مدن الحرير ودروبه: سـمرقـند … تاريخ حي بين ثنايا الحكايات والعمران

11:48 صباحًا الإثنين 2 نوفمبر 2020
سوزان عابد

سوزان عابد

باحثة من مصر، مهتمة بمدن طريق الحرير

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
عيون على المدينة.. من وحي مشاهدات ابن بطوطة وابن عربشاه وكلافيجو

عيون على المدينة.. من وحي مشاهدات ابن بطوطة وابن عربشاه وكلافيجو

«سمرقند».. مدينة فيروزية ساحرة تتلألأ في آسيا الوسطى في القلب من أوزبكستان.. مدينة تَسلب القلوب قبل أن تدركها الأعين؛ لجمالها الآخاذ وسحرها الغامض. ما أن تسمع الأُذن موسيقى مخارج حروفها؛ يتطوع العقل تلقائيًّا برسمها وتصويرها كصورة مفككة يعاد تركيبها بأفاريز وقطع من البلاطات الخزفية الفيروزية اللون، ساطعةٌ مشرقةُ تحت سماء المدن التي تُعرف بـ «بلاد ما وراء النهر»؛ فتتراص أحجار قبابها التي نُسبت إلى اسمها فاشتُهِرَت بـ «القباب السمرقندية»؛ لتتشكَّل صورة ذهنية واقعية وليست متخيلة لمدينة نابضة بالحياة، لا يستطيع العقل أمامها أن يتوقف عن دهشته؛ فيتسأل متعجبًا عن صاحب هذا الجمال وصانعه ومَّن كان له فضلٌ وأيادٍ بيضاء على هذه المدينة الزرقاء؟!

تحمل «سمرقند» بين دروبها حكايات كثيرة؛ كجُعبة ساحر ممتلئة بالنوادر المكنونة في هيئة مآذن ومساجد ومدارس، ودروب، وبقاعٍ.. وإن كانت كتابة تاريخ المدن والتعمق فيها، وأدب الرحلات بشكل عام له مذاق وسحر مختلف يغُري دائمًا على الكتابة والاستزادة في تفاصيله؛ فقراءة التاريخ أمر ليس بيسير كما يظن البعض. فالتاريخ له وجهات نظر مختلفة؛ تختلف باختلاف الكاتب والقارئ أيضًا. وقد يكون من الصعب أن يسجل ويدوَّن اثنان نفس الحدث بنفس الروح وتفاصيل السرد، وكذلك أن يقرأ اثنان نص واحد ويخرج كل منهما برسالة واحدة متطابقة ومضمون متشابه. فالهوى والميل الشخصي والنفسي للكاتب والقارئ مختلف؛ كبصمة الأصابع التي لا يمكن أبدًا أن تتطابق. وكذلك «سمرقند»؛ لم تكن لها بصمة واحدة تتطابق في كتابات الرحالة الذين مروا بها رغم أنها المدينة نفسها؛ إلا أن كلٌ كان يراها بعينه وبعين عصره.

من هنا تأتي أهمية جولتنا اليوم في مدينة سمرقند والتي ستكون بعيون وخطى زوار سبقونا إليها؛ قام بها رحالة طافوا بلدان كثيرة؛ فميزوا «سمرقند» وأسهبوا في وصفها في فقرات سُطرت بحروف لامعة تليق بضي المدينة الساحرة والبعض الآخر لم يفي المدينة حقها.. من هؤلاء الرحالة وقع الاختيار على ثلاث، هم؛ ابن بطوطة، وابن عربشاه، والإسباني كلافيجو.. واختياري هذا لأسباب عدة لها وجاهتها؛ كما سنرى في السطور القليلة القادمة.

«سمرقند» في عيون ابن بطوطة

في رحلته الطويلة الماتعة لاستكشاف غرائب الأمصار وعجائب الأسفار؛ مر ابن بطوطة بمدينة سمرقند فخصها بهذه الكلمات: «….. وهي من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالاً، مبنية على شاطئ وادٍ يعرف بوادي القصارين. عليه النواعير تسقي البساتين، وعنده يجتمع أهل البلد بعد صلاة العصر للنزهة والتفرج، ولهم عليه مساطب ومجالس يقعدون عليها ودكاكين تباع فيها الفاكهة وسائر المأكولات ….. وكانت على شاطئه قصور عظيمة وعمارة تنبئ عن علو همم أهلها؛ فدثر أكثر ذلك وكذلك المدينة خرب كثير منها ولا سور لها ولا أبواب عليها وفي داخلها البساتين ….. وأهل سمرقند لهم مكارم أخلاق ومحبة في الغريب وهم خير من أهل بخارى ….. وبخارج سمرقند قبر قثم بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عن العباس وعن ابنه وهو المستشهد فيها حين فتحها ….. يخرج أهل سمرقند كل ليلة اثنين وجمعة إلى زيارته، والتتر يأتون لزيارته وينذرون له النذور العظيمة ويأتون إليه بالبقر والغنم والدراهم والدنانير فيُصرف ذلك في النفقة على الوارد والصادر ولخدام الزاوية والقبر المبارك ….. لم يغير التتر أيام كفرهم شيئًا من حال هذا الموضع المبارك بل كانوا يتباركون به لما يرون له من الآيات …..».

«سمرقند» في عيون ابن عربشاه

أسهب شهاب الدين بن عربشاه في وصف مدينة سمرقند، في كتابه: «عجائب المقدور في نوائب بني تيمور»: «……. فيما وراء النهر؛ من المدن المشهورة والأماكن المعتبرة والمذكورة سمرقند ومسورها قديمًا على ما زعموا اثنا عشر فرسخًا وكان ذلك على عهد السلطان جلال الدين قبل جنكيز خان …. ورأيت حد مسورها من جهة الغرب قصبة بناها تيمور وسماها دمشق ومسافتها عن سمرقند نحو نصف يوم …. والناس إلى الآن يحفرون سمرقند العتيقة ويخرجون دراهم وفلوسًا سكتها بالخط الكوفي فيسبكون الفلوس ويخرجون منها فضة….. ثم أن تيمور خرج من سمرقند إلى ضواحيها، وجعل يتنقل في جوانبها ونواحيها، وبنى حواليها القصبات سماهن بأسماء كبار المدن والأمهات…… …..مكث (الأمير تيمور) في سمرقند مشغولاً بإنشاء البساتين وعمارة القصور وقد أمنت منه البلاد واطمأنت الثغور فلما انتهت أموره وبلغ الكمال قصوره، أمر بجمع جنده إلى سمرقند ثم أمرهم أن يصنعوا لهم قلانس ابتدعها، وعلى صورة من التركيب والتضريب اخترعها فيلبسونها ويسيرون، وما بين إلى أين يصيرون، ليكون ذلك لهم شعارًا… وأنشأ في سمرقند بساتين عديدة، وقصورًا شامخة مشيدة، كلٌ له ترتيب غريب ووضع أنيق عجيب، أحكم أساسها وطُعِمَ بأفخر الفواكه غراسها، سمي أحدها بستان إرم والآخر زينة الدنيا، والآخر جنة الفردوس، والآخر بستان الشمال والآخر الجنة العليا، ثم إنه هدم مصرًا وبنى في كل بستان منها قصرًا، وصور في بعض هذه القصور مجالسه وأشكال صورته تارة ضاحكة وأخرى عابسة، وهيئات مواقعاته وصور محاضراته، ومجالس صحبته مع الملوك والأمراء والسادات والعلماء والكبراء ومثول السلاطين بين يديه، ووفودها بالخدمات من سائر الأقطار إليه، وحلق مصايده وكمائن مكايده، ووقائع الهند والدشت والعجم وصورة انتصاره وكيف انكسر عدوه وانهزم، وصورة أولاده وأحفاده وأمرائه وأجناده ومجالس عشرته وكاسات خمرته، وسقاة كاسه، ومطربي إيناسه، وتغزلات مقاماته ومقامات تغزلاته، وحظايا حضرته وخواتين عصمته….. إلى غير ذلك مما وقع له صورة حادثة في الممالك مدى عمره المتقارب المتدارك، كل ذلك كما وقع ووجد، ولم ينقص من ذلك شيئًا ولم يزد، وقصد بذلك الإفادة لمن كان في عالم الغيب عن أصوله بالشهادة، فكان إذا وجه إلى مكان وخلت سمرقند من الظلمة وأعوان الشيطان، تخلو البساتين فيتوجه إليها أهل المدينة الأغنياء والمساكين فلا يوجد أعجب متنزهًا منها ولا أحسن ولا أوفق مرتفقًا ولا آمن ….. وأما ثمارها الطيبة فإنها مسبلة، بحيث إنه لا يباع منها قنطار بخردلة، وأنشأ في ضواحي سمرقند ومعاملاتها قصبات سماهن بأسماء كبار البلدان والأمهات كمصر ودمشق وبغداد وسلطانية وشيراز عرائس البلاد وأنشأ بستانًا في ضواحي سمرقند على طريق الكشف، وبنى به قصرًا سماه تخت قراجا يحكى أن بعض مشيدي عمارته ضاع له فرس واستمرت ترعى في البستان ستة أشهر حتى وجدها…».

93fad733764320.56b75505df06d«سمرقند» بعيون غربية؛ تُرى.. هل كانت محايدة؟

زار الإسباني كلافيجو مدينة سمرقند – بصحبة مجموعة من السفراء من ممكلة قشتالة في عهد هنري الثالث – في الربع الأخير من عام 1404م. ودوَّن كلافيجو خط سير الرحلة وأفرد صفحات كثيرة ليومياته في سمرقند، نستقطع منها بعض الفقرات: «في 30 أكتوبر وصلنا إلى سمرقند حيث كان العمل يجري في بناء بعض المنازل الجديدة والمساجد التي أمر ببنائها الأمير تيمور، ومنها مسجد يجهز ويعد لدفن واحد من أحفاده هو محمد سلطان ميزرا الذي لقي مصرعه في تركيا، وقد تفقد تيمور سير العمل والبناء فوجد أن القبو الخاص بالمسجد منخفض بعض الشيء فأمر بهدمه وإعادة بنائه من جديد بقياسات أكثر ارتفاعًا، وبالفعل كان العمل قائمًا ليل نهار وتم في عشرة أيام فقط …… وقد شيد الأمير تيمور بعض القرى الصغيرة (الضواحي) حول سمرقند وأطلق عليها أسماء أشهر العواصم (بغداد – دمشق – مصر- شيراز – سلطانية) لتبدو سمرقند كواسطة عقد تتوسط كبريات المدن في العالم الإسلامي ……. وتكتظ سمرقند بالتجار والتجارة، فالتجار يأتون طوال العام إلى المدينة من كل حدب وصوب من خطاى والهند وبلاد التتر ومدن أخرى كثيرة؛ فأمر الأمير تيمور أن يعد ويجهز سوق مسقوف للتجار للبيع والشراء بداخله بمثابة بازارًا كبيرًا، وبالفعل تم هدم كثير من المنازل لعمل شارع تجاري وتم البدء في تجهيز الأرض والبناء تم في عشرون يومًا فقط وهو أمر عجيب ومثير للدهشة….. ومدينة سمرقند مسطحة إلى حدًّا ما ومسورة وهي أكبر قليلاً من مدينة إشبيلية. وخارج السور توجد عدة ضواحي مكتظة بالمنازل والسكان ويباع فيها كل شيء من لحوم  وطيور وفواكه… المدينة محاطة بالحدائق من كل اتجاه وهذه الحدائق يتم ريهَّا بقنوات من المياه العذبة، وتتميز بغناها بمحاصيل شتى أشهرها الشمام الذي يمتاز بكبر حجمه وجودة مذاقه ويُبدع أهل المدينة في حفظه وتجفيفه من العام للعام بتقطيعه وتركه يجف تحت أشعة الشمس….. سعى تيمور لجعل مدينته مدينة ملوكية فأمر باستقدام مهرة الصناع والحرفيين من كل البلدان التي أغار عليها؛ فمن دمشق استقدم نساجو الحرير وصانعي الزجاج والخزف، ومن تركيا استقدم المعماريين والمفضضين (المشتغلين بالفضة والأواني الفضية) وصناع الأدوات القتالية والرماح والسهام وغيرهم من العمال الذين وصل أكثر من ألف عامل فأصبحت المدينة تجمعًا كبيرًا لمهرة البلدان جميعًا».

«سمرقند»..مدينة واحدة ورؤى متعددة

من  واقع الإشارات الثلاث السابقة؛ نجد أن صورة المدينة قد اختلفت عند ابن بطوطة عن رواية كل من شهاب الدين بن عربشاه وكلافيجو، واللاتي تبدوان لوهله أنهما روايتان متشابهتان (ابن عربشاه وكلافيجو). إلا أن تحليل مضمون تلك النصوص يكشف عن مضامين مختلفة لا بد من أن تؤخذ بعين الاعتبار عند القراءة المتأنية والاستشهاد بتلك السرديات وتفنيدها. فقد جاءت رواية ابن بطوطة حقيقية وصادقة، لم يبخس المدينة حقها. فقد زار ابن بطوطة سمرقند في ثلاثينيات القرن الثامن الميلادي/ الرابع عشر الميلادي، وجاءت كتابته عنها مقتضبة في أغلب الأحيان، إلا أنها تعكس جانب مهم من تاريخ المدينة في فترة تاريخية حرجة عقب سقوط المدينة في يد المغول وتأسيس دولة المغول الجغتائين؛ الأمر الذي انعكس سلبًا على حال المدينة وعمارتها. ونتوقف كثيرًا عند إشارة ابن بطوطة ومقارنته لأوضاع «سمرقند» قبل حكم المغول الجغتائيين وأثناء حكمهم. وهو ما أشار إليه تميزًا لهم كعنصر وافد على المدينة بـ «التتر».

أما ابن عربشاه، وكلافيجو فهما شاهدان معاصران لبعضهما البعض، ولبناء المدينة وتعميرها أيضًا؛ فكلاهما زار سمرقند في فترة حكم الأمير تيمور (المعروف بـ تيمورلنك). وقد جاءت كتابات كل منهما بشكل مغاير؛ تتشابه في القليل من التفاصيل، وتتباين بشدة في الأعم والأغلب؛ عكس ما يبدو للقارئ لأول وهلة، ومن هنا تأتي المفارقة التي تزيد جولتنا غموضًا وتشويقًا.

فابن عربشاه كتاباته مكبلة بروح الانكسار والهزيمة التي لحقت بالشام على يد الأمير تيمور؛ وهو واحد من أهل دمشق؛ وشهد وقائع تدمير مدينته الأثيرة موطن نشأته ومحل ميلاده وذكريات صباه، تجرع مرارة قتل وتشريد أهالي دمشق؛ فجاءت كتاباته عن عاصمة الأمير تيمور – التى دخلها أسيرًا – تحمل في طياتها أسى ومرارة فمن الصعب أن يرى الجمال ويتحمس له ولحركة البناء التي دشنها تيمور عقب مقتل ناسه وتدمير مدينته ومدن أخرى لا تقل ثراءً عن سمرقند. وجاء هذا واضحًا جدًا في العناوين الرئيسية التي عنون بها ابن عربشاه فقراته عن مدينة سمرقند، ومنها: «سكون ذلك الزعزع الثائر وهدوء ذلك البحر المائر لتطمئن منه الأطراف فيحطمها كما يريد ويدير بها الدوائر». وكذلك إشارته لارتياد أهالي المدينة وعامته من البسطاء والفقراء للحدائق واستمتاعهم بها عقب خروج (الظلمة وأعوان الشيطان)، ومرارته واضحة للعيان في الفقرات التي وصف فيها مجالس تيمور وصوره ووقائع غاراته على البلدان. وهي كلها أمور لا بد من أخذها وتفنيدها بحذر، بخلاف الفقرات التي تعطي معلومات مباشرة لا يشوبها شيء.

في حين جاءت كتابات كلافيجو مختلفة؛ فهو من الأساس كان يشاهد ويسأل بغرض التدوين والتسجيل الحي في شكل يوميات، وهي نقطة تؤخذ في الحسبان، يتضح منها سبب الثراء الفني واللغوي والمعلوماتي الذي تميزت به كتاباته. ففي الوقت الذي كانت سمرقند جزء من تدوينات وفقرات لابن بطوطة وابن عربشاه وسط حديث طويل عن التاريخ والسياسة؛ جاءت كتابات كلافيجو بعين المستكشف؛ سائح وافد يريد معرفة بواطن الأمور وأسبابها متجاهلاً البُعد السياسي للأحداث. فخرج بسرد طويل لرحلة مصورة بالكلمات من قادش في جنوب إسبانيا مرورًا بمدن عدة ووصولاً إلى سمرقند. فنجد أنه دائم المقارنة والقياس، ومسهب في التفاصيل؛ كأنواع الطيور واللحوم وأوزانها، وتفنيد الحدائق وثمارها، وطقوس البلاط التيموري والتي أوردها ابن عربشاه أيضًا ولكن دون تعمق في الوصف كأن يذكر مثلاً بأن تيمور ابتدع قلانس وتدبير عجيب لرجاله تميزًا وشعارًا لهم. في حين تعمق كلافيجو في وصف الملابس والفراء ومأدب الطعام وأصناف الطعام التي تقدم فيها. كما أدرك كلافيجو أن الأمير تيمور له هدف استراتيجي يسعى لتحقيقه بجعل عاصمته مميزة تشهد بعظمته ومكانته وهو ما جاء في هيئة ضواحي بأسماء كبريات المدن تتمركزهم عاصمته سمرقند. وزيادة في التدقيق أخذ كلافيجو يعدد أسماء المساجد والقصور وإشراف تيمور بنفسه على سير العمل، وتأكده من ارتفاعات البنيان التي تعكس رغبته بأن تضم سمرقند أكبر وأعلى وأزهى الأبنية لتكون محل الإعجاب. وقد أدرك كلافيجو أن زيارته هذه تاريخية بامتياز فهو شاهد حي معاصر لحركة البناء والتعمير التي دشنها تيمور عقب الفراغ من تسوير المدينة بسور حصين بغرض دفاعي أولاً ثم اتجه إلى التحصين الداخلي بقلعة دفاعية حصينة، وأخيرًا الاهتمام بالقصور والحدائق والمتنزهات.

sarre1901tafeln_0099قد يظن البعض أن كلافيجو في سرده لم يوجه أية انتقادات لتيمور وكان منحازًا له وبالتالي تتساوى كتابته مع ابن عربشاه في التحيز وإن كان كل منهم منحازًا في اتجاه مخالف. إلا أن كلافيجو كان يروى بعين محايدة، أشار إلى مساوئ كثيرة اقترفها الأمير تيمور ومنها ذكر الخراب الذي حل بالبلدان التي استقدم منها تيمور مهرة صُناعها وحرفيها، وكذلك نقل بدقة بالغة تذمر أهالي الشارع التجاري الذي شقه تيمور دون تعويض أهله عن المنازل والحوانيت التي هُدمت بغرض توسيع الشارع وتعبيده ليفي بالغرض. كما أورد كلافيجو محاولاتهم للقاء تيمور في قصره وخيمته وكيف بالأخير يخلف موعده أكثر من مرة واصفًا ساعات الانتظار الطويلة التي أمضوها أملاُ في اللقاء والتي وضح سببها الرئيسي وهو مرض الأمير تيمور الشديد والذي ظن رجال دولته أنه على فراش الموت يحتضر؛ وإن كانت وفاته جاءت بعد ذلك بثلاثة شهور في 17 فبراير 1405م في مدينة أُترار وليس بسمرقند.

في الختام.. نحن هنا لسنا بصدد إصدار أحكام قيمية وأخلاقية على كتاباتهم جميعًا ،بل الغرض الرئيسي هو لفت الأنظار إلى كيف يُكتب التاريخ، وأبعاد كتابته، والسياق الذي خرج منه؛ لكي نقرأه بعين واعية ناقدة. فكيف لنا أن نلوم ابن عربشاه الأسير في مدينة تيمور أن يراها بعين زائر جاء في زيارة قصيرة راحلاً مرة أخرى إلى بلدته وأهله. ولا أن نلقي باللوم على ابن بطوطة بأنه لم يفرد لسمرقند مزيدًا من السطور والفقرات التي تسد نهمنا المعرفي بالمدينة في وقت كانت المدينة نفسها جريحة تتعافى من واقع مرير ألم بها على يد جنكيز خان وأبنائه ورجالهم. فلم يجد ابن بطوطة أفضل من تجمع شاه زنده الكائن في الجزء القديم من المدينة، والمعروف باسم «أفراسياب»؛ ويضم مقابر مختلفة يرجع تاريخها ما بين القرنين 6-9هـ/ 12- 15م – كانت نواة هذا التجمع قبر «قثم بن العباس» بن اعم الرسول – ليسجل مشاهداته عنه وعن زيارة الأهالي له. فلم تكن سمرقند الجميلة البهية المزدانة بالعمائر قد ظهرت للنور بعد. وعلى كلٌ فتعدد المصادر واختلافها يفي دائمًا برسم صورة حية أكثر قربًا للواقع الذي كان.

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات