ميادة الحناوي … رائدة في الغناء الطربي العربي الأصيل

12:20 صباحًا الأربعاء 13 يناير 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
رسالة بيروت: إسماعيل فقيه

بيروت ـــ إسماعيل فقيه :
ليس للطرب متعة تضاهيها متعة. وليس للغناء سوى الدهشة والإصغاء الجلي للمستمع له، وليس للمغني الا أن يتجلى أكثر في صفاء السمع والرهبة. حين تكون الأغنية شجية (دسمة) في فم ولسان وحنجرة منشدها، وحين تكون نغمية طربية رقيقة هادرة بحنية في أذن وروح المستمع اليها، وحين تتنامى وتترقرق كلمات ولحن الأغنية في مشهدية السمع والبصر، وحين تأخذ الموسيقى درب الرهافة الى مساحتها، تنمو الشفافية والحب والمتعة ، أيضاً ، في مساحة عيش كريم . وفي كل حين تقول الموسيقى ما خفي في الهواء و في الصمت، ما خفي في ثنايا الروح والأمل. وصوت الفنانة السورية المطربة الكبيرة ميادة الحناوي يكاد يختصر كل هذه المتعة ويرفعها الى مرتبة الشجن الباذخ.


المغنية المطربة القديرة ميادة الحناوي، الفنانة المختلفة، المميزة، حاملة الصوت الناعم القوي الجارح الصادح في صدى الزمان والمكان ، لا تشبه إلاّ نفسها . ميادة الحناوي التي غنَّت الحب والأمل ، وأجهشت بعاطفة الغناء والطرب على مدى أعوام كثيرة ، وما زالت على شجنها ، على وعد صوتها المخلص، ما زالت تُغني بصوتها الصافي ـ المنغم بطنين الطرب الأصيل. وفي عذوبة صوتها أضافات للنغم وللحن وللشّجن والصفاء والرّقة. فقد أكملت واستكملت الفنانة ، الصّورة السّمعية والبصرية والمشهدية، وامتدت عميقاً في وعي البال والوجدان، وأخذت الرّوح، روح المغنية وروح المتلقي إلى العالم الخيالي السحري، بكل ما تعني كلمة سحر من تأثير في وعي الحياة. نظّمت ورتبت أثاث بيت الحياة بأغانيها المثمرة، كحقل، كغابة.


لم تكن ميادة الحناوي مُغنية الأصالة فحسب، بل كانت أيضاً العاطفة والصفاء والعذوبة، النغمة المتوالية المتناسلة الى ما لا نهاية. تقدمت الفنانة بخطى واثقة ، وتفوقت من النبرة الأولى ، رفعت صوتها بطنينه الأخّاذ، بمخمليته وقوته الرامية،كمنديل اللقاء والوداع والعناق، وذهبت إلى حدود التأثير والتجلّي. لذلك هي من المغنيات المطربات الكبيرات اللواتي أضفن للفن والغناء حضوراً راقياً لا تشوبه شائبة.
ميادة الحناوي المولودة في سوريا، في مدينة حلب سنة 1959 بدأت رحلتها الفنية مع الغناء والطرب منذ وعيها الأول. وفي عمر مبكر امتشقت صوتها وأنشدت الأغاني الصعبة. ولم يمض سنوات كثيرة على غنائها الأول ، حتى أعاد اكتشاف موهبتها موسيقار الأجيال الراحل محمد عبد الوهاب، حيث استمع الى صوتها في سهرة، وذلك في (بلودان) المصيف السوري الشهير والذي كان يرتاده الراحل عبد الوهاب مراراً وفي كل صيف كان يزوره. في تلك السهرة كانت البداية المميزة للفنانة الحناوي، حيث استمع اليها عبد الوهاب وأبدى إعجابه بصوتها وموهبتها في الغناء. وسرعان ما تطورت تلك الصدفة ــ السهرة لتصير مناسبة قائمة وثابتة، بعدما سافرت الفنانة الى مصر، وعاشت فيها فترة زمنية، أثمرت تعاوناً مع كبار (القوم) الطربي في مصر ، وكان للفنانة نصيباً لافتاً توجته بالتعاون مع عبد الوهاب وسواه من كبار وأعلام الموسيقى العربية.

ليس مبالغة القول بأنها واحدة من أهم الفنانات المغنيات الشرقيات اللواتي ما زلن على قيد الطرب والغناء والفن والإبداع في زمن تنحسر فيه الأغنية الطريبة الأصيلة. وتُعتبر الحناوي من الرائدات في الغناء العربي الأصيل – الحديث. فقد عمل ألمع مؤلفي الأغاني معها، مثل رياض السنباطي وأحمد رامي وبليغ حمدي ومحمد الموجي وسواهم من المبدعين الكبار، الأحياء منهم والأموات.
وليس غريباً أن يطلق عليها اسم “مطربة العشق”. نعم، لقد أصابها هذا الوصف، الدقيق، بالصميم. ظهرت في مرآة الزمن عاشقة ، مطربة الحب والعشق. وأغانيها الكثيرة تشهد على هذا الحب، تشهد على هذا العشق. يكفي أن نستمع أو نتذكر بعض أغانيها، مثل: “أنا بعشقك”، “الحب اللي كان”، “كان يا ما كان” حتى نغرق في توصيف واستشعار متعة هذا العشق.
أثبتت الفنانة حقيقة وجدّية ما وصفت به، من خلال ما أنشدته على مرّ زمنها المستمر. فأينما حلّت ميادة الحناوي، المغنية الهادئة المتألقة بالحنين والحب والأشواق، تحلّ معها الآهات، ويعلو صوت الطرب فوق كل صوت. ما زالت الفنانة على أصالتها الطربية، وتطلّ دائماً في حفلات خاصة وفي مهرجانات كبرى ، إطلالة عامرة وجاذبة، وتشهد لها البلاد العربية وبلاد الإغتراب، ومسارح لبنان.
تتحدث الفنانة عن الغناء ، وتقول بصوت هاديء جداً : ” الغناء هو صوت الأعماق، وعي الروح وانتباهها أكثر. الغناء هو الطرب الذي يطرب الروح ويدغدغ العقل. الغناء يجوهر كل كائن يلامسه ويسمعه ويتحسسه، فكيف إذا كان هذا الغناء نابعاً من أعماق الذات – التواقة للحب والفرح والطمأنينة؟”
قيل “الغناء سرّ الوجود”، وميادة الحناوي في قلب هذا (السّر) ، وتقول : ” الغناء هو لون وطعم وغذاء، بل هو الغذاء الكامل للروح … الأغنية بكلماتها وألحانها ونغماتها وموسيقاها وطربها هي الكل، هي المناخ الكامل المتكامل في ذائقة الإنسان”.


” المغنية حين تصدح بالصوت ، يصدح الصوت في أعماقهما أكثر، تتكامل عناصر الطّرب داخل الأحشاء والإحساس” ــ تقول ميادة ــ وتضيف قائلة: “تختمر الأغنية قبل ولادتها، تتفاعل داخل الروح، تتناوب الأفكار والأحاسيس على تفعيل الأغنية قبل انطلاقتها وظهورها، وحين تخرج إلى الصوت واللحن والموسيقى تكون في طور الانبلاج الذي يشبه انبلاج الفجر بعد ليل قاتم وطويل”.
تعترف الفنانة بأنها حاضرة دائماً في “مرآة الكلام”، كلام القصيدة التي تنشدها :
” لي مع اللغة والكلمة الكثير من الحب (…) الكلمة في الحنجرة لها وقع قبل أن تخرج إلى الهواء والسّمع ، يخرج معها الصفاء والنقاء والمحبة والسعادة.. تتكامل الأغنية داخل وعي المغني ، ويزداد تكاملها بعد أن ترسم الموسيقى، موسيقى الكلام والآلات، صوت المحبة الذاهبة إلى فرج وانشراح وفرح كبير.. ليست الأغنية مجرد متعة ضخمة يقطفها صاحبها أو سامعها، بل هي كل تلك المتعة التي تشدنا الى أفعال الحياة.” تقول ميادة أيضاً : ” الغناء ليس متعة آنية وتعبر ، بل هي أكثر وأكبر من أن تكون متعة عابرة، هي متعة مستمرة، لا تنتهي بانتهاء الغناء والأداء، ولا تنتهي بعد صمت الآلات الموسيقية والألحان. انها أشواق مستمرة ، تستمر أكثر، تنمو في البال والروح ، ترسم اطار الأمل، تشييد مملكة السّعادة”.
تغني الفنانة بدافع الحياة، بدافع الجمال الذي يرفع مجد الحياة :” الغناء مملكة الجمال، المملكة التي لا يمكن وصفها بكلام. ربما كانت الأغنية الأصيلة مساحة كاملة للعيش والحياة، مكان الإقامة الأجمل على الإطلاق. وربما أيضاً هي الوطن الأجمل للإنسان”.
أضافت قائلة :” العيش في وطن الأغنية (الأغنية وطن وحياة) يجعلك لا تلتفت لغير البهجة… أنا أغني لأرى وأسمع وأرسم ما أريد ، أغني كي أرى أكثر، كي أسمع أكثر”.
تنمو الأحاسيس قبل وأثناء وبعد الغناء، وتتكاثر معها ألوان الحياة، وفي كل لون، مسافة تسلكها الفنانة، مسافة تحلق في فضائها: ” أنا أغني لا لأقول فحسب، لا لأسمع فحسب، لا لأقطف فحسب، بل لكل هذا ، لأسمع وأرى وأقطف وأطير وأحلّق، لأرسم ألوان الحياة”.
صوتها العابق بالحنية ، بنبرته الصافية ، برصانته المدروسة، ببراءته العذبة، أعطى لأغنيتها حقها الوافي. صان الكلمة ، ودوزن اللحن. نجحت الفنانة ميادة الحناوي بصوتها ، بطبقاته المخملية، ونبرته الطربية وبراءته الذكية، رفع من شأن اللحن الذي يرافقه، بل ساعد هذا اللحن على تسويق المتعة في السّمع، في الذات المتلقية. حين يصدح صوتها، يتراءى طيفه، يصدح معه الطّيف، كأنه الصدى الذي لا يحد. صوت بأطياف وأطياف.
ثمة براءة في صوتها، براءة بحنكة جمالية راكدة ويقظة . البراءة التي تجوهر المعنى أثناء تأدية الأغنية . واذا سألتها عن رخامة وقدرة وفعل صوتها في الغناء، لا تتردد بالبراءة أيضاً وتقول :” أطياف الصوت واللحن هم صدى الصوت نفسه. الصدى الذي يتردّد مع الصوت هو جزء مكمّل للحن … صوتي هو شخصي هو أنا، وأنا صوتي. كل ما أفعله هو أنني أقوم بتلبية واجبي في تأدية الصّوت”.
تقول الفنانة ميادة الحناوي : ” لقد أنعم الله عليّ بهذا الصوت ، وإذا كان لصوتي كل هذا التأثير وكل هذا المعنى، فهذا من نِعمَ الله عليّ. لقد أنعم الله عليّ بهذا الصوت، وليس لي سوى أن أحفظ هذه النعمة”.
تولي الفنانة اهتماماً كبيراً بالكلمة : ” لا شك أن الكلمة هي هيكل الأغنية . الكلمة في الأغنية هي إيقاع مسموع وايقاع بصري فاعل أيضاً، ولها وقع النّغم وفي طرب النفس. فكلّما كانت كلمات الأغنية ثرية بومضاتها وبمعانيها، وتحمل في مفرداتها شجون الفكرة والحياة والإنسان، ترفع من مستوى الأغنية ولحنها، وتأخذ الموسيقى الى عزفٍ يوازيها. من الطبيعي في الغناء أن تكون الكلمة هي الإحساس داخل الإحساس، وأن تكون النبض داخل اللحن، لذلك هي صلة الوصل بين كل عناصر الأغنية، من أداء وموسيقى “.
لا يمكن للأغنية، لأي أغنية أن تنجح وتستمر إذا لم تكن قائمة على قاعدة سليمة، قاعدة الكلمة ــ تقول ميادة ــ ” على سبيل المثال، فغناء الشعر الأصيل يزيد من أصالة الأغنية وألحانها وموسيقاها.أداء الأغنية ليس أمراً سهلاً. غناء القصيدة هو ذروة الإبداع”.


طقوس الغناء ، أو في أثناء لحظة وفعل وإنشاد الغناء ، في لحظات ممارسة فعل الغناء، ثمة لحظات تشبه “الوحي” التي يتلقفها الشاعر :” لا يمكن للمغني الا أن يبدع في مسعاه الطربي . وقت الغناء ليس ككل الأوقات، هناك وقت واحد، يأتي فجأة، يشدّنا لكي نغني ونكون نحن بانتظار هذه اللحظة، فيتكامل المشهد السمعي، ويبدأ نهر الصوت والإبداع بجريانه وتدفقه وعذوبته”.
أما أثناء تأدية الأغنية أمام الجمهور أو داخل الاستوديو – أثناء تسجيلها، يشعر المغني بما لا يشعره مبدع. قد يشعر بحضور عارم ، وقد يخرج إلى غياهب ممتعة، حيث الجمال والصور المفتوحة على فضاء الطيور والغابات. وتوصفه الفنانة بالوعي الصارم : ” أثناء تأدية الأغنية يحضر كل جميل في الحياة. إنه حضور وغياب في آن معاً، سلطنة النفس هي كل الحكاية”.

تتميز شخصية الفنانة ميادة الحناوي بهدوئها النضر، يكفي أن تنظر إليها أو تسمعها تغني أو تتحدث معها، حتى تكتشف هذا الهدوء العميق. هدوء لا يفارق محياها، وابتسامتها تجوهر هذا الصمت الصافي في عينيها. الأحاسيس الجياشة دفينة في أعماقها، لكنها تخرج أسراباً حين تبوح وتنطق. فنانة تحترف البهجة: ” البهجة هي من سمات الوعي الفني الغنائي . ربما كانت البهجة هي المرآة التي تعكس الصورة والمشهد، ولكن الأكيد هو أن البهجة هي حاجة وضرورة لرسوخ الأغنية في بال المغني، و لخروجها (الأغنية) إلى المتلقي هادئة ومريحة وصافية وممتعة”.
الإصغاء لغناء المطربة ميادة الحناوي، يتطلب ما يكفي أن نصغي اليه وقت الأمل. الإصغاء لميادة جزء من أُغنيتها الطربية، وربما (فن) الإصغاء اليها هو من شروط المتعة التي تستحضرها أغنيتها.
كل ما قيل ويقال من تبجيل في أعمال الفنانة ميادة الحناوي، يبقى الكلام أقل في حضرة صوتها وإنشادها. فالإصغاء والإستماع الى أغنية لها تكفي الذوق والتفسير والشرح والدلالة. الإصغاء الى نبرة حضورها في الغناء أهم من الكتابة عنها

One Response to ميادة الحناوي … رائدة في الغناء الطربي العربي الأصيل

  1. محمد درويش رد

    13 يناير, 2021 at 12:56 م

    من اهم المحطات التاريخية في مسيرة الفنانة ميادة الحناوي هو ما خطه يراع الشاعر الناقد المثقف الكبير اسماعيل فقيه في هذه المقالة الجميلة وان اهم ما فيها هو السرد المبرمج والتاريخي لدور ورأي و توق الفنانة الكبيرة ميادة الحناوي في عالم الأغنية والفن الراقي .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات