جاءت تفجيرات مرفأ بيروت المأساوية لتدفع الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى المسارعة لزيارة بيروت في اليومالثالث من الانفجار؛ تلك الزيارة التي كان مقررًا لها الشهر المقبل بعد حالة التوتر الدبلوماسي التي سادت العلاقة بينبيروت وباريس في أعقاب الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان منذ ثلاثة أسابيع وشهدت ماوصفه المراقبون بتأنيب لودريان للساسة اللبنانيين نتيجة لتدهور المشهد السياسى والاقتصادي، انطلاقا مما تراهباريس دورًا تاريخيًا لفرنسا تجاه لبنان، وما تعتقده من أن لبنان ورقة مهمة يجب ألا تنسلّ من بين يديها، خصوصًا فيظلّ اتساع رقعة الصراع على النفوذ في المنطقة بين واشنطن وموسكو التي دخلت بقوة على الخط، وسط تواجد وتزايدلمحور إيرانى مهم، وانحسار واضح في الدور الأوربي.
والرسالة المعلنة في هذه الزيارة السريعة، لن تكون لصالح السلطة اللبنانية والحكومة، بل ستصبّ في خانة إفهامالجميع أن المصالح الفرنسيّة في لبنان غير متعلّقة بأشخاص، وذلك لكي يكتب لها الاستمرارية، وربط لودريان خلالزياررته المشار إليها أى مساعدات تخرج لبنان من أزمته بحزمة من الإصلاحات المطلوبة دون أن يعلن عنها حينذاك؛وجاء تفجير المرفأ كفرصة ليعلنها ماكرون بنفسه عملا بالمقولة الفرنسية: “يساعد الرب من يساعدون أنفسهم”.
ففي حين جاءت كل مبادرات دول العالم في إطار إنساني لإغاثة المتضررين والضحايا ومساعدة لبنان على التغلب علىالوضع الكارثى جاءت زيارة الرئيس الفرنسى لتضيف للجانب الإنسانى أبعادًا معلنة وغير معلنة تحت راية “الأمر لى” وأنه لا تغيير في قواعد اللعبة القائمة، رغم كل المطالب والثورة والغضب الشعبي المكتوم والمعلن، في إصرار واضح بأنفرنسا هى اللاعب الرئيسى على الساحة اللبنانية حتى وإن كانت قد سمحت في أوقات سابقة لأدوار أخرى أن تلعبوتناور وتعقد صفقات وتوفر الرعاية تحت سمع وبصر باريس سياسيًا واقتصاديًا واستخباراتيًا وعسكريا.
وجاءت تصريحات ماكرون بعد زيارته لموقع الانفجار لتؤكد في وجود الساسة اللبنانيين أن فرنسا حاضرة بكل ثقلهامعلنا “أن فرنسا تشارك الشعب اللبناني غضبه الصحي”؛ ويمكن وصفها بأنها تصريحات تجاوزت حدود السيادةالوطنية اللبنانية، ونوع من فرض الوصاية بعد أن فشل الجميع –من وجهة نظر باريس– في فرض الأمن والاستقراروالنظام ومحاربة الفساد ومواجهة التحديات الإقتصادية وحالة الغضب الشعبى وتوغل قوى إقليمية وفرض أجندتها علىالساحة اللبنانية بصورة تهدد المصالح الفرنسية، مشيرًا أن لبنان لن يمنح شيكًا على بياض، ولابد من حزمة إصلاحاتشاملة.
وأضاف ماكرون: “يجب بناء نظام سياسي جديد في لبنان قائم على الوحدة الوطنية”، مشيرًا إلى أنه لا يستبعد فرضعقوبات على من وصفهم بأنهم “الذين يعيقون القيام بإصلاحات في لبنان”. وأردف ماكرون قائلا “ليست لدي معلوماتبشأن انفجار بيروت أكثر مما يعرفه الرأي العام وإجراء تحقيق دولي أمر ضروري”. وتطرق الرئيس الفرنسي موجهًاحديثه لـ”حزب الله” “إذا كانوا يدافعون عن مصالح الشعب اللبناني، فليجدوا حلًا للكهرباء، ولمشاكل الناس بدلًا عنخدمة مصالح دولة أجنبية”. إلا أنه أيضًا قال: “في الشارع سمعت أناسًا طالبوا بأن تعود الوصاية الفرنسية علىلبنان، لا تطلبوا من فرنسا ألا تحترم سيادتكم”.
وإمعانًا في فرض الوجود الفرنسى داخل الأحداث والتحقيقات وليس خارجها، تم الإعلان عن فتح النيابة العامةالفرنسية تحقيقًا في إصابة 21 فرنسيًا في انفجار مرفأ بيروت، سوى دليل اضافي على عزم هذا البلد الإمساك بالورقةاللبنانية بشدة من كل جوانبها.
…
سطور غير مكتوبة
وفي محاولة لفهم أعمق لنتائج الزيارة وأبعادها علينا العودة إلى سطور غير مكتوبة في العلاقات الدولية بين الدولصاحبة النفوذ الاستعماري منذ نهاية القرن التاسع عشر وصولًا لمنتصف القرن العشرين؛ تلك السطور تراعى فيمضمونها نفوذ الدولة التي كانت تستعمر تلك البقعة من الأرض وتحترم علاقاتها السياسية والثقافية الممتدة مع القوىوالجماعات على الأرض وتتفهم أطماعها في الموارد وتحكمها عن بعد في الخريطة السياسية والاجتماعية وإيقاعالحركة والتحالفات.
وفي هذا الإطار يمكن فهم الدور البريطاني والفرنسي والبرتغالي والإيطالي في مستعمراتهم القديمة؛ ورغم سقوطالإمبراطوريات القديمة وظهور نظام عالمي جديد بعد أزمة السويس (العدوان الثلاثي على مصر عام 1956) الذي أفرزبقوة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي كبديلين وقوى مسيطرة ونافذة لبريطانيا العظمى وفرنسا حينذاك، إلاأن هذا النوع من الاحترام لنفوذ المستعمر القديم ظل قائمًا، وكان لبنان نموذجًا لهذا النفوذ الممتد منذ اتفاقية سايكسبيكو التي منحت النفوذ والسيطرة لفرنسا على بلاد الشام التي من بينها لبنان.
وفي قمة الحرب الباردة وصعود النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وصراع الولايات المتحدة مع الاتحادالسوفيتي ووريثته روسيا ظل الاحترام للنفوذ والهيمنة الفرنسية على الأجواء اللبنانية. وقد يظهر هذا بعض الشيءعندما تنفلت الأمور وتخرج الانفعالات وكان نموذج ذلك حالة التلاسن بين رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب ولودريانعندما وصف دياب وزير الخارجية الفرنسي بأنه يجهل حقيقة ما يتم في لبنان؛ وهي الأزمة التي يعتقد البعض أنها كانمن أبرز أسباب استقالة وزير الخارجية اللبناني نصيف حتى قبل انفجار مرفأ بيروت بيومين بعد وصفه للوضع فيلبنان بأنه دولة في طريقها للفشل وهو ما اعتبره بعض المراقبين ينطبق مع رؤية لودريان.
وأشار المراقبون إلى تلويح لودريان –قبل شهر من انفجار مرفأ بيروت– بالشروط لتقديم أى مساعدات، التي كان منبينها الاستعانة بصندوق النقد الدولى، وخصخصة القطاع العام، وإطلاق يد المصارف وشركات القطاع الخاص،وزيادة الضرائب، ورفع الدعم عن السلع الغذائية وغيرها من “الإصلاحات”. وتتعلق الإصلاحات المطلوبة أيضًا وفقاللدوائر القريبة بنزع سلاح حزب الله وخاصة صواريخه الدقيقة وفرض سيطرة الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل.
رؤساء فرنسا.. دور تاريخي
ورغم كل تلك المحاولات الفرنسية لاستعادة السيطرة على المشهد قبل وبعد انفجار مرفا بيروت إلا أن هناك وجهة نظرأخرى ترى أن الدور الفرنسي لم يعد بنفس القوة على الساحة اللبنانية، ولا يتناسب مع ما أظهره ماكرون ووزيرخارجيته لودريان؛ حيث لم يعد الدور الفرنسي مرحبًا به بالدرجة نفسها على الأقل، من الفرقاء اللبنانيين. كما أنالنموذج الذي يقدمه “حزب الله” يختلف تمامًا عن صورة لبنان في المخيلة الفرنسية. لقد كان عقد الثمانينيات فارقًابشأن الدور الفرنسي في لبنان.
وإذا أردنا لحظة محددة ترمز إلى انحسار هذا الدور، فربما تكون هي لحظة إخلاء “قصر الصنوبر” في مارس 1986،وهو قصر ثقافي قديم كان ممثل فرنسا يقيم فيه. يومها بدا إخلاء هذا المقام الكبير، الذي مثل أحد رموز الوجودالفرنسي في المنطقة كلها، تعبيرًا عن مرحلة جديدة تمامًا في العلاقة بين باريس وبيروت. ذلك المشهد الذي سبقه عددمن المشاهد التي جسدت الهيمنة والرعاية الفرنسية لكل أمور الشأن اللبناني سلبًا وإيجابًا، حيث يحلو للبعض سردالمواقف التاريخية لكل الرؤساء الفرنسيين من الملف والتطورات اللبنانية وهو حديث دارج ويتناقل بين كل الفرقاءاللبنانيين خاصة في مناسبة إعلان مطالب الرئيس الحالى ماكرون اليوم؛ ولعل أبرز تلك الحقائق التي يتم تداولهاالآتى:
أصداء الإليزيه
إلا أن الفرقاء الذين يسردون هذا التاريخ الفرنسي في لبنان وما تركه من أثر على الساحة السياسية والاقتصاديةوالأمنية يغيب عنهم اليوم أن فرنسا الجديدة تشهد تغييرات عميقة في تكوين طبقتها السياسية بحيث يغيب جيل الوجوهالقديمة التي كان لبنان يعني لها كثيراً مع ما يرافقه من تعاطف شخصي بينما يصل إلى السلطة اليوم جيل من الوجوهالشابة التي تتحكم بها مصالح آنية ولا مكان للعواطف في حساباتها.
وربما ما مثله موقف جان إيف لودريان يعتبر خليطًا بين جيل قديم يستوعب كل المشاعر العاطفية الكلاسيكية تجاه لبنانوما يمثله من نقطة انطلاق سياسي وثقافي بالنسبة لفرنسا، وبين واقعية الجيل السياسي الذي يسعى لتوظيف كل ذلكبصورة برجماتية لخدمة مصالح فرنسا الحيوية، وفي مقدمتها المصلحة الاقتصادية، وأن يكون لبنان نقطة ارتكازإقليمى لنفوذ فرنسي يساعدها في بقية الملفات والحصول على نصيب من الثروات والنفوذ.
وواقع الحال بالنسبة للتحليل الموضوعي للدور الفرنسي في لبنان قبل انفجار مرفأ بيروت يجد أنه عندما ينتهي منالتحليل يكون قد رسم صورة كاملة لحال وواقع المشهد اللبناني صعودًا وهبوطًا على مدار قرن كامل من الزمان هو عمرالدولة اللبنانية الحديثة، وأن كل ما شهدته وتشهده الساحة اللبنانية لم يكن يومًا بعيدًا عن قصر الإليزيه، وإن سُمعتأصداؤه في قصر بعبدا حيث مقر رئيس الجمهورية اللبنانى أو السراي الكبير حيث مقر الحكومة في قلب بيروت؛ وأنكل الصراعات والأدوار والتحالفات التي شهدها لبنان كانت بسماح وموافقة ضمنية من باريس ومساحات حركةمحسوبة، صاحبها حالات انفلات عديدة دفع اللبنانيون ثمنها جيلًا من بعد جيل بعيدًا عن القراءة الكلاسيكية للمشهداللبناني ومعادلاته المعتادة.
وحالة الانفلات في المعادلة التي تقلق باريس إقليميًا هي زيادة سيطرة ونفوذ حزب الله وهى التي سمحت له قبل هذابمساحات حركة محسوبة ولديها قنوات اتصال قوية مع قياداته كانت تعتقد باريس دائمًا أنها كافية للتحكم في سلوكوردود أفعال الحزب، ولكن زيادة الصراع الإقليمى وتأثير وسرعة إيقاع حركة المحور الإيرانى زادت من حالة انفلاتحزب الله وخروجه عن حدود المساحات المسموح بها فرنسيًا، وكذلك أثار قلق من عهدوا لباريس برعاية هذا الملفوالتعامل معه خاصة الولايات المتحدة التي أبدت قلقها لباريس، وترى أن هناك تخاذلًا في التعامل بحسم مع هذا الملفمن إدارة الرئيس ماكرون.
وأصبحت الضغوط تمارس على باريس وبقية الفرقاء اللبنانيين وحزب الله ذاته لفك ارتباط لبنان بهذا المحور مستغلينفي ذلك زيادة حالة الغضب على التركيبة السياسية الحالية وما لحق بالمشهد من فساد وسوء إدارة وتدهور المعيشةويرون فيها فرصة لقطع الطريق على حزب الله وتحجيم دوره الذي امتد عبر سوريا ويتلاحم مع أدوار أخرى في العراقوصولًا إلى إيران وجنوبًا إلى اليمن، وهو ما يحول المعركة السياسية إلى معركة وجود وبقاء بالنسبة لحزب الله ومن خلفهطهران وكل دول وجماعات ومليشيات المحور الإيرانى وسيكون البداية بالرد الكلاسيكى المتعارف عليه من حزب الله“شارع مقابل شارع” من خلال أنصاره وجنوده في الشارع لإحباط إى تحرك ضده بدعم من التيار العونى الذي يمثلهرئيس الدولة العماد ميشيل عون.
لذلك قد نرى تحركًا على نطاق أوسع من إدارة الرئيس ماكرون ووزير خارجيته لزيادة مساحة الدعم والتأييد من كلالحلفاء وتوظيف كل العلاقات والتحالفات الجيدة بما فيها العلاقات مع إيران وروسيا والصين من أجل إنجاز تلكالخطوة مع محاولة للحصول على دعم أوروبي بل وتوسيع كبير للدور الأوروبي الذي يحترم النفوذ الفرنسي في لبنان ولايخشى منه في جذب لبنان بعيدًا عن المحور الإيراني خاصة الدور الألماني وقنواته المتعددة مع إيران، مع الحرص علىإبعاد أي ملامح لدور أو ضغوط إسرائيلية تزيد من قوة وشعبية حزب الله في هذا التوقيت.
وعلى الرغم من فشل البدايات إلا أن باريس ستسعى لتفعيل دور اللجنة الثلاثية التي تضم واشنطن وباريس ولندنالتي كلفت بمعالجة الوضع في لبنان في 17 أكتوبر 2017. وربما تكرر النموذج أو تضيف إليه عناصر وقوى أخرىبصيغ مختلفة تمكنها من إعادة هيكلة وتشكيل وترتيب المشهد اللبناني بما لا يخل بكل ما سبق ذكره من بنود المصلحةالفرنسية.
وستكون البداية كما تعهد ماكرون اليوم أمام اللبنانيين من خلال تنسيق حملة مساعدات كبيرة فرنسية وأوروبية ودوليةللبنان في الأيام المقبلة، مضيفا بأن لبنان يواجه أزمة سياسة واقتصادية وثمة حاجة لاستجابة عاجلة لها، مغازلا الشعباللبناني بتغريدة فور وصوله إلى مطار بيروت: “لبنان ليس وحيداً”.
ويبقى المشهد رهينة لكل المعطيات خلال الفترة القادمة ما بين السيطرة أو الانفلات، وهو ما يدعونا للتساؤل عن الدورالعربي في المعادلة اللبنانية على الآقل في مواجهة تمدد المحور الإيراني وهو ما يمكن تناوله في تحليل آخر.
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.