الشاعر باسم المرعبي في الهجرة والهجير … “من أنا من دون الشعر؟” : “الحب هو نسيج الكتابة.. وعروقها”

10:20 صباحًا الإثنين 22 مارس 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
رسالة بيروت – إسماعيل فقيه

ليس مبالغة القول بأن الشاعر العراقي باسم المرعبي يمثل ومضة براقة تؤجج في زينة الشعر العراقي الحديث. وقصيدته الهادئة،المشحونة بطاقة الوعي والحس المرهف،والبلاغة الصافية الرصينة الرخيمة،هي قصيدة مفعمة بتعابير قديرة، تخولها الدخول الى واحة الآخر ــ المتلقي دون استئذان ، لما فيها من سلاسة جاذبة.
باسم المرعبي ، شاعر مهاجر ومغترب ومنفي ، في أرض الهجرة القسرية، يعيش في السويد منذ أكثر من عشرين سنة. وكان عبر وعاش في بيروت قبل ذلك، وعرفناه وعرفته المدينة عن قرب، وكان مثالاً لصورة نفسه الشاعرة ، تماماً. وفي حواري الآني مع الشاعر، أكتشفت، بعد مرور هذا الزمن الطويل أن باسم ما زال باسماً، وقصيدته أيضاً باسمة ومفعمة أكثر بالحب، رغم الهجرة والهجير، فماذا يقول؟:
أين أنت اليوم. أين تعيش وتتشرد. هل أنت في المهجر أو في العزلة أو في المنفى؟

ــ أنا في كلّ هذا: مهجر ومنفى وعزلة. رغم اني أشعر قد خنت عزلتي من خلال تواجدي في بعض وسائل التواصل الاجتماعي، ولولا متطلبات الكتابة، التي تستدعي شيئاً من تواصل وتواجد لكانت عزلتي أكثر احكاماً، لا استعلاء، ولكن أنا بطبيعتي أميل الى النأي. ربما ما يعزز طبيعة هذه العزلة لديّ ويرفدها هو اني أعيش منذ أكثر من عشرين عاماً في بلد يميل في ذاته الى شيء من انغلاق فالمجتمع السويدي معروف عنه، بشكل عام، التحفظ والميل الى العزلة. مع العزلة تنتفي ضرورة تسمية المكان. فكل الأمكنة هي ذاتها. وقد ينسحب هذا أيضاً على الزمن. من هنا أشعر إني أعيش تبلبل الأزمنة والأمكنة. فأنا في كل الأزمنة وفي كلّ الأمكنة. بهذا الهاجس كتبت قبل فترة نصاً بعنوان كنتُ قبل مائة عام، فيه وصف لهذا الاختلاط.

إلى أين أوصلك غيابك عن أرضك ووطنك؟

ـ عندما تكون خارج أرضك الأولى تُواجَه في الغالب بسؤال: من أين..؟ وهو ما تودّ التخلص منه وترغب في أن تكون في المكان الذي لا أحد يواجهك بمثل هذا السؤال. ومشاعر كهذه لا تتعلق بالأخفاق أو النجاح في أمكنتنا الجديدة هذه بقدر ما تتعلق بتاريخ نفسي كامل لصيق بنا، بتاريخ من الرؤى والذكريات والتفاصيل يكون مصدرها الوطن. ما زلت حتى اليوم وبعد انقضاء أكثر من ربع قرن على مغادرتي العراق، والعيش والتنقل في أكثر من مكان، كسوريا ولبنان وسواهما، أحلم بالأماكن التي أحبّ في العراق وبغداد بشكل خاص، حتى ان الأمنيات تحوّلت الى أحلام، على سبيل المثال، في الواقع، أفكر كثيراً في شارع الرشيد في بغداد وكم أحزن للخراب والاهمال الذي آل اليهما الشارع. في الحلم، أجد نفسي أتنقل في هذا الشارع بمشاعر من الغبطة لايمكن وصفها، وهو على أجمل وأروع ما يكون، حيث الإضاءة وحركة الناس وسعة الأرصفة بل حتى اني أجد تطويرات واضافات للمكان، هي من صنع الحلم، فأصحو سعيداً وممتناً لهذه الهبة العظيمة.

… والشعر أين أنت منه اليوم. ما هو الشعر بعد كل هذا الغياب الذي عشته وتعيشه؟

ـ تسألني عن الشعر… وما أنا بدون الشعر..؟ دعني، وهماً أو حقيقة أعيش هذا الشيء. لقد تورطت وانتهى الأمر. لكن الورطة الأكبر هو أن تتعامل مع العالم من زاوية أو منطلق الشعر، في الوقت الذي يحتاج هذا العالم الى قفازات حديدية للتعاطي معه. والشعر، كما تعرف، لا يُحصر في تعريف. غير أنه يمكن أن يتجلى في بعض المظاهر. كما في قطرات مطر على زجاج نافذة، في ريح تتخلل أوراق الشجر، وفي الجمال بكلّ أنواعه، بل قد يتجسد في امرأة، جمالها في أقصى درجات العنف بل حتى القسوة. وعلى أية حال أفضّل أن أعيش الشعر على أن أكتبه. لكن أين وكيف..؟ فالشعر بهذا المعنى وعد فردوسيّ، وعد بالجمال المطلق. ومهما بلغ الشعر المتحقّقق حتى الآن من مديات عظيمة ومتقدّمة، ما هو إلا بعض تجسدّات الشعر في مطلقه، فالشعر كُنه محجوب وما القصائد التي نقرأ إلّا بعض اشارات منه أو عنه. الغياب الذي تسأل عنه أحياه شعراً كذلك الحضور.

ماذا تكتب ماذا تريد أن تقول بعد غير الذي قلته. ألم تكفي القصيدة بعد؟

ـ لا يمكن لشاعر أن يكتفي أو يرتوي بقصيدة أو ديوان. خاصة عندما تتحول الكتابة عموماً وكتابة الشعر بشكل خاص الى ممارسة وجود. وهذا ما أنا عليه اليوم. وبعد عشر مجموعات شعرية وما يقاربها عدداً من كتب النثرلا يمكن لي أن أجد نفسي بعيداً عن الكتابة. لقد كيّفت حياتي وكرّستها للكتابة وليس العكس. مع كل قصيدة، أشعر ببداية جديدة، وألحظ الفروق والتطورات في كتابتي، مع هاجس كهذا، ما من نهاية للقصيدة.. ومع كل جلسة للكتابة، أشعر ان لدي مادة جديدة وطريقة جديدة للقول. هذا الانغمار في عالم الكتابة هو الوجه الآخر لما أفدت به سابقاً حول النظر الى العالم والتعاطي معه من خلال الشعر، مهما كانت وتكون الخسارات جرّاء هذا الخيار، خصوصاً لمن لا يُجاري التيارات ولا يبيع ويشتري بكتابته التي هي موقفه من العالم والأشياء في الآن ذاته.

كيف ترى وطنك من خلف قضبان غيابك؟

ـ كتبتُ ذات مرة: “في ثيابي العراق وتحت جلدي. في التماعة الدمِ وفي قوامه”. هكذا هو العراق لدي. وقولك من خلف القضبان، هو تشبيه جيد. أجل نحن بشكل أو آخر أسرى غرباتنا هذه، وثمة ما يحول بيننا وبين الوطن، سواء تجسّد ذلك بشكل مادي أو معنويّ. رغم ان هاجسي الدائم هو العراق، لكن في أحيان كثيرة أفكّر بالاضراب عن العودة اليه احتجاجاً على مظاهر الفساد والأنانية واللا مسؤولية التي تفشّت فيه. والعراق اليوم شقيّ بأبنائه، بالدرجة الأساس.

باسم الشاعر البعيد هل هو حزين أو سعيد. هل هو نفسه اليوم كما كان يوماً؟

ــ لحظات الأسى هي اللحظات الأكثر تكرراً لديّ وروسوخاً من لحظات الفرح، سواء على صعيد ما هو شخصي أوعام، وإن كان يصعب الفصل بين الإثنين، غالباً، فكلاهما يؤثر في الآخر. ولو نظرنا أو أنصتنا لما يحدث في العالم وفي منطقتنا العربية بشكل خاص، فأي مكان للفرح أو التفاؤل سيبقى. بلداننا التي نُحب هُشّمت وأُناسنا قتلوا أوهجّروا والكثير من القيم الجميلة تراجعت أو اختفت، وأخشى أن يكون القادم أسوأ، إن لم يكن ذلك مؤكّداً، فمسيرة العالم في نكوص دائم وبشكل خاص بلداننا. لكن وبما ان الانسان يميل الى نسيان الحزن وتجاوزه واصطناع لحظات الفرح من عمق المأساة، بالنسبة لدي كشاعر، أجد في الاستمرار بالكتابة المعادل الموضوعي لتداعي العالم. وعدا دقائق الفرح والبهجة المختلسة من نثار اليومي، فإنّ الفرح الأعمق بالنسبة للكاتب هو فيما ينجزه من كتابة وفي هذه الممارسة في حد ذاتها. أما عن سؤالك ما إذا كنت نفسي اليوم، كما كنت قبلاً. هذا محال. فتيار الزمن يجرفنا، رغماً، ويلقينا على ما نحب وما لا نحب من ضفاف. هذا التيار هو الذي ساقني الى المنفى، والمنفى ضريبته باهظة، حدّ الابتعاد عن النفس، حدّ الانشطار. تسير وبداخلك ايقاع وطنك الأم، فيما ايقاع الشارع الذي تسير فيه راهناً هو ايقاع آخر.

كيف تعيش الحب وهل حقاً داهمك الحب في أرض الغربة؟

ــ أنا في حالة حب دائم، كيف لا والقلب مستفَز بالجمال ومُخاطَب به، على الدوام. كل مشهد سيكون ناقصاً ومروعاً دون أن تظلله المرأة، الحب، الجمال. أما عن تحديدك أو تأكيدك أن الحب قد داهمني في أرض الغربة، لكأنّ سؤالك قد استشفّ ذلك من خلال نصوص معينة لي، أو هكذا أخمّن. ولديك حق في ذلك، فثمة قصائد نشرتها في الآونة الأخيرة كانت مكرّسة للحب بالكامل. لكنها ليست المرّة الأولى، التي يحدث فيها ذلك، حتى اني ومنذ فترة ليست بالقصيرة أفكّر بإصدار مجموعة موقوفة على قصائد الحب.عدا عن ذلك لك أن ترجع الى كامل أعمالي الشعرية لتجد أن هذا الموضوع يشغل حيزاً كبيراً فيها منذ البدايات وعلى امتداد المراحل. الحب كما في تجليه الأعمق والأجمل هو في نسيج هذه الكتابة ومتغلغل في عروقها.

هل يمكن للقصيدة أن تخفق بلا حب؟

ــ واستكمالاً لإجابتي السابقة، أقول أنّ موضوعة الحب موضوعة خالدة، لا يمكن ان تُستنفَد، وطالما نحن نتحدث عن القصيدة، أي عن الفن، فالمسألة لا تتعلق بالموضوع فقط، وانما كيف يُعالج ويُقال هذا الموضوع وبأية طريقة. الكل ممكن أن يكتب في الحب، لكن ما الذي يُبقيه الزمن؟ هذا هو السؤال. ولماذا يتبادر لنا اسم هذا الشاعر أو ذاك دون سواهما مقترناً بهذه الثيمة. أن تفي هذا الموضوع، أو أي موضوع آخر حقه، هو ان تقدمه بطريقة أو لغة فذة. والقصيدة تحيا بالحب، بمفهومه الأوسع، وتموت بالكراهية. شعراء الكراهية انتحروا بالضغينة وانتحرت قصائدهم معهم. فالسموم التي في قلوبهم وأجسادهم تتسرب الى ما يكتبون. لا يمكن لروح ملآى بالشر والخبث أن تنتج شعراً جميلاً أو عظيماً. هذا محال. والشعر الخالد هو الشعر المنفتح على الإنسان في أرفع صورِه وأطواره.

المرأة في حياة الشاعر هل هي الأمل والملائكة والجنون أيضا. ماذا قالت القصيدة للمرأة ومن هي المرأة التي تسكن قصيدتك؟

ــ جذر كتابتي مدين أساساً الى امرأة، فعبرها التمست الطريق الى الشعر. والمرأة، عموماً، هي مصدر ومتن كتابتي، في أغلب ما أكتب، حتى أنها تتخلّل الموضوعات التي تبدو بعيدة عنها، لذا لا يمكن عزلها عن نسيج القصيدة، فالمرأة لدي، ليست موضوعاً أو غرضاً يُكتب بدافع التقليد أو الواجب، وانما هي في صلب الوجود الشعري كما هي في صلب الوجود التكويني. والمرأة عالم شعري في ذاته.. وأزعم أن كل دهشة تزول في هذا العالم، إلا الدهشة ازاء شيئين: خلق الكون بهذا النسق العظيم المُتقن، والدهشة في حضور المرأة. وهي بأدوارها التي ترقى الى ما هو اسطوري في الحياة تكون بمثابة الخلاص. والمرأة مجموع تناقضات فهي مزيج من طفولة ونضج، براءة ومكر، جنون وحكمة، رقة وشراسة. “الأسد والفراشة في ذات البرج” كما كتبت في مجموعتي الأولى. أما عن المرأة المسمّاة التي تسكن قصيدتي، هناك أكثر من أمرأة. فثمة ما هو عابر من النساء وثمة ما هو مقيم وثابت. لذا فمن القصائد ما هو مرايا لما هو خارجي، عابر، وأُخرى لما هو داخلي، حميمي لا يمكن اشهاره.

متى ولماذا تكتب. هل الكتابة يمكن أن تكون بديل كل عذاب وتعب؟

ــ لا وقت محدد لدي للكتابة، وليس من تنظيم بالمعنى الدقيق، لكن بالمجمل فإن القراءة والكتابة، ، تأخذان من يومي الكثير، حتى على حساب راحتي. وفي الوقت الذي أجدني مبتعداً عن هذا الإنهماك ، أشعر بنوع من الفراغ والتأنيب. نعم الكتابة هي بديل عن كل عذاب وتعب كما تقول. الكتابة هي رد الشاعر ـ الكاتب، على كل ما يحيطه من مشاهد تستدعي السخط والغضب. لماذا تكتب هو سؤال خالد، ولطالما طُرح وبأشكال مختلفة وتلقى في الوقت نفسه أجوبة كثيرة متنوعة. ليس بالضروة انّ كل ما يُكتب سيصمد للزمن. وحتى مع يقين الشاعر وايمانه بأهمية ما يكتبه، غير أنّ الشعور بالعبث هو ما ينتابه في أحيان كثيرة، وهو يرى الى آلاف الأسماء وعلى مرّ تاريخ الأدب، وعلى أهميتها وفرادتها، قد أوت الى صفحات الكُتب وانزوت فيها، وما عادت تُستحضر أو تُرى إلّا من باب المراجعة أو المصادفة الموسوعية والفهرسية.

One Response to الشاعر باسم المرعبي في الهجرة والهجير … “من أنا من دون الشعر؟” : “الحب هو نسيج الكتابة.. وعروقها”

  1. محمد درويش الاعلامي الشاعر رد

    22 مارس, 2021 at 12:12 م

    الشاعر باسم المرعبي يملك لغة خاصة ومشاعر مرتفعة وخارطة طريق الى الشعر
    ان مثلث الغربة والتعب والمتابعة اليومية لهموم الحياة طغت على حوار الشاعر اسماعيل فقيه مع الشاعر المرعبي لكن هذا الحوار يمكن وصفه بكتاب حياة بل مؤشرات الغربة وآثارها البركانية في ارض الذات التي تبحث عن مستقر لا يجد الشاعر المرعبي اي مكان للراحة الا في احضان القصيدة وهو محق في ذلك
    لقد انتزع اسماعيل فقيه الاجابة على سؤال ثم آخر بثقافة واسعة اضافة الى الامساك بمفاتيح الحوار ليروي من جديد من خلا ل الاسئلة والاجوبة كتاب قصائد المرعبي التي تغني المكتبة العربية
    بلا شك انه شاعر يعرف الطريق الى الحب والحياة والوطن بكل جمالية وروعة وبهجة رغم انف الحزن الكامن في القصائد التي تستحق الترجمة…

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات