شاهدت وشاركت نهار الأمس، في المؤتمر السنوي الثاني لشعبة أدب الرحلات بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر والذي أقيم تحت عنوان “مصر في عيون الرحالة”. ولا يهمني هنا في هذا التقرير أن أرتب الجلسات، فقد طرأ تعديل عليها بسبب مواعيد السفر والحوارات الإعلامية، لكن الجميل أن الجميع حرص على إنجاح اليوم المنتظر، وكان الإخلاص عنوان المشاركات والتعقيبات، كما كان التقديم الذي تولاه الإعلامي عمرو الشامي، الذي تابع كعادته تسجيل المشاركات لبثها في البرنامج الثاني بالإذاعة المصرية، ليكون جبرتي الراديو المعاصر للثقافة المصرية.
مفتتح المؤتمر كان مع منصة تقاسمها الروائي حمدي البطران رئيس الشعبة، والشاعر مختار عيسى ممثلا لنقابة اتحاد كتاب مصر ونائبا عن رئيس النقابة الشاعر الدكتور علاء عبد الهادي، أما ثالث الحضور فكان الدكتور مراد عبد الرحمن مبروك، الذي ترأس المؤتمر في دورته الثانية.
شاركنا الثلاثة همومهم، والتي هي بالتأكيد همومنا، كمعنيين وممارسين لأدب الرحلة، سواء على أرض الواقع، أو عبر سطور التاريخ، إما في سفرات ميدانية، أو بأسفار أكاديمية.
فلم يخفِ الروائي البطران حزنه لعدم تخصيص لجنة في المجلس الأعلى للثقافة لأدب الرحلة، أسوة بلجان فرعية أخرى، خاصة وأن هذا الأدب قد تبوأ مكانة مهمة،كما أن مصر حظيت بكم هائل من الأدبيات التي قدمت تراثا هائلا لرحالة العالم وزياراتهم لربوع مصر.
كما طالب الدكتور مبروك أن يكتفي هذا المؤتمر بتوصية واحدة قابلة للتحقق، حتى لا تذهب التوصيات الكثيرة سدى، وتجد مصير ومسار سابقاتها.
أما الشاعر مختار عيسى فقد خص كلمته بالحديث عن التحديات التي اجتازها فريق النقابة بنجاح، ليحصل الأدباء على حقوق النقابيين، مؤملا أن يؤكدوا على صفة الاتحاد، كهيئة ثقافية مؤسسة تجمع المختلف قبل المؤتلف. كما رد على عدد من الشائعات التي تحيط بالنقابة، واعدا أن تكون هناك ندوة مخصصة لذلك حتى لا يجور على وقت جلسات المؤتمر.
كان لرئيس المؤتمر جلسة مستقلة، برزت أهميتها في تأصيل تصنيف أدب الرحلة باعتباره قمة هرم الدراسات النقدية، وهو ما يعني به النقد الثقافي، الذي تقع كتابات أدب الرحلة في صميمه، وهو نقد يعتمد على الموروثات الثقافية، للشعوب والمجتمعات، بكل ما تتوارثه من عادات وتقاليد اجتماعية ودينية وحضارية، مثلما يعتمد على الأنساق الثقافية المضمرة، والتي تتضح بالتفسير والتحليل والاستنتاج، وآخرها: الأنساق الجمالية الفلسفية، التي لاتكتفي بتحديد الظواهر البلاغية والأسلوبية تقليديا، وإنما تتناولها من منظور جمالي فلسفي، وهو ما جعل الباحث يختار “الرحلة إلى الحجاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر 1854” مثالا، لا حصرا ، مركزا على رحلة الرحالة الفرنسي شارل ديدييه في مصر ، مستخلصا رؤية ثقافية، ورؤية سياسية، ورؤية اجتماعية. وفي الأخيرة وجد الدكتور مراد مبروك أن الأنساق المضمرة تمثلت في إبراز التناقض بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، “أو لنقل بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون شيئا. أو بين السلطة ممثلة في الخديو عباس وكبار التجار، من ناحية، وجموع الشعب من البسطاء والفقراء الذي لا يملكون شيئا، من ناحية أخرى.” كما كان إبراز سمة الكرم والمروءة والشجاعة والترحيب بالضيف عندأهل مصر، ضمن تلك الرؤية، مع التأكيد على أنها”تشيع عند بسطاء الناس وليس حكامهم.”
الجلسة الثانية التي أدارها الناقد والأديب سيد الوكيل، قدمت ثلاثة موضوعات، أولها الموضوع الذي قدمته الدكتورة فتحية الفرارجي،وهي أستاذة للنقد والأدب الفرنسي المعاصر بكلية التربية، جامعة طنطا، وهو التخصص الذي وضعنا في قلب مشاهدات وملاحظات وتحليلات كتابها (بين النيل والسين … رحلة القاهرة لباريس الساهرة)، الذي صدر مطلع العام تزامنا مع العام الثقافي المصري الفرنسي.
الأهم في ورقة الدكتورة فتحية االفرارجي هي تلك الأنساق الثقافية المضمرة ، مجددا، فهي لا تذكر عناية الفرنسيين بالقراءة، إلا لتربط بين تقدمهم وتمكنهم والثقة في هويتهم، بدءا من اللغة، حيث تبدأ الأم بالقراءة لطفلها وهو جنين في بطنها، وتهديه الكتب القماشية ليلهو بها وهو يرضع في عربته، ثم تقام المسابقات التي تعزز انتماءه للغته، وصولا إلى دفتر تدوينات لا يفارق الصبية والصبايا، وانتهاء إلى الطالب في الجامعة، الذي يقرأ ، بالإضافة لمناهج الدراسة، خارج المناهج. مؤكدة في حديثها على أن بمصر ما لدى فرنسا، ولكن كما يقول الشائع: “الليث أفقه من مالك إلا أن أهله لم يقوموا به”، ومن هنا فعلى المصريين واجب القيام بلغتهم وهويتهم، وإعادة اكتشاف وطنهم.
الموضوع الثاني خصص لبحث حول “الموالد المصرية في كتابات الرحالة والمؤرخين” أعده الدكتور رضا محمد عبد الرحيم، الذي لم يكتف بإيراد مقتطفات مما سجله هؤلاء عن الموالد، وأشهرها المولد النبوي في شهادة عالم المصريات الأشهر شامبليون، ومولد سيدي أحمد البدوي في طنطا الذي اعتبره علماء مصريات كثيرون إحياء لمولد المعبود القديم شو إله مدينة سيبنيتوس بدلتا النيل (سمنود حاليا) في وصف إدوارد تودا قنصل أسبانيا في مصر وسواه، وإنما أضاف مشاهداته الخاصة في طنطا ومولدها منذ صغره حتى اليوم.
في الموضوع الثالث واصل الرحالة محمد شلبي أمين تحقيقاته الميدانية برحلة عنوانها (إنسان حلايب وشلاتين) تأتي ضمن مساره في اكتشاف حدود مصر الملتهبة والتي صدرت في كتاب بهذا العنوان، وقد نقل الحضور إلى مشاهدات مثيرة، ربما لم يسمع بها كثير منهم، عن منطقة تصدرت الأخبار طويلا.
تحدث محمد شلبي أمين مطولا عما يمكن تسميته بالفضاء الحر والذكي الذي منحته السلطات المصرية لأهلنا في حلايب وشلاتين، فهم مصريون بالوثائق والهوية والتوطين والخدمات، لكن خصوصيتهم كإثنية بجاوية غالبة محفوظة بحرية التنقل، شمالا وجنوبا، خاصة فيما يتعلق بالتجارة والتعليم. مشيرا إلى الغنى الكبير في الموارد التي تنتظر من يفيد منها، في أرض الذهب والسمك والشمس والأساطير، وقد اختتم بقراءة أغنية بجاوية ترجمها دليله هناك إلى هذه الكلمات:
“المحبوبة راعية غنم
(أنا غير رأيتك ما عملت)
لم أفعل سوى أن رأتك عيني
مشيتك تجذب أنظار الناس
وأرجو حينما نموت أن ندفن معا
وأن ندخل الجنة معا فالفرحة الكبرى في قربك.”
تعود الجلسة الأخيرة للدكتور رضا محمد عبد الرحيم ليديرها، فتبدأ بدراسة أعدتها الدكتورة عبير خالد يحيى بعنوان”ديمغرافية في أدب الرحلة النص الموازي المعنون بالملتقى” للكاتبة وفاء إبراهيم، وهو كتاب جنسه أدب رحلة في إطار مشاهدات ديمغرافية، استعرضت من خلاله الباحثة مشاهدات عينية تختص بالجماليات اللغوية، وضم الكتاب مشاهدات ديموغرافية مقارنة لرحلة بين بلدين مختلفين جغرافيا واجتماعيا وعمرانيا وجماليا، غربي وشرقي، بين الولايات المتحدة (لوس انجلوس) وبين جمهورية مصر العربية (القاهرة – الأقصر – أسوان – الإسماعيلية – السويس)، حيث قامت الكاتبة (وفاء إبراهيم عرار) الدمشقية المتزوجة من مصرى والمقيمة في أمريكا، بتسجيل مشاهداتها الديموغرافية بشكل عيني عن طريق عدسات التصوير بصور مختلفة، وتسجيل حرفي بقلمها الذي يقع بين التقريرية والأدبية.
ثم صعدتُ إلى المنصة بدعوة من الناقد سيد الوكيل وبترشيح من الشاعرة والكاتبة المهندسة سعاد الزامك، التي أعدت شهادة عن كتابي (نهر على سفر)، فقد كنت قادما كمشاهد، لكنني أصبحت ملزما بتقديم الكتاب، رغم أنه خارج سياق الرحلات داخل مصر، فقد كان 13 رحلة انطلقت من مصر، والكويت، إلى العالم، لكني رأيت أن أستخلص منها الآتي:
إن المرء حين يسافر لا يكتشف البشر، ولا يستكشف الأمكنة، بل يعيد اكتشاف ذاته، ويكمل قائلًا: إن مفردات من معجم الابتسامات كانت تفتح له الأبواب المغلقة هنا وهناك، وتيسر مهمته فى التنقل بين النهر والبحر، بين الوادى والجبل، بين الواحة والصحراء، بين المدن الكوزموبوليتانية والقرى التى لم تمسها نار العولمة.
كما قلت إنني عملا على دعوة الدكتور مراد في أن تكون لدينا توصية واحدة فقط قابلة للتحقق، فإنني أرجو أن تكون هذه التوصية بنشر مجموعة رحلات مصرية عبر ربوع مصر، لتصدر عن المؤتمر في عامه القادم، وذكّرت الحضور بالشيخ مصطفى عبد الرازق الذي كان له كتاب (مذكرات مسافر) عن رحلته إلى باريس ومارسيليا، والذي حققته ونشرته في 2014، قبل أن أعود العام التالي لأضيف رحلاته في مصر وكانت بعنوان مذكرات مقيم، ليصدر في 2015 كتابي (الشيخ مصطفى عبد الرازق مسافرا ومقيما). فمصر جديرة بإعادة الاكتشاف كما رأى حضور المؤتمر في أوراقه.
وقلت إن الرحلة وثيقة أدبية تاريخية تعتمد على التحقق، لا المبالغة، والتهويل، فمن الرحلات ما يعيد نشر مشاهدات مبالغ فيها ظهرت برحلات سابقة دون التحقق منها، ومنهم من يكتفي بالجلوس في الفنادق ويكتب عن الرحلة من خلال كتالوجات السياحة، ولكن الرحلة الحقيقية تأتي بالمشاهدة، وذكرت مثالا لخريطة رأيتها في متحف ابن فضلان بمدينة بلغار على الضفة اليسرى لنهر الڤولجا في جمهورية تتارستانوتبعد عن العاصمة قازان مسافة 140 كيلومتر، وقد أصبحت العاصمة التاريخية التي أنشئت في القرن الـعاشر حيث جاء ذكرها في المدونات التاريخية التي كتبها البلحي الرحالة والجغرافي العربي عام 920م، وفي عام 922 ميلادية وصلتها من بغداد قافلة ابن فضلان. في الخريطة، كانت مدن الخلافة الإسلامية في بغداد وحولها تسمى عربستان، وفيها يبدو اتجاه القافلة إلى الشرق في بخارى (أوزبكستان حاليا) لتجمع الجباية للخليفة قبل أن تعاود رحلتها إلى الشمال الغربي، لتعطي نقودها إلى ملك الصقالبة. فالخريطة اكتشاف مهم، وهو ما يجعل من الرحلة وثيقة تاريخية.
الورقة الأخيرة كانت بعنوان “صورة المرأة العربية في كتابات الرحالة المستشرقين”، لباحثة الدكتوراه أميرة سعد التي حاولت الإجابة عن عدة أسئلة: كيف نظر الغرب إلى الشرق؟ وكيف جاءت صورة المرأة الشرقية داخل الخطاب الغربي؟ وكيف انقسمت نظرة المستشرقين تجاه الشرق إلى شقين، إحدهما معجب بسحر الشرق، باعتباره وطن حكايات “ألف ليلة وليلة”، وشق متعالٍ على الشرق مزدرٍ له، يرى أنه يجب تعليم هذا الشرق وتمليته ما يجب عليه فعله.. لكن في كلتا الحالتين ـ تقول الباحثة ـ كانت الأنثى الشرقية تتميز بمكانة خاصة في الخطاب الغربي.
لم ينس المؤتمر تكريم رئيسه الباحث الدكتور مراد عبد الرحمن مبروك، ونخبة من النشطاء في نشاط شعبة أدب الرحلات، كالكاتبة سعاد الزامك، والدكتور رضا محمد عبد الرحيم والكاتبة عبير العطار وغيرهم. وحيا سيد الوكيل الحضور الذين ثابروا حتى النهاية، في يوم بحثي وشتوي طويل، آملا أن تكون هناك في الندوات لكل باحث مداخلتان، الأولى مكتوبة لأدبيات المؤتمر المطبوعة، والثانية مخصصة للقراءة الشفاهية الموجزة للمنصة، وهو أمر جدير بالاحترام، لعدم تجاوز الوقت، وتضمين عدد أكبر من الباحثين والباحثات.
ودعت الصديقات والأصدقاء الجدد والقدامى، وعاد كل منا يحمل رحلة داخله، تتطلع للمؤتمر القادم، لعشاق أدب الرحلة، جُمّاع النقد الثقافي.
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.