استضافت شعبة أدب الرحلات تحت رعاية د. علاء عبد الهادي رئيس الاتحاد وبدعوة من الأستاذ حمدي البطران، مناقشة كتابي نهر على سفر فعشت أمسية 4 أغسطس مع رؤية كل من الإعلامي الكبير الأستاذ عمرو الشامي والروائي والناقد الأستاذ سيد الوكيل في الندوة التي أدارتها الأستاذة سعاد الزامك، وشهدت مداخلات من الروائي فؤاد مرسي والمؤرخ دكتور رضا عبد الرحيم، والكاتب سامي دياب، والرحالة إيهاب فاروق. وقد ألقيت هذه الكلمة التي أعددتها قبل الحضور لكنها أجابت عن أسئلة كثيرة:
يعرف الإنسانُ الرحلة منذ مولده، فهو يأتي هذا العالم في رحلة خرج فيها من رحم الأم، ليعيش في أرحام الحياة.
وإذا كانت رحلة المرء الأولى على الإطلاق ليست اختيارية، فلم يحدد لها موعدا، ولم يختر لها هدفا، فهو يعوضها حين يُمضي حياته كلها في رحلات متصلة، يخرج فيها من جغرافيا إلى أخرى، ويعبر خلالها مرحلة تاريخية إلى سواها، ويبدل فيها الفضاء الإنساني وشخوصه بفضاءات أخرى، وينسى الغرفة الوحيدة والبيت الواحد، لأنه سيجرب غرفا متعددة، وبيوتا عديدة.
لكنه، كما أكرر دائما، لن يظل كما كان قبل رحلة أو أخرى، لأنه في كل سفر سيكتشف ركنا قصيا من ذاته، مثلما سيكتشف أركانا أقصى في العالم، وفي كل مرة يبحث فيها عن آخر، سنجد المرء يتعثر في ذاته، ويعثر على وجوه جديدة له، فهو خارج وطنه وبيته وأهله سيكون في اختبارات متعاقبة، تسائل هويته، وتخاطب جذوره، وتشكل مستقبله.
وأنت حين تسافر، لا تكتشف البشر، ولا تكتشف الأمكنة، بل تعيد اكتشاف ذاتك. بلد تعلمك تذوق أنواع خاصة من الجمال، مدينة توقظ فيك الشعر وآدابا أخر، نهر يفيض من جسد الأرض ليتدفق من شرايين جسمك، فتُبعث من جديد، وناس يقولون لك من أنت، فيجيبون عن أسئلة تتأجج في صدرك منذ ألف عام وعام….
أنت تبدأ دائما من مصر، وتعود إليها، عقلك التاريخ وجسدك الحضارة وعيناك الفنون وحواسك الآداب.
وما بين رحلتين إجباريتين؛ دخل الإنسان الحياة في الرحلة الأولى، وسيغادرها في الرحلة الأخيرة ستتاح له الفرصة لتجربة رحلات فريدة، تخصه وحده، حتى لو سافر بصحبة العائلة والأصدقاء والزملاء، فالرحالة يكتب رحلته الخاصة، وهو يرى ما تسمح به بصيرته أنه يراه، لذلك يزور شخصان المكان الواحد، لكنهما لن يقدما رؤية متطابقة، فأنت ترى المكان بمرشحات تتضمن ثقافتك، وهوايتك، ورغبتك، ومعرفتك، وقدرتك على التواصل مع ذلك المكان، المختلف باختلاف المتلقي الزائر الآخر عنك.
ولي إشارات عن السفر أوجزها، فأصارحكم، إن السفر الذي أصبح ميسورا في سبله ووسائله، أصبح عسيرا في متطلباته وكلفته، ولا يستطيع المسافر اليوم أن ينسى ما ترك وراءه ومن ينتظره، فكلها تشده للعودة، لذلك قلّت أيام السفر وزاد العبء فيه، ليس فقط بما تفرض الدول من إجراءات تأشيرات زيارة، وما تجريه المطارات من تفتيش، وما تتطلبه الرحلة من تفرغ، ولكن من ذلك الانفصال المطلوب، عن عالم أنت فيه أسير، وعوالم تسافر إليها تسعى أن تكون حرا بها.
ولعل فكرة الوطن / البيت الذي تجد فيه راحتك، والصحبة التي تجد نفسك فيها، لتتباين، ففي الرحلة تقيم في مكان يصبح بيتا لليلة أو أكثر، وتلتقي بأصدقاء يضحون أهلك منذ تراهم حتى تغادرهم، لذلك تتجدد فكرة الوطن ومشاعرك نحوه، وهذا أمر لدى الرحالة، وليس المهاجر الذي قرر قطع تلك الصلة ليختار بقعة يراها أفضل لحياة تنقطع عن ماضيها وحاضرها.
ولدي كانت الرحلة كانت تستدعي الوطن، حتى لو كان ذلك استطلاعا عن جمهورية تتارستان، أو رحلة عمل إلى كوريا، أو قراءة لآثار إسبانيا، أو وقوفا على أطلال إيطاليا، أو زيارة لمهد الخلافة العثمانية، أو إعجابا بحضارة هندية.
أما المطارات فتلك رحلة تشبه الدخول في غرفة الغواصة المحكمة الغلق قبل الخروج منها للعالم، ولذلك تنشأ بينك وبينها علاقات متوترة، لا تعرف إن كنت تحب أسواقها وحسها العالمي، أم تكره مكاتب الأوراق والحجز وشؤون الهجرةوانتظار الحقائب،وغيرها، لذلك أرى في المطار صورة مصغرة عن عالم الدخول والخروج، عن الحياة نفسها، عن كل ما تفاجئك به من سعادة، وما تضمره لك من تعاسة. وأشعر بسعادة عميقة حين تبدأ الطائرة بالتحرك، وكأن لي جناحيها، فوق ألف سحابة تأخذني، وتصبح بيتي في السماء، حتى يتلقفني بيت آخر على الأرض.
ولا أخفي سرا، حين يرى من قرأ لي رواية أو أكثر، أن الرحلة مكون أساس في كتابتي، وأرى أنني بعد أن كتبت الشعر والنثر، وجدت في سرد أدب الرحلة ضالتي، ففيه جماع لكل ذلك.
وأخيرا ليست الرحلة هي ما تأخذك خارج الوطن، وإنما أجد معلمي الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق خير مثال أستحضره، فقد كتب مذكرات مسافر عن رحلته الفرنسية، وكتب بالمثال مذكرات مقيم عن رحلاته في ربوع مصر، ونحن في حاجة جميعا أن نكون ذلك المسافر المقيم، لاعادة اكتشاف مصر، بالنسبة لنا، وهو كذلك إعادة اكتشاف لذواتنا.
القاهرة 4 أغسطس 2019
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.