفِ بأشْكالٍ هنْدَسِيَّةٍ دَقِيقَةٍ، وفي الْجَانِبَيْنِ مسَاحَاتٌ متَنَاسِقَةٌ مِنَ الْفَرَاغِ الْمَحْسُوبِ، ثُمّ بُرُوزٌ فى الْمَبَانِي، يتْبَعُه شبَابِيكُ الْحُجراتِ الْمُطِلَّةِ علَى تِلْكَ الشُّرْفَةِ الْكَبِيرةِ.
أمَّا سُورُ الشُّرْفَةِ (الشَّكْمَة) فكان مُحَلًّى بشُرَّاعَاتٍ دَاخليَّةٍ، جَمِيلَةِ التّكْوِينِ والتقْسِيمِ، وبِهَا فَراغاتٌ مَرْسُومَةٌ بدِقَّةٍ هنْدَسِيَّةٍ بَالِغَةٍ؛ تُمَكِّنُ الطِّفْلَ الصَّغِيرَ، أو الْمَرْأَةَ الجَالِسَةَ دَاخِلَ الشُّرْفَةِ الكَبِيرةِ، مِنَ النَّظَرِ إلَى سَاحَةِ الْمَوْلِدِ دُونَ أنْ يَرَاهَا مَنْ بِالْخَارِجِ، يَعْلُو هذِه الشُرَّاعَاتِ البَدِيعَةَ دَرَبزينُ الشُّرْفةِ؛ وهو موضِع الاسْتِنَادِ للشَّخْصِ الوَاقِفِ.
بيْنَمَا كان الأطفالُ يلعبُونَ، ويمْرَحُونَ، ويَنْزِلُونَ، ويَصْعَدُونَ على سُلَّمِ شُرْفَتِها الأَنِيقَةِ، كانت هى مُلازِمَةً الوُقُوف؛ للنّظَرِ مِنْ شُرَّاعَاتِ الشُّرْفَةِ الأمَامِيّةِ؛ لأنَّها لا تَتَمَكَّنُ من الرؤيَةِ وَاقفةً؛ لقِصَرِهَا وصِغَرِ حجْمِهَا، فأصبحَتْ تلكَ الشُّرْفَةُ الصَّغِيرَةُ نَافِذَتَها للرُّؤْيَةِ على ساحَةِ الذِّكْرِ التِى يَصْدُرُ منها أصْواتُ الإنشَادِ فى حُبِّ المصطفَى الحَبِيب وآلِ بيتِه الكرَامِ، ثمَّ أوْلِيَاءُ اللهِ الصَّالحينَ عليْهِم جميعًا رضْوَانٌ منَ اللِه تَعَالَى.
\\\\____\\\____\\\\____
فتحَتْ لها تلك الشُّرْفَةُ الصغِيرَةُ بوابةً سِحْريَّة لموسيقَى الذّكْرِ والإنشَادِ، وعلى مَدَارِ اليَوْمِ كانت تطرَبُ لسَمَاعِ الذِّكْـرِ بشَكْلٍ عجِيبٍ؛ كأنَّها تخْتَزِنُ نغمَاتِ الأصوَاتِ الْمُحِبّةَ الْمُرَدَّدَةَ فِى مَدِيحِ الرّسُولِ.
وتمرُّ السَّنَواتُ، وتكبُرُ طِفْلَةُ القريةِ الصّغيرةِ، ويكبُرُ معَهَا احْسَاسُهَا بمُوسِيقَى الذِّكْـرِ والإنْشَادِ، وكأنَّه مِدَادٌ رُوحِيٌّ يَصِلُ رُوحَهَا بمَلَكُوتِ الذِّكْـرِ والتسْبِيحِ؛ مَا بيْنَ النفْسِ والسمَواتِ.
قَرَأتِ الكثيرَ عنْ فنِّ الْمُوسِيقَى، وتطَوُّرِهِ، وأعْلامِهِ، واستَمْعتْ للكَثِيرِ مِنْ عزْفِ الآلاتِ والأصْوَاتِ الشَّادِيَةِ؛ حتَّى وهيَ تسْتَمِعُ لحَفَلاتِ الغِنَاءِ الرَّصِينِ فى المَسْرَحِ الْكَبِيرِ، بدارِ الأُوبرا المِصْرِيّةِ، كانَ بداخِلِهَا هذَا الْحَنِينُ الْمُقِيمُ لِمُوسِيقَى الذَّاتِ الكَامِنَةِ.
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.