رحيل عزيزين في القضارف بسبب السيول في السودان

08:58 مساءً الخميس 20 أغسطس 2020
د. حسن حميدة

د. حسن حميدة

الدكتور حسن حميدة كاتب لأدب الأطفال واستشاري تغذية في المحافل العلمية الألمانية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
رثاء في رحيل الحاج عبد المجيد على التوم وإبنه رامي غرقا بمنطقة القضارف، "فيكما أرى أبي وأرى أخي - كونا مع الخالدين - وأنتم الشهداء" يكتبه د. حسن حميدة – ألمانيا

رثاء في رحيل الحاج عبد المجيد على التوم وإبنه رامي غرقا بمنطقة القضارف، “فيكما أرى أبي وأرى أخي – كونا مع الخالدين – وأنتم الشهداء” يكتبه د. حسن حميدة – ألمانيا

لابد لنا أولا أن نترحم على رحيل شهداء الماء، الراحل الحاج عبد المجيد علي التوم وإبنه رامي، اللذان رحلاء قبل يوم الأمس عن دنيانا الفانية غرقا في سيول الأمطار، بعد محاولتهم عبور خور بمنطقة “أم شرابة” وهما في طريق العودة من مشاريعهم الزراعية بمنطقة القضارف. حمل السيل الأثنين وأبعدهما، دون أن يتمكنوا من النجاة. نسأل الله تعالى أن يتغمدهم برحمته الواسعة، وأن يجعل مثاويهم روض من رياض الجنة، لا أذن سمعت ولا عين رأت. وأن يصبر أهلهم وذويهم في رحيلهم. إنهم لشهداء، كما هو في موت الغرق، موت الحريق، موت الحطام، الموت بمرض باطني كالإستسقاء، الموت بمرض الطاعون، والموت أثناء الولادة. ولرحمته تعالى في موت الولادة، حتى ولو كان الطفل المحمول من سفاح، كما ورد في تفسير حكيم. هنا تأتي شهادة الأثنين بالغرق في السيل، محمولين على ماء ندي وطاهر إلى الديار الباقية. يا لها من شهادة من دون حمل للسلاح أو قتل للأرواح – الشهادة التي لا يؤتى بها إلا السعداء من عباده الصالحين.

الراحل الحاج عبد المجيد علي التوم

الراحل الحاج عبد المجيد علي التوم

برحيل الأثنين يعم الحزن، الذي يترك فجوة كبيرة لا يمكن سدها بسهولة. وهذا للدور الذي لعبه الراحل في تسخير نفسه ووقته للعمل العام. وبشجاعته في مناهضة النظام الجائر. الشجاعة التي تمثلت في تصويته ضد إقالة والي الولاية السابق من دون حق. دوره الفعال في إتحاد المزارعين في المنطقة التي يزرع فيها. همومه بحقوق أخوانه وزملاءه المزارعين في التقاوي والوقود والترحيل والتسعير لما ينتجوه بدم حار، وعرق جبين متصبب. إنهم لأهل الخلاء، الذين لا يدري بحالهم إلا رب العالمين، ويحن على حالهم الطير في سماه، لما يبذلونه من جهد جهيد من أجل تأمين الغذاء لهم ولغيرهم من الناس. المزارع أينما كان هو المغزي الأول للشعوب، يتلوه الراعي. كم من مزارع، وكم من راعي ينعدم لهما الغذاء وهم في الخلاء، أو يتبقى لهم من ماء الشرب ما هو غير صالح إلى أن يغادرواه خالهم صابرين ومثابرين بجلد.

رحيلكم الأثنين رغم الشهادة الموعودة أحزنني. رحيل محزن، يحرك االعواطف ويهز المشاعر مهما تماسكت النفس وأبت ألا تنكسر. كم أتصور أن تأتوا بعد موسم زراعي، تفرحون بحصاده الوفير، لتطعموا منه اليتامى والأرامل وطلاب العلم وتلاميذ الخلاوي وحوارين المسائد والفقراء والمساكين. وكم لهم أن يفرحوا بجوال أو جوالين من الذرة التي تأتي لهم من عندكم، محمولة على أعتابكم وأكتافكم. يفرحون بها لأنها تأتيهم من مال حلال، وتهدى لهم كزكاة بخاطر طيب من زارعيها وحاصديها – وأنتم الكرماء، وأنتم الطيبين، كنتم في دياركم، والآن في ديار باقيات. إني لأرى فيكم أبي وأرى فيكم أخي، وكلاهما مزارع بسيط. يزرعون ويحصدون كما كنتم تفعلوا أنتم وفي كل عام. يتزكون مثلكم، وبنفس الطريقة، بطيبة ضمائر ورضاء نفوس. وبكوني من أهل النيل الأبيض، تبعدني عنكم المسافة وطول المشوار، عن منطقة القضارف التي لم أراها بعد. ولكن كل هذا لا يهم. عليكم أن تعرفوا في غيابكم: أنتم أهلي، دما ولحما، ويربطني بكم بلدي، وتربطني بكم حرفة أجدادي.

800x600fولولا بعدي الأبعد عنكم وعن بلادي لظروف الزمان، لأتيت وأديت الفاتحة فيكم كما يفعل أهل بلادنا الطيبين، بكل ترابط وتراحم. لأتيت وواسيت فيكم أسركم المفجوعة فيكم عن قرب لرحيلكم المفاجيء. أنتم وبرحيلكم وغيابكم، كنتم ومازلتم أبطال بلادي، همكم الأول والأخير، وإلى آخر رمق في حياتكم، هو توفير الغذاء تحت الحر والبرد، وتحت المطر والبرق لإنسان هذه البلاد، بل لتوفير القوت لحيوانها ولطيرها – فليكن كل هذا في ميزان حسناتكم. سوف يفقدكم أهلكم في كل أسرة صغيرة كانت أم كبيرة، سوف يفقدكم زملائكم وعمالكم في المشاريع الزراعية، سوف يفقدكم أصحابكم في دخول السوق و الخروج منه سويا، سوف يفقدكم الفقراء والمساكين بعونكم ومساندتكم لهم، وسوف يفقدكم المسافرون لبيت الله الحرام إذا نادى المنادي، لآداء الحج في كل عام. نسأل الله تعالى أن يلزم أهلكم وعشيرتكم ورفاقكم وأصحابكم الصبر الجميل. أرقدوا الأثنين قريري الأعين، هنيئين بشهادتكم، ومقامكم مع الصالحين والصديقين والخالدين بإذن الله تعالى. إنا لله وإنا إليه راجعون – صدق الله العظيم.

 

E-Mail: hassan _humeida@yahoo.de

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات