حكايةٌ للضَّيفَةِ (قصة قصيرة)

09:57 مساءً الأحد 27 ديسمبر 2020
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بفخرٍ استقبلَت- لأولِ مرةٍ- المحاميةُ الشَّابَّةُ التي تخرجَت حديثًا زميلتَها المحاميةَ الأربعينيّةَ التي تتدرَّج عندَها. وبعدَ أن أزاحَتْ لوحَ الخشبِ المتآكِلِ الذي يغلِقُ مدخلَ السّطَيْحَة الخلفيَّة للبناءِ المكونِ من ستَّةِ طوابقَ، والتي تصرُّ المحامية المتخرجةُ على تسميَتِها “حديقةً”،  فتَحَتْ بابَ الغُرفةِ الأولى الممدودة أرضها بسجادةٍ كبيرةٍ تغطِّي كاملَ البلاطِ، وحولها صُفَّتْ طراريحُ معرَّقَةٌ خلفَها مساندُ من القَشِّ الملبَّسِ بقماشِ الطّراريحِ نفسِهِ.

وعلى امتدادِ جدارِ بابِ الغرفةِ وُضِعَتْ خزانةٌ بنّيَّةٌ كبيرةٌ وصلَتْ حتى السّقفِ. وكانَت الغرفةُ الثَّانية تشبه الأولى، وإن اختلفَ لَوْن ستائرِ نافذتيهما المطلّتينِ على “الحديقةِ”، فالأولى ستائرُها بيضاءُ ناصعةٌ طُرِّزَت بخيوطٍ DMC زرقاء، والثَّانية ستائرُها “الفوال” لونُها بيج فاتح من دونِ تطريزٍ. ولم يكنِ المطبخُ الذي بنيَ في “الحديقةِ”- ولا تتجاوز مساحتُه مترين مربَّعين- ليتَّسِع لأكثر من شخصٍ كان صديقتها التي أخرجَتْ من البرَّادِ ضيافة “الخبيصة البيروتية”، وهي عبارة عن مهلبية النِّشاء بالماءِ والسُّكر وماء الزَّهر، ولكنْ من دونِ مكسَّراتٍ، وقدمتْها للضَّيفة التي أجَلَسَتْها على كرسيٍّ بلاستيكيٍّ أحمرَ، وجلسَت قبالتها على كرسيٍّ بلاستيكيٍّ مختلفِ الشَّكلِ واللَّونِ والحجمِ، ما بدا واضحًا أنها كراسٍ مُستعارةٌ أو مأخوذةٌ من أَماكنَ متعددَةٍ، خاصة أن الطَّاولة البلاستيكيَة  الملصَقة إحدى رِجْليْها كانت بنيَّةِ اللَّونِ. وبغبطةٍ قالَت:

  • هنا نعيش مذ وُلدنا: أربَعُ صبايا كلُّهن تخرَّجْن أو يَكَدْنَ،  وأمِّي طبعًا. 

وأشارَت إلى تَنَكاتِ الحليبِ المصطفَّةِ حولَ جدرانِ السّطَيْحَةِ، والتي زرعَتْ وردًا وعطرةً، وقالَت:

-وهذه مزروعاتُ أمي، تعتني بها وتحبُّها كما بناتها. 

وفجأةً، دخلَ رجلٌ ثمانينيٌّ قصيرُ القامةِ، أصلَعُ الرَّأسِ، كبيرُه، قديمُ الثِّيَاب نظيفُها، فألقى تحيَّةً سريعَةً على الضَّيفةِ، وانسحبَ إلى إحدى الغرفتينِ وأغلقَ بابَها وراءَه. وبعدَه مباشرةً دخلَت سيدةٌ سبعينيَّةٌ بيضاءُ ممشوقةُ القامةِ، على وجهِها بقايا جمالٍ لافتٍ، رحَّبَت أيضًا بالضَّيفةِ، ثم اعتذرَت منها لتلحق بالرَّجل، فسارعَت إلى التّعليقِ: 

  • إنها أمي!

فردَّدَت الضَّيفة: 

  • جميلةٌ جدًّا.

وباعتزازٍ قالَتِ الشّابَّةُ:

  • كان يُضْرَب المثَل بجمالِها في الضَّيْعة. حتى إِن أبي، وكانَ من أثرى أثرياءِ القريةِ، لم يحلمْ رغمَ فقرِها أن تقبلَ بالزَّواجِ منه، ولكنها وافقَتْ. ولكنه- بكل أسف- كان عاقرًا، فخيَّرها بعد سنواتٍ بين أن تظلَّ زوجتَه أو يطلقَها. ففضَّلَت أن تكونَ أُمًّا على أنْ تكون زوجةً. وهكذا كان!

وتابَعَت بعد توقُّفِ لحظة:

  • صحيح أن والدي كان غنيًّا جدًّا، وزوجها الثَّاني- الّذي دخلَ قبلَ قليلٍ- يعملُ ناطورًا لهذه البنايةِ مذ غادرَ الضّيعَةَ إلى بيروتَ قبل ثلاثينَ سنةً، لكنَّها حققَّت حلمَها بالإِنجابِ. 

غصَّتِ الضَّيفة بـ”الخبيصَةِ”، وفشلَتْ في فهْم حكايةِ زميلتِها، لكنَّها لم تسألْها عنْها أي سؤالٍ. 

One Response to حكايةٌ للضَّيفَةِ (قصة قصيرة)

  1. د. إيمان بقاعي رد

    27 ديسمبر, 2020 at 10:12 م

    شكرا

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات