“أزهار الشعر … أضلاع العشب” للشاعر والمترجم محمد حلمي الريشة: الشعراء محمَّلون بجينات لها خصوصياتها الكينونية

01:03 مساءً الأربعاء 26 مايو 2021
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مريم شهاب الإدريسي (المغرب)

الشعر ملكة إنسانية تنساب من خلال إبداعية اللغة ومخيلة الصورة، وكل كتابة هي ما يعتمل بدواخل الروح الشاعرة، الرغبة الغريبة المُلِحّة بملوحة الحبر أو ظمئه للبوح. هي حالة مماثلة للتمرد أو للتأمل البالغ أقصى درجاته، فلا يظل متخفيًا بين الضلوع، بل ينفلت ليبحر بأمواج السطور، ويغوص إلى الداخل فالعميق فالأعمق، بتوظيف للغة توظيفًا يخدم السياق بالاشتغال عليها اشتغالًا حثيثًا، وذا ما أشار إليه الشاعر محمد حلمي الريشة :

“إن عمل الشاعر على اللغة هو العمل الأساس في النص، فالشعر لغة أولًا. هذه اللغة بحاجة إلى الشاعر الرسام بريشته المغموسة بماء كل شيء، حتى يخرج إلينا من فضاء عزلته الفسيح بالتعب الكلي، حاملًا قطعة من روحه، يضعها أمامنا من دون انتظار شيء من أحد”.

د. محمد حلمي الريشة

استنادًا إلى ذي الرؤية الواعية بقيمة اللغة الشعرية، يتضح ما هو جليّ وناضحٌ أن الشاعر الريشة قد كسب الرهان باختياراته الدقيقة الراقية والانتقائية للنصوص المتسمة بالجمال الإنسانيّ، إذ اللغة لديه بمشهدياتها تخدم المخيلة، وهو الذي يستلهمها مشاكسًا إياها بسعي منه لإثراء الدلالة لكل من القارئ اليقظ المنتبه، أكان شاعرًا أم ناقدًا، وما من مثال أدلّ على هذا حين يترجم الريشة قصائد، فيشدد بقوله على ما يأتي:

“أحب أن أترجم نصوصًا شعرية مكتوبة بالإنجليزية إلى اللغة العربية وليس العكس، لأن العربية ثرية جدًّا بأكثر من معنى للكلمة الواحدة، حدّ التضاد أحيانًا، ….، وبالنسبة إلي فأنا أختار الكلمة الأقرب إلى الشعر من جملة المعاني. هل هذا يفسر عدم الحياد التام؟ ربما، لكني أجد أن هذا هو الأفضل في ترجمة الشعر إلى اللغة العربية”.

تصريح هو ميثاق لمترجم باحث عن دفء القصيدة الإنسانية الكونية، وهو العاشق للخيال والترحال بجناحين معتقين حنكة التحليق اللغوي والخبرة الشعرية .

وفي رحلتي القرائية التقديمية لهذا المنجز الشعري المترجَم، اكتشفت إلى أيّ مدى ذي الترجمات دليل وفاء الشاعر لنهمه الشعري الذائقي/ التذوقي، وشغفه القرائي والاكتشافيّ للنص الآخَر، وهو بحث عن مكامن إبداعات إنسانية بإرهاصاتها وهواجسها وتطلعاتها. 

لقد شدّ انتباهي العنوان “أزهار الشعر.. أضلاع العشب”، وانشددت إليه انشدادًا منبهرة بهاته التوليفة بين خصائص شعرية لشاعرين عملاقين باسقيّ الإبداع بإحالة من الشاعر الريشة لديوانين، ما من شاعر إلا وقد نهل منهما ما نهل قراءة وإمعانًا وإعجابًا، فما بين “شارل بودلير” بـ”أزهار الشرّ” الذي آمن إيمانًا لا محيد عنه بحدسه الشعري وبنبوغه و”والت ويتمان” بـ”أوراق العشب” مؤسس للحداثة الشعرية في عصره الّذي صرّح: “كلماتي بسيطة مثل بساطة الحشائش على سهل منبسط”. فكلا الشاعرين أذهلا قارئيهما، وهذا ما دفع الشاعر المبدع محمد حلمي الريشة إلى اعتماد الإشارة تلميحًا والإحالة بانتقائه للعنوان بكل تبصره وبصيرته الذوقية، آخذًا من كلا العنوانين ما يشير إلى حديقة الشعر المتميزة ممن اختار إبداعاتهم، اقتناعًا منه بكل حنكته الشعرية أنها نصوص حداثية، وإنها لكذلك.

فالعنوان يخدم مضمون المؤلَّف، وهو بمثابة عتبة أساسية لولوج عالم القصائد المترجمة من ضفاف أخرى، ما بين أزهار شعرية تباينت أشكالها باختلاف تربتها وموطنها لكنها عبقة كجمالية بوحيةٍ وأضلاع عشبية كفعل شعريّ محتضن وحاضن لإبداعات بالحفاظ على هويتها القصائدية على الرغم تنوع تجارب شعرائها .

عنوان ينمّ عن نظرية شعرية ذات بعد جمالي عميق الدلالة ودليل ثقافة متأصلة، وفي الآن ذاته إطلالة من خلال شرفة العنوان على أفق قصائد تمثل الحداثة الشعرية. وعليه، فالخيلاء الحرفي للشاعر الريشة البارز من العنوان دليل قاطع على دلالات تخدم امتدادات القصائد التي قام بترجمتها وهو المسكون باللغة حد نخاع  الشعر.

نستشف من حضوره اللغوي الباهظ تلك الجمالية والصوفية والتمرد والاختلاف والتطابق من خلال المفردات والكلمات التي يترجم بها بلغة مجازية أو استعارية، لكن ما بالمباشِرة قط، فتكشف لنا ترجماته هنا من خلال القصائد أنصاف الحقائق الدلالية ليشاكس بذكائه الشعري انتباهة القارئ، ليدرك حقائق أخرى من خلال اللغة العربية. إنها جرأة دهائه الشعري واللغوي، فهو لا يخون النص ترجمةً على الرغم من أن القصائد التي اشتغل عليها بلغة أخرى تبتعد عن الاستعارات والتشبيهات، لكنه يمنحها جمالية بلاغية باعتماده الدلالات وإيقاع القصيدة النفسي والفكري عليه، بدايةً كقارئ فشاعر لوعيه التام بأن الشعراء محمَّلون بجينات لها خصوصياتها الكينونية.

هذا ما يجعلني أقرّ بأن الترجمة الأنيقة هي سعي هادف لإحداث ملتقى للثقافة الشعرية الإنسانية باختلاف مشاربها وتنوعها وأهدافها النبيلة اعتمادًا على حضور راق واع وتوعوي لدلالات إبداعية، لذا يمكن اعتبار الترجمة من خلال الجهدين: الفكري واللغوي، اللذين بذلهما الشاعر الريشة، هو طموحه لخلق فضاء تحلّق فيه شعريته اللغوية والعربية، من دون مساس بخصوصية شعر الآخَر لِمَا لها من قيم فكرية وإنسانية .

وهنا تعود بي دواة ذاكرتي لأطلق سراح مخزونها، لينطلق الحرف الريشيّ صادحًا من مخزون اعترافه الأدبي حين قال: “ليست الترجمة مرآة تعكس كل ما في النص الشعري، لأن الترجمة تحوُّل من لغة إلى أخرى، كذلك لكل من اللغتين صفاتها الخاصة، وبنيتها التوليدية، وحياتها الكائنية، ومقاصد معانيها وتفسيراتها… لكن هناك الجوانب المختلفة المكونة للمترجم، وهنا أعني تحديدًا المترجم الشاعر (الذات الشاعرة)، وتفضيلي أن يكون مترجم الشعر شاعرًا، ليس بدءًا من ذوقه الذاتي وميله إلى نص ما، وليس انتهاء بإتقانه ما استطاع من كل ما يلزم النص المترجم”.

كل هذا يعود بالقارئ الذكي إلى اكتشاف أن الشاعر الريشة هو “أُكتافيٌّ” حدّ الشغف الشعري لغةً وترجمة، “أكتافيو باث” الذي دوّن بكتابه “مثل من ينصت للمطر”، “الصورة الشعرية هي عناق الحقائق المتضادة”.

“بين ما أرى وما أقول، بين ما أقول وما أبقيه صامتًا، بين ما أبقيه صامتًا وما أحلم به، بين ما أحلم به وما أنساه، ثمَّ الشعرُ”. ويضيف ذات بوح بضفة صفحة أخرى: “يمنحنا الشعر قدرة لمس اللامحسوس، وسماع تيار الصمت الذي يغطي فضاءً دمّره الأرق”.

هكذا هم الشعراء المبدعون حين يعتنقون الشعر فيصير هويتهم، وحين يشدهم إليه بكل جاذبيته الفكرية وأناقته، يجيدون ترجمة أشعار الآخرين ما دام الشعر لهم الوطن والهوية، فاللغة الشعرية بكل هيبتها تأخذهم إلى غيبوبتها، لا يستفيقون منها إلا بعد انطلاق نوارس حروفهم نحو سماء ثامنة! 

يقول الشاعر الريشة تأكيدًا لهذا ودالًّا عليه ما دام كمترجم يسكنه الشاعر فيه بكل جسارة العطاء والإيثار المعقلن: “حين أكتب؛ لا أرى أحدًا ولا حتى أراني/ أفقأ عيون الرقباء بقلمي، وأسدّ آذانهم بحبري/ لذاكرتي المنتبهة ومخيلتي التأويلية عرسهما التأملي الهادئ/ أكتب بعناية محاولًا بما أغنتني مواهبي وتجربتي أن أترك أثرًا جميلًا/…. للكتابة غبطة قارئها وكاتبها”.

إنّ مؤلَّف “أزهار الشعر.. أضلاع العشب” أبان بقوة عن بأس الترجمة الشعرية لدى الشاعر محمد حلمي الريشة، وبأنها لا تقف عند قصائد ينتهي بها المطاف إلى ضمّها بين دفتي كتاب بحروف عربية، بل تجلى جهده الحثيث بكل المشاق والصعوبات في صياغته العربية بصيرورة دلالية مستقبلية حين أقدم على ترجمة نصوص شعرية باحترافية مترجم يدرك قيمة العلاقات النحوية الرابطة بين الكلمات مع الحفاظ على المعنى من دون تحريفه أو إسقاط جماليته الخاصة بلغته أو مرامي شاعر/ة النص الأصلي ممارسًا سلطته المخملية اللغوية بحضوره الشعري والثقافي الوازنيْن بتفاصيل ركز فيها على الجانب النحوي العربي مستعينًا- أحيانًا- بالتقديم والتأخير ممّا يخدم الدلالة، ويمتع مخيلة القارئ، وليحافظ على الفعل الشعري للشاعر/ة الأصلييْن، ويمنح الفعل القرائي للقارئ وللناقد فسحته المتشاسعة للانتشاء العقلي والمشاكسة القرائية، كل هذا من دون إغفال للإيقاع الصوتي للكلمة وللحرف وللسطر الشعري لبناء القصيدة، ولأثر ذلك في القارئ. 

تلك هي جمالية إبداع الترجمة لدى الشاعر محمد حلمي الريشة، حيث يستنطق ذاكرة اللغة الشعرية، سواء ثراتية أو حداثية، ليحقق لريشته وهي تختال ترجمة هويتها الإبداعية بلغة الضاد بمعايير دقيقة لغويًّا.

إنه الاشتغال على المرادفات على إيقاعيّ الصوت والدلالة وصداه ببنية القصيدة، إذْ عند كل قصيدة هنا تطالعنا باختلاف بيئات الشعراء الثقافية والإنسانية، اشتغل الشاعر اشتغالًا واعيًا وحكيمًا على مرادفات الكلمات، ليمنح النصوص أنفاسًا برئات متجددة بالمعاني الجديدة بظل وارف شعريّ، أكان بسكينة أم بإضاءة، فكلتاهما دهشةٌ.

ترجمةٌ تعلن أن للشعر أخلاقيات الصدق ووعي البوح، وللكلمات شرفها، وللحرف كرامته، وللدلالة أنفتها، وللمترجم المبدع ثوابت شعرية وثقافية تعصمه من كل ارتجالية .فلا لغة إبداعية معطاء تعيش بمعزل عن ثقافة الآخر الشعرية، بل هي التي تحث العين الثالثة للقارئ الواعي والناقد الرصين على تقدير قيمة النص الشعري المترجم .

هكذا، وأنا أقرأ كل نص شعري بذا العمل الراقي، أقنعتني- بكثير من الدهشة- ذائقة الشاعر بلغة آسرة تحتفي بكل نص شعري باحتفالية خاصة. توالت النصوص، واختلف البوح فيها قراءة ورسمًا، حيث ألبس الشاعر محمد حلمي الريشة كل قصيدة ثوبًا بلون أنيق يناسب رشاقتها/ عنفوانها، ويربت على قلبها /حزنها/ عَبْرتها/ بسمتها ببأس لغته الحاني.

أن تقرأ للشاعر والباحث والمترجم الدكتور محمد حلمي الريشة، هو اختبار للغتك الشعرية والثقافية من دون ثناء ولا مجاملة، بل يحمّلك مسؤولية قراءتك للغته الباهظة ذائقةً ما دام هو الناسك المتأمل في محراب عزلته الإبداعية وهو المريد للشاعر فيه.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات