الإيطالي “جوزيبي فريليني” وما فعله بآثار حضارتنا النوبية القديمة

10:52 صباحًا الأحد 16 فبراير 2020
د. حسن حميدة

د. حسن حميدة

الدكتور حسن حميدة كاتب لأدب الأطفال واستشاري تغذية في المحافل العلمية الألمانية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بقلم الدكتور حسن حميدة –  ألمانيا 

بقلم الدكتور حسن حميدة –  ألمانيا

نبدأ بالقريب أولا:

كانت أول زيارة لي لمتحف السودان القومي في الخرطوم في العام 1980، وآخر زيارة لي له في العام 2010، أي بعد ثلاثون عام من أول زيارة. لم يكن متحفنا القومي هو المتحف القديم الذي كنت أعرفه. لقد غابت عن ناظري الأسود النوبية التي كانت توجد عند مدخل المتحف (وللأسود قصة أخرى سوف نرجع لها لاحقا). لقد أزيل السجاد الأزرق على المدرج الواسع والجميل. دخلت ووجدت الخزانات الخشبية القديمة. لقد تكسرت ألواحها الزجاجية، وعلق بما تبقى بها من تحف فخارية كثير من الغبار. سألت المراقب للجناح بإحترام، مع علمي بأنه غير المسؤول عن الأمر: أين باقي التحف والتماثيل في متحفنا القومي؟ رد علي الرجل بإحترام المضيف لضيفه قائلا: موجودة ولكنها في المخازن، موضوعة تخوفا عليها من أمر السرقات. أبديت له تفهمي وشكرته ثم صمت بعمق.

مازالت ببالنا قصة شجرة الصندل التي أتت هدية لمتحفنا القومي من بعيد. لقد اختفت شجرة الصندل فجأة ومن دون أثر. لا يدري أحد بعد، عما إذا خزنت أيضا مع بقية التحف والتماثيل في مخزن من المخازن. لقد بدأ اللقط، وإنما في بعض اللقط أحيانا من حقائق. يزعم البعض بأن شجرة الصندل المسكينة قد قطعت، وصنع منها أساس منزلي (بنابر وعناقريب) لسيدنا. ويجزم البعض الآخر بأن شجرة الصندل الغريبة قد قطعت وكان مثواها حفرة دخان الزوجة الثالثة المحبوبة لسيدنا. كل زعم وجزم لا يفيد، والحقيقة المرة بأننا قد فقدنا شجرة وارفة وشامخة، انطفأت كما تنطفيء شمعة موقدة. لنرجع ونسأل أنفسنا بعيدا عن سيدنا وطلاميسه: ماذا تعني لنا حضاراتنا القديمة وآثارها، ماذا يعني لنا تاريخنا وماذا تعني لنا هويتنا؟ إذا كانت هي في منظورنا فقط مجموعة من أصنام متحجرة وساكنة، ولا تعني لنا شيء، فعلينا وعلى الأرض السلام. أما إذا كانت تعني لنا كل شيء، فالنبدأ اليوم بزراعة شجرة صندل جديدة تعوض لنا مافقدناه من شجرة. أن نواصل البحث في أمر هويتنا، في سبل تطويرها والنهوض بها، بعيدا عن المطاعنات والتناحرات. هويتنا وتعددنا الإنساني هما ثروتان لا يستهان بهما. مصدرين مأمونين للثروة، يدرا علينا وعلى بلادنا دخلا وافرا.

متحف السودان القومي

متحف السودان القومي

كم من تشوهات توجد على ما تبقى من تحف وتماثيل تحكي قصة تاريخنا وحضارتنا القديمة. القليل يدري أن هذه التشوهات الموجودة على التحف والتماثيل قد تمت بفعل فاعل. هناك باحثين أفنوا أعمارهم في إستكشاف وتوثيق وتدوين ارثنا التاريخي العريق. بوتقة من أفذاذ علماء الآثار، عملوا تحت أصعب الظروف البحثية وقساوة الطقس. علماء لم تثنيهم عزائمهم الجبارة من مواصلة رحلاتهم البحثية للعمل. عملوا يد بيد مع أهل البلد من مواطنين، لكي يكتشفوا ما يجود به جنوب وادي النيل من إرث. لم ينكسر هؤلا العلماء حتى لتقدمهم في العمر من العزم على وصول الهدف. علماء مخلدين أمثال البروفيسور السويسري شارل بوني والبروفيسورين الألمانيين فريدريش هينكيل وديتريش فيلدونغ. عملوا بجد ليضحضوا الحقيقة المخفية، بأن لأفريقيا السوداء أيضا مكان بين حضارات العالم. لقد تمكنوا من أن يبينوا للعالم أجمع بأن هناك حضارة فرعونية زنجية الأصول، لا يستهان بها. كل هذا تم بعد أن كان يغدق بعض الباحثين قصيري الأنظار، بأن الحضارة النوبية في جنوب الوادي، ليس هي إلا تصوير للحضارة المصرية القديمة. على سبيل المثال النظرية الخاطئة التي حاول عالم الآثار الأمريكي “جورج رايزنر” من تعميمها جهلا، طامسا بهذا قوام الحضارة النوبية القديمة بأكملها.

هناك للأسف من فعل بهذه الآثار ما لا يمكن تصوره، بل ما لا يجرأ على فعله الشيطان، على سبيل المثال: ما قام بفعله  الإيطالي جوزيبي فريليني. ولد فريليني في بولونيا في العام 1797 وتوفي بها في العام 1870. عرف فريليني بجانب عمله كطبيب وجراح، بصحبته لجيوش محمد علي باشا التركية، وبميوله للسفر والترحال والإستكشاف – تفعمت نفس فريليني بحب الإستطلاع والإشتكشاف في مقتنيات العوالم البعيدة عن وطنه الأصل. وصفه الآخرون بأنه مستكشف وعالم آثار، وكان فريليني يحبذ أن يوصف أو يشار إليه بالطبيب الجراح وعالم الإنسانية، بيد أن أفعاله الإجرامية لا تنتمي إلى الإنسانية بصلة من الصلات. الشيء الذي يتبين لمتتبع سيرة فريليني الذاتية، منذ ولادته، مرورا بفترة عمله، إلى وفاته. لقد كان طبيب حربي ضل طريقه المهني إلى إستعمال العنف المطلق تجاه مقتنيات الإنسانية، لكي يطفيء ظمأه ويشبع جوعه، مما خلدته الإنسانية من قطرات آثار تبقت، أو كسرات حضارة تركت. الشيء الذي جعل من الطبيب الحربي جوزيبي فريليني، مقلب للمدافن ومبعثر للقبور ولص متمرس في تدمير، سرقة وسلب آثار أقدم حضارات العالم على الإطلاق.

استغل فريليني هوية الطبيب بالجيش التركي في المناطق الحارة، متلبسا ثوب تطبيبي، بدأ للناظر في أنصع صور البياض. كان فريليني متسخ القلب وقذر اليدين، تنتن من كل جوانبه رائحة الأستغلال والكراهية والبغض والجشع وحب ثروات بلاد الحضارات العريقة مثل “مصر والسودان”. ولما كان فريليني مراقب من سلطات مصر كل المراقبة، لم تكن محاولاته لإصتياده لفريسته في أرض مصر بالأمر السهل. لهذا اتجه فريليني جنوبا، ليجد ضالته في جنوبي وادي النيل، وبالتحديد في أرض السودان. هنا تمكن فريليني من العبث بكل ما أوتي من قوة تجاه آثار الحضارة النوبية القديمة، وتوغل فريليني جنوبا حتى بلغ مجرى النيل الأزرق – إلى منطقة سنار. اختار فريليني شمالا مناطق نوري والنقعة ومروي، مهد الحضارة النوبية القديمة. كان هم فريليني الأول والأخير هو سلب ونهب الكنوز والتحف الذهبية الموجودة في إهرامات “مدافن” ملكات وملوك، وأميرات وأمراء حضارة النوبة. جهد فريليني في البحث عن الإهرامات التي دفن فيها كل من الملكة آماني شخيتو (الكنداكة ست الإسم)، وملك النوبة العظيم تهارقا (تهراقة) ووجدها.

آثار سودانية تعرض في متحف بوسطن بالولايات المتحدة

آثار سودانية تعرض في متحف بوسطن بالولايات المتحدة

 لم يقم فريليني بالبحث عن ضالته بتأني كما يفعل كبار علماء الآثار، بل قام فيرليني “ناسف ومدمر آثار الحضارة النوبية” بإستعمال الديناميت في نسف قمم الإهرامات للحصول على ما يريد. نسف فريليني كم هائل من الإهرامات، بما فيها الهرم السادس للملكة آماني شخيتو، ثم قام  بالبحث بنهم عن الكنوز والتحف والذهب والمجوهرات والأواني الذهبية في هذه المدافن “الإهرامات النوبية”. ويسجل حتى الآن في حساب فريليني، وبالتوثيق التاريخي الكامل، تدمير أكثر من 40 هرم نوبي من مجمل 220 هرم، وحتى العام 1844 للميلاد. ويقول علماء الآثار بأن هناك ولغرابة الأمر، هرم كبير قد اختفى بأكمله “دمر بالديناميت وأحيل لتراب” بعد زيارة فريليني الإستكشافية  للمنطقة – فريليني الطبيب المرافق للجيش العثماني الجرار، والذي كان همه الأول والأخير، البحث عن المحارب القوي والذهب للزحف والتوغل أكثر – من بعد ذلك قام فريليني بنقل ما نهبه من تحف وكنوز لا تقيم بثمن إلى مواقع أخرى آمنة،  إستعدادا لتهريبها للقارة الأوروبية. وأخير نجح في مخططه، بتسويق مقتنياته من غنائم في بعض المتاحف الأوروبية.

 F48DD0BD-C23B-4A54-B2F6-CB4A02814F8Bلقد حظيت بعض المتاحف بإقتناء تحف وكنوز الحضارة النوبية القديمة. هنا على سبيل المثال: متاحف ألمانية في العاصمة برلين والعاصمة البافارية “ميونخ”. كما أن هناك بعض من الكنوز التي تم شراءها من قبل بعض الملوك الأوروبيين للحفاظ عليها في متاحف بلدانهم، وهذا حتى لا تقع في أيدي لصوص وتجار التحف الأثرية أمثال فريليني. لا يبغض لفرينيني كلص للمدافن والقبور، فقط سرقته لتحف وكنوز الحضارة النوبية ثم بيعها، بل أيضا الطريقة التي اتبعها في الحصول على هذه المقتنيات – بتدميره لآثار حضارة بأكملها وبطريقة وحشية لا يمكن للعقل البشري أن يصدقها أو يتصورها – يأتي التناقض بحب فريليني على أن يوصفه أو يشير إليه الآخرون بأنه الطبيب الجراح وعالم في الإنسانية (؟؟ أي إنسانية تعنى هنا؟؟). زيادة على ذلك تأتي الطرق التدميرية التي اتبعها فريليني في الحصول على ما يريد. الشيء الذي أدى إلى تشويه التماثيل النوبية القديمة بأكملها، والتي لم يكن أمر التعرف عليها من بعد بالشيء السهل. كما تأتي بعض الطرق الإجرامية التي اتبعت في تهريب المقتنيات الذهبية من قبل فريليني وأتباعه، مثل صهر كنوز وتحف وأواني جميلة، وتحويلها لسبائك ذهبية، ثم العمل على تهريبها في شكل كتل معدنية يسهل نقلها.

نعيش الآن في زمن يطالب فيه كل إنسان متضرر من أمر ظلم، بالتعويض عن الأضرار التي تلحق به أو بشعب بلاده. ربما يأتي الظلم أو الضرر في صور وأشكال مختلفة، على سبيل المثال: الضربات الإرهابية المباغتة التي يكون ضحاياها الأبرياء من المدنيين. ولذا على كل من تثبت إدانته، أن يقدم نفسه للقانون بشجاعة واقدام ونسيان للنفس “أن يأتي للعدالة عاريا”. هذا حق إنساني يضمنه القانون الدولي لكل متضرر أو مظلوم، لأسرته أو لأهله. ما لحق بالإهرامات النوبية من ضرر – سرقة آثارها من تحف وكنوز، بعد نسفها وتدميرها، لطمس حضارة تحكي عن تاريخ الأنسان، ما هو إلا جرم يقع في مناص الإجرام التي ارتكبت في الحقوق البشرية. من هنا نناشد المجتمع الدولي، كما نناشد الدول ذات الصلة بالأمر: إيطاليا، تركيا وغيرها من الدول، بالبث في موضوع المواطن “فريليني” وما قام بفعله من إنتقام لقتل الهوية البشرية في جنوب وادي النيل. العمل على إصلاح وتعويض ما لحق من ضرر بآثار حضارة النوبة القديمة. ما هذا إلا هو حق من الحقوق التي يضمنها القانون الدولي لأهل هذه الحضارة العريقة “كفئة مظلومة”، وما هذه الحضارة إلا هي جزء لا يتجزأ من تاريخ الإنسانية وتركتها، والتي تعتبر فخر لنا ولكل إنسان في هذا العالم الكبير.

E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات