الحكي الجميل وأهميته للأطفال في سن مبكرة

03:33 مساءً الخميس 7 يناير 2021
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

(تحية إلى روح جدتي مهيبة بكداش)

كي لا يُظَنَّ أنني أتحدثُ عن شخصية نمطيةٍ[1] خيالية؛ أقول: إنني أتحدث عن شخصية حقيقية لم يكن تأثيرُها عليَّ وحدي- كوني إحدى حفيداتها- إذ إنَّ أطفال العائلة جميعًا، صبيةً وفتياتٍ، استمتعوا بحكايات جدتي لأمي والتي تجاوزت خمسين حكايةً بما فيها قصص القرآن الكريم التي كانت تقصها علينا بأسلوبٍ ولا أحلى[2].

والغريب في أمر جدتي، أنها كانت هي التي تدعونا إلى جلسات الحكايات، فما كنّا إلا ملبّينَ نداءها المعجونَ بالشّغف الذي كان ينعكسُ علينا شغفًا أيضًا.

ومن أدواتها العجيبةِ الغريبةِ: زمن الحكاية ومكانها.

أما الزَّمان، فهو: قبيل النَّوم، والمكان: سريرها العريض الذي كانت تسميه بفخر: “سرير العائلة”، بشراشفه البيضاء النَّاصعة، وأغطيته التي تنبعث منها رائحةُ الصَّابون العابقةُ في أجواء غرفتها كما تعبقُ أحداث حكاياتها.

وعلى رؤوس أصابعها، كانت تتجه إلى “سرير العائلة” لتندسَّ وسطنا بقميص نومها المزهّر بعد أن تطفئ أنوار البيتِ وتغلق باب الغرفةِ، وتهمس بصوتها المتهدجِ كمن تبوح بسرٍّ خطيرٍ خطيرٍ:

  • لن نفتحَ الباب لأي ضيفٍ يمكن أن يقطعَ علينا حكايتنا!

ولم يكن قولُها هذا مجردَ “موقفٍ” تصطاد به جمهورَها وتتراجعُ عنه عند أولِ طرقةٍ على باب البيت الخارجي، بل كانَ فعلًا منَفَّذًا، يزيد إعجابَنا بها، هي التي كانت تفضّل جمهورَ (الحكيِ الجميلِ) من الصغار على زوار (الحكي)- من غير نعتٍ- من الكبار.

وأستعير سرَّ نجاحِ جدتي في (حكيها الجميلِ) الشّفهي، لأقولَ: إنَّ سرَّ الشَّغفِ نفسَهُ قادرٌ أن يشدَّ أيضًا جمهورًا من الصِّغارِ ذوي الذَّائقة الأدبية الرَّفيعةِ إلى قصة مكتوبة ومرسومةٍ،  حكيُها المدوَّنُ لا يقلُّ عن الحكي الشفهيِّ الجميلِ، ومثلها تكونُ قادرة على تنمية الخيال والفكر والإبداع عند قارئها ومتصفِّحِ لوحاتها.

لكنني أتساءل اليوم- وأنا كتبت أكثر من مئة وخمسين قصة للأطفال والنَّاشئة وطبعتها في دور نشر كثيرة في دمشق وبيروت وصيدا وكانَ آخرها تجربة جميلة أعتز بها مع دار الهدهدِ  في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي (مغامرات عطلة الربيع): 

هل كانت جدتي، حين تحكي لنا (حكيها الجميلَ) قبل النَّوم، تصنفُ مسبقًا أهداف حكاياتها: وطنية، أو ثقافية، أو معرفية، أو اقتصادية، أو عملية، أو اجتماعية، أو إنسانية،  أو روحية، أو أخلاقية…… كما يصنفها أكاديميونا وتربويونا الذين وضعوا أيديهم على (أدب الطِّفل) قبل (أدباء الأطفال) أنفسِهم، مطالبينَ إياهم أن يركزوا على هذه القيمِ قبل التركيز على (الحكي الجميل)؟

وهل خطَّطَت جدتي مسبقًا، حين كانت تحكي لنا (حكيها الجميلَ) قبل النَّومِ للطَّلب منا صباح اليوم التَّالي أن نجيبَ عن أسئلةٍ وجوديةٍ تُنقِصُ من علاماتنا إن لم نُجِدِ الإجابةَ عنها؟

هل خططت جدتي لصنعِ “خليفةٍ” لها، يروي حكاياتها فلا تموتُ الحكايةُ ولا تموتُ معها جدتي؟ 

 أما الإجابات عن هذه الأسئلةِ، فهي أن جدتي لم تصنف، ولم تخطط، ولم تصنع خليفةً، بل حكت (حكيَها الجميلَ) لأجلِ (حكيِها الجميلِ)!

من هنا، فإننا- ككتَّاب (قصص أطفال) ورواة (حكايات)- نطلب من التَّربويين الأكاديميين أن ينظروا بعين الرِّضا إلى الحكي القائم على الخيال[3] بأنواعه، والمغامرة بأنواعها، والشّخصيات المشاغبة بأنواعها، والمرح اللَّامحدود، واللَّعب اللانهائي، وتذوق الجمال مهما كانت الطّرق إلى هذا التَّذوق عجيبة غريبة، وإلى حقوق الطّفل في عدم الحد من ممارسة الهوايات الفنية والأدبية والفنية التي يعبر الصِّغار عنها رسمًا وموسيقا ورياضة بأشكال قد لا تروق لبعضهم أو كلِّهم، كونها لم تكن أيامهم موجودة، ولم يسبق أن قرؤوا عنها في كتبهم المدرسية، متمنين عليهم- لو أرادوا التّدخل- أن يكتفوا بغربلة (الحكايات الجميلة) من بعض العنف [علمًا أن الحكايات الجميلة التي طالما استمتعنا بها صغارًا كانت مليئة بالذِّئاب والغيلان إلى درجةٍ آما فيها بأن حكايةً بلا ذئبٍ يهدد أمنَ البطلِ ليست حكايةً]، والاكتفاء بتحديد الأعمار التي تتوجه الحكايات بها إلى قرائها بناء على تقسيم الأطوار التي على كاتب الأطفال أن يلم بها إلمامًا مفصلًا ويأخذها بعين الاعتبار[4]، رغم أنها تمثل اتجاهات معيارية[5].

علاقة  الطّفل بـ (الحكي الجميل)

يهتم الأطفال بالحكاية في مراحل نموهم الأولى، ففي مرحلة الرّضاعة [من الأسبوعين حتى آخر العامين]، يمكن (للحكي الجميل) أن يستبعد حبكة القصة التقليدية [مقدمة، عقدة، حل]، ويستبعد الرَّمز[6]، فيركز على أن تكون الحكاية:  مرحة، مفهومة، أجواؤها من محسوسات الطّفل نظرًا إلى ما تلعبه عملية الإدراك الحسي[7] -في هذه المرحلة-  من دور يساهم في اتّساع مجال الطّفل الإدراكي في بيئته[8].

ويفضل احتواء (الحكي الجميل)- في هذه المرحلة- على نبرات الكتابة[9]، والتّكرار[10]  الذي يساهم في بناء معجم الطِّفل اللّغوي، والإيقاع أو الجَرْس سواء عن طريق: السَّجع، أو دمج الشّعر بالنَّثر، أو استخدام الأغنية في القصَّة، أو تكرار اللّفظ أو الجملة وذلك لأن سمع مرحلة الرّضاعة [من الأسبوعين حتى آخر العامين] يتطوربحيث يستطيع الرَّضيع تمييز الدّرجات المختلفة للأصوات المتباينة في الشَّهر الرَّابع وما بعده. وفي حوالي الشَّهر الخامس يستطيع الرَّضيع تحديد مصدر الصَّوت، ويبدو أن إحساس الرَّضيع بالأصوات الإيقاعية يبعث على ارتياحه[11].

هذا إذا كنا نتكلم عن (الحكي الجميل) المسرود شفهيًّا. أما إن كان (الحكي الجميل) مكتوبًا؛ فكل شروط (الحكي الجميل) السَّابقةُ مطلوبٌ وجودُها، بالإضافة إلى تقديم القصة مطبوعةً بخط كبير- حتى لو لم يقرأها الطّفل بنفسه- وذلك لأن العينين لا تتكيفان تكيفًا تامًّا حتى يصل معظم الأطفال إلى سن الثَّامنة[12]، وقبل ذلك، يتميز البصر بالطُّول فلا تسهل إلا رؤية الكلمات الكبيرة[13]. كما يجب أن تتلازمَ قراءةُ الراشدِ ومتابعةَ الطّفل لأحداث القصَّة عبر النَّظر إليها في حال كانت مقروءة من كتاب.

أما اللَّوحة؛ فإنها تلعب دورًا مهمًّا في الارتقاء الجمالي، فتكون- في هذه المرحلة:  مقروءة، مُدرَكة، واضحة، كبيرة، معروضة وفق دوافع منعزلة أحدها عن الآخر على أرضية بسيطة وموحدة، توفر الرّضى الفكري: لأن إدراك الشّيء وتسميته يعنيان السَّيطرة عليه، وتوفر الرّضى الحسّي: لأن  عناصر الصّورة (ألوان، تناسق الأشكال…) تمس الحواس، وتحرك الانفعال.

أما مرحلة الطّفولة المبكرة [Early Childhood 3 – 5 سنوات]، أو ما يُعرف بالطَّور الواقعي المحدود بالبيئة، فـ (الحكي الجميل) الشَّفهي فيه يعتمد على تقديم حكايات الحيوانات والجماد فيما يُعرف بالتأنيس [أو التّشخيص] [14]، والقصص الخرافية، يساعده على فهمها كلِّها: اتّصافه بـ (خيال التَّوهم)[15] ، بالإضافةِ إلى تقديم الحكايات المرحة؛ إذ “يكون  فيه من الفُكاهة عِرق” في نهاية هذا الطَّور. علمًا أن القصص المرحةَ تلعب دورًا في إذابة التّوتر الذي قد يشعر الطفلُ به وفي زيادة مرونة عقله، فتكون علاجًا ناجعًا في المواقف الصّعبة التي يقف الأهل إزاءها عاجزين. شرط أن لا تطولَ الحكاية، ولا تكون حوادثها بطيئة تثير ملله. 

كذلك- ولكي يكون (الحكي جميلًا) في هذه المرحلة- يجب استخدام الصَّفات: حسّية، واضحة، ملونة، مثل: “الدّراجة الحمراء، النّمر الأسود، الطّاولة المكسورة…”، بالإضافةِ إلى الإيقاع[الجَّرْس] من خلال استخدام: موسيقا الكلمات، والجمل المنغمة، والعبارات الموزونة أو المسجوعة، والأصوات المرحة التي تطلقها شخصيات قصصه، ومزج النَّثر بالشّعر، واستخدام نبرات الكتابة، والتّكرار.

ويجب التزام (هنا والآن) فيما يتعلق بمكان القصة وزمانها.

ويُلتزَمُ بكل صفات (الحكي الجميل) شفهيًّا- بالإضافةِ إلى الكلمات الكبيرة والضبط بالشكل التّام، وقلة عدد الكلمات في السَّطر الواحد، وقلة الأسطر في الصفحة الواحدة- إذا كانت قصة مطبوعة. يضاف إليها صفات اللَّوحة التي يجب أن تكون: حسّية، كلاسيكية، مألوفة، ألوانها زاهية، مرسومة على أرضية بسيطة موحدة، جميلة، غير ناقلة للسُّوقية أو القبح، مبدعة، مرسومة من قبل كبار رسامي الطّفولة كي تساهم في رفع مستوى ذوق الطّفل الفني وترقى به.  أخيرًا، سواء أكنت تروي لطفلٍ قبل النوم (حكيا جميلًا) شفهيًّا، أو تقرأ له ومعه هذا (الحكي الجميل) مدعمًا باللَّوحاتِ الجميلةِ، وسواء أكنتَ كتبتَ بنفسِكَ الحكايةَ، أو اكتفيتَ بقراءتها، هبة من الله أن تُمنحَ شغفَ (الحكي الجميل) الذي- لولاه- ما استطعتَ جذبَ انتباهِ ابنِ عامٍ واحدٍ لدقيقةٍ واحدةٍ، حتى لو أطفأتَ الأنوارَ وأغلقتَ الأبوابَ وأقسمتَ أنْ لا زائرَ يقدرُ على الاقترابِ من عبقِ “سرير العائلةِ” الصابونيِّ المدهشِ. 


[1] – الشخصيات النمطية هي الشّخصيات الجاهزة التي في متناول اليد[كشخصية زوجة الأب الشّريرة، والجدة القاصة، والجد الخبير، والأم القلقة على مصير أبنائها، وغيرها…].

[2] – يسعدني أنني بدأت فعليًّا إعادة صياغة هذه الحكايات التي كانت تتلوها علينا شفهيًّا ولكن كتابة ومزينة بالرسم كي لا تضيعَ هدية مني لكل الأطفال الذي يعني الأدب الشعبي والشفهي تثبيت جذورهم.

[3]الخيال في أدب الأطفال: هو في أدب الأطفال والنّاشئة أنواع:إما خيال علمي (روايات جول فيرن)، أو خيال تأنيس (إطلاق صفات إنسانية على الجماد والحيوان…)، أو خيال لغوي (أي استخدام الكاتب المجاز)، أو خيال تقليدي (السَّاحرات والجن واللامعقول..) أو العناصر الفكرية الجديدة المبتكرة الَّتي يتألف منها مضمون الأدب.

[4] ـ من الضروري أن يلم كاتب الأطفال بفلسفة نمو الأطفال، فيعرف أن شخصية الطّفل  إنما هي ثمرة لنمو تدرجي متمهل، والجهاز العصبي للطّفل ينضج على مراحل وفي تسلسلات طبيعية، فهو يجلس قبل أن يقف، ويناغي قبل أن يتكلم، ويقول “لا” قبل أن يقول”نعم”، ويختلق قبل أن يقول الصّدق، ويرسم دائرة قبل أن يرسم مربعًا، وهو أنانيّ، محب لذاته قبل أن يكون مؤْثِرًا عليها يحب الخير لغيره، وهو يعتمد على الآخرين قبل أن يصير أهلًا للاعتماد على نفسه [أرنلد جزل (وآخرون): الطّفل من الخامسة إلى العاشرة، ص 41].

[5] – المعيار (في الفلسفة): نموذج مُتَحَقَّق أو متصَوَّر لما ينبغي أن يكون عليه الشَّيء.

[6] الرَّمْزُ: الإشارة بكلمة تدلّ على مَحْسوس أَو غَيْر مَحْسوس، إلى مَعْنى غَيْر محدّد بدِقَّة، ومُخْتلف حسَب خيال خيال الأَديب.

[7]  – يُقصد بالإدراك الحسِّي: عملية معرفة ما يحسه الفرد في البيئة عن طريق الحواس وتفسيره. وما يميز الإدراك عن الإحساس هو المعرفة العقلية المرافقة للإدراك واستعمال هذه المعرفة لفهم المحسوس الخارجي [حامد عبد السَّلام زهران: علم نفس النّمو “الطّفولة والمراهقة“، ص 135]

[8]  – حامد عبد السَّلام زهران: علم نفس النّمو “الطّفولة والمراهقة“، ص 136.

[9]نبرات الكتابة: هي أصوات الحيوانات والجماد وأسماء الأفعال والأصوات[مياو، دِجْ، عَوْ، تيعا…]، وأسماء الجهات[يمين، وراء، أمام، فوق، تحت. وما يلحق بها: قُدام، خلف، يمين، شِمال، جنوب، يسار، أول، دون، قبل، بعد].

[10] – التّكرار Repetition: الإتيان بعناصر متماثلة في مواضع مختلفة من العمل الفني، ولنا عودة مفصلة إليه.  

[11] –  حامد عبد السَّلام زهران: علم نفس النّمو “الطّفولة والمراهقة“، ص134.

[12] – جابر عبد الحميد جابر: علم النَّفس التّربوي، ط: 1982، ص 140ـ141. 

[13]  – حامد عبد السَّلام زهران: علم نفس النّمو “الطّفولة والمراهقة“، ص172.

[14]التَّأنيس (التّشخيص): إضفاء صفات إنسانية (تفكير، فرح، حزن…) على الشّخصيات الحيوانية والجماد، وهو ما يعرف بالتَّشخيص،وكثيرًا ما يستخدم في قصة الأطفال.

[15]  – خيال التّوهم، أو اللّعب الإيهامي أو الخيالي يميز هذه المرحلة، ويلاحظ فيها قوة خيال الطّفل، حيث يطغى خياله على الحقيقة، فيرى في القصص الخيالية واقعًا. ويكون خياله خصبًا فياضًا يملأ عن طريقه فجوات حديثه فتبدو (كذبًا خياليًّا) [حامد عبد السَّلام زهران: علم نفس النّمو “الطّفولة والمراهقة“، ص175].

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات