الألَم الإيجابي المُبدع … إنها البوابة السحرية الواسعة المفتوحة على الساحات اللانهائية للإبداع, ونحن لا نملك إلا أن نُبارك هذا الألم، الذي يُعبّر عن نفسه في مؤلف موسيقي بديع، أو في لوحة تشكـيلية جميلة، أو في قصيدة شِعرية محلقة، أو في قصة قصيرة مدهشة .
قد يكون هذا الألم شفيفًا إلى حدِّ الشّجَن الحالم, على نحو ما حدثتنا الرِّوائية الفرنسية الشهيرة (فرنسوا ساجان) في روايتها البديعة “مرحبـًا أيها الحزن”، حين أكدت أنها تتردد في أن تُسمي ما تحسه من شجن شفيف وألَم حلم حزنًا, وقد يكون حادًّا موجعًا إلى درجة النزف، على نحو ما نجد في هذه المجموعة القصصية، التي تثير العديد من الأشجان والآلام، من حيث هي تسيل الكثير من الدماء على الصفحات.
المؤلفة الأستاذة عزة أبو العز تتعامل مع كل امرأة باعتبارها وردة جميلة رقيقة، وتتعامل مع كل ما تتعرض له باعتباره ألمًا نازفًا؛ فالزوجة التي تُعاني غرور زوجها وتجاهُله هي امرأة متألمة أو وردة نازفة، والفتاة التي تكون مُجبرة على الاختيار، ما بين قسوة زوجة الأب، وتحرّش زوج الأم هي امرأة موجعة أو وردة نازفة، والصبية التي تبحث عن حقيقة نسبها، لكي تتخلص من نسبتها إلى أمها، ومناداة الآخرين لها بـ”بنت عزيزة”، هي صبية محترقة أو وردة نازفة .
وهكذا تمضي بنا الأديـبـة عزة أبو العز، لتستعرض شرائح الأوجاع والآلام والهموم التي تُعانيها الطفلة والفتاة والصبية والشابة والزوجة وحتى الجدة، والتي تجعل كل واحدة منهنَّ امرأة متألمة أو وردة نازفة .
الرجال عند عزة أبو العز يمثلون مصدرًا دائمًا للألم، الذي يتجسد حينًا في التعالي والتجاهل والتسفيه، وحينًا في النفاق، وحينًا في الرغبة في العلاقات اليسيرة المتاحة، التي لا تحمل عبئًا، ولا تُكلّف جهدًا، ولا تضع في رقابهم مسئولية, إلى غير ذلك من مصادر الإيلام.
ربما الاستثناء الوحيد يتمثل في قصة “حب البنات” التي يوحي بناؤها النفسي والاجتماعي والفني بأنّ الرجل فيها يمثل تجسيدًا فنيًا لشخصية الأب في حياة المؤلفة نفسها؛ فالطريقة التي نسجت بها القصة تبرر كوْن هذا الرجل هو الرجل الوحيد الذي بدا إيجابيـًّا وسط غابة من الرجال السلبيـين، لا بمعنى عدم القدرة على الفعل، بل بمعنى الإغراق في الأفعال المؤلمة الموجعة.
والذي قرأ المجموعة الأولى لعزة أبو العز، والتي تحمل عنوان “بوح الروح” ورأى فيها طيْفَيْ الأب والعمَّة وهما يحتلان المساحة الكبرى على خريطة المجموعة، سوف يكتشف بيُسر وبساطة أن بطلة “حب البنات” هي هي العمة في “بوح الروح”، وأن بطلها هو الأب في بوح الروح.
هل يمكن بعد ذلك اعتبار المجموعة لونًا من أدب الدفاع عن المرأة أو بالتعبير الأجنبي الشائع (الفيمينيزم)؟
يقيني أننا لا نستطيع أن نجيب بنعم، لأن رائحة الألم الشعوري والفني تتغلب كثيرًا على رائحة القضية الفكرية والتوجُّه الأيديولوجي.
نحن هنا أمام استمرار لفكرة “بوح الروح”، لكنه استمرار أوسع من ناحية، وأضيق من ناحية أخرى، هو أضيق لأنه اختار أن يحصر ذاته في دائرة الألم، وهو أوسع لأنه تمرد على حدود الروح واستحضر الحضرات الخمس للإنسان (القلب، العقل، النفس، الجسد، فضلاً عن الروح) .
سوف نلاحظ أن قلم عزة أبو العز صار أجرأ في بعض المناطق الحسية التي تستدعيها المواقف الدرامية التي تمر بها بطلات قصصها، لكنها تظل جرأة محسوبة معتصمة بالبناء الأخلاقي والنسق الاجتماعي الذي يحكم المؤلفة.
هل ينبغي أن نشير إلى سلاسة اللغة في السرد ومزجها بين الفُصحى والعاميّة في الحوار؟
وهل يجوز أن نتحدث عن الصورة واللغة المجازية وطبيعة بنائها ؟
وهل يحق لنا أن نشيد بالتوازن بين الاستخدام البلاغي والتدفق القصصي، بحيث لا تصبح البلاغة عبئًا ثقيلاً على لغة القصّ؟
إنها أسئلة يحسن أن يشاركنا القارئ الكريم في الإجابة عنها، بل وفي تقرير مدى مشروعية طرحها.
تحية للكاتبة، ودعوة للقارئ لأن يسمح لعبير الوردة أن يملأ رئتيه، وألا يجعل دماء النزف تحُول بينه وبين الاستمتاع بهذا العمل القصصي.
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.