ايفانا مارشليان حاورت الشاعر الراحل “أنا الموقع أدناه محمود درويش”: “تركت وجهي على منديل أمي … كل ما كتبته لم يولد من حزن أسود”

10:13 صباحًا الخميس 27 مايو 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
إيفانا والكتاب

يحضر الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في كتاب الصديقة الزميلة الكاتبة القديرة ايفانا مارشليان، حضور العائد للتو من مصيره النهائي. ويجسد الكتاب ومحتواه مسار الشعر والحياة ، بنبض وخطوات مكتوبة بخط الشاعر الراحل.
فقد أصدرت إيفانا مارشليان كتابها “أنا الموقّع أدناه محمود درويش” وسجلت فيه حوارها الباريسي الطويل مع محمود درويش مدوّناً بخط يده. ففي بداية التسعينات من القرن الماضي، جمع المكان الفرنسي ايفانا بالشاعر، وذلك في لقاء صحافي سطّره درويش نفسه ليحمل في طياته وحروفه بذور صداقة استمرت حتى أيامه الأخيرة .و تبرز وصية الراحل بخطه وقلمه في الكتاب :

“لقد تركت لديك أوراقاً احببتها فعلاً وأنا أكتبها. تعرفين أنني خصصت لها أكثر من أمسية لإنجازها، فهل تقدّرين جهودي وتحتفظين بها لقرّائي في مكان آمن؟”

رسالة بيروت – إسماعيل فقيه


كتاب مارشليان يكاد يكون أهم من وثـــــــيقة تاريخية أدبية، ذلك أن ما كتبه محمود درويش قبل خمسة وعشرين عاماً ،يكفي ليكون الوثيقة التي توثق حقيقة الشعور والأحاسيس الجياشة ، ففي مقدمته يقول: “أنا الموقع أدناه محمود درويش، اتعــــهد باسم الضمير والأخلاق والمقدسات، بأن أسلّم الحوار الصحافي مع الآنسة إيفانا الرهيبة، كاملاً، في الساعة الرابعة من بعد ظهر السبت الموافق 28 ديسمبر العام 1991، وإلاّ، فمن حق إيفانا أن تشهّر بي، علانية، وعلى رؤوس الأشهاد والأشجار، 25/12/1995، محمود درويش”.
تفصح ايفانا أن الكتاب هو : “كنز ثمين أحتفظ به لأنه جاءني مباشرة من شاعر الحياة ” ، وفي تقديمها تروي مرشليان ان لقاءها الأول مع درويش:” كان في ابريل في 1991 بعد أمسية قرأ فيها من ديوانه الأخير “أريد ما أريد ” واحتشد لسماعه آلاف العرب والأجانب”. فيما كان لقاؤها بدرويش في منزله الكائن في ساحة الولايات المتحدة الباريسية والمطلة من طبقته الخامسة على برج “إيفل” و”أشجار المنــــــفى والحمامات الرمادية“، وذلك بعد أن وافق الشاعر الراحل، المعتكف عن المقابلات لأكثر من أربعة أعوام، على إجراء حوار أدبي مع مرشليان، بطلب من انطوان نوفل، رئيس تحـــــــرير مجلة الدولية، وكانـــــــت يـــــــــومها محــــــــررة ثقافية فيها.
في الرابعة من بعد ظهر العاشر من الشهر الأخير (10/12/1991) وصلت الصحافية مارشليان وتبعها مصوّر المجلة إلى شقة درويش، وهناك بدأ الحوار الأول، وبدا واضحاً ان أسئلة درويش لمارشليان حولت المقابلة إلى حوار وتحول الحوار الأول إلى قصة وحكاية وربما الى رواية.وتقول ايفانا: ” كأنها المرحلة الحاسمة التي بدأت لتحديد مسار الفكر والوعي والمعرفة والتعارف بيننا. ما أجمل وأرق تلك المرحلة“.
ويتخلل الكتاب ما تكشفه ايفانا أنها كانت في الثانية عشرة عندما تعرفت مصادفة إلى كتابات درويش. فقد سلمتها إدارة المدرسة (مدرستها) في حفل انتهاء العام الدراسي مغلفاً مختوماً دوّن عليه: جائزة اللغة العربية. وكانت “يوميات الحزن العادي”،(عنوان كتاب لدرويش) ولما سألت والدها عن محمود درويش أجاب: “هو أهم وأشهر شاعر فلسطيني اليوم“.


وتكشف مارشليان أيضاً أن درويش فاجأها حين أعلمها بأن تترك الأسئلة عنده وتتصل به بعد أسبوع، وكان اتفاق على لقاء وكان اللقاء في أول أيام العام 1991، لكنها وصلت متأخرة إلى شقة الشاعر ساعة كاملة، مع ذلك لا هي اعتذرت ولا هو عاتب، وتقابلا وتحادثا… شربا قهوة قام بتحضيرها درويش وتبادلا الهدايا ثم طلب منها تأجيل الحوار إلى يوم آخر، وربما أسعدها الأمر والطلب،ففاجأته قائلة: “هل توقّع تعهداً بهذا الوعد؟” فما كان منه الا أن استل ورقة بيضاء وسطر فيها ، “أنا الموقع أدناه” الوصية الذائعة الصيت التي تركها وأوصى بها الراحل. ولما سألته ايفانا: “هل ستسلم الموضوع مسجلا“. أجاب: “لا مكتوباً، سأدوّن الأجوبة بخط يدي لأهديك إياها!”
في 28/12/1991 في السادسة مســــــــاء بدأ اللقاء الثالث ــ تقول ايفانا ــ “ثم جلس جلس الشاعر إلى طاولته يكمل أجوبته“، فيما هرعت مرشليان لإعداد القهوة. ولكن الشاعر تلكأ من جديد، توقف عن الكتابة، وذهبا إلى العشاء في مطعم صيني: “هو يحب العيش في باريس. مرحلة غريبة ومهمة في آن، لكن أمنيته العودة إلى فلسطين، احتضان أرض فلسطين وأهلها… بعد ذلك ، بعد العشاء شاي بالياسمين وبوح واعتراف من درويش : “كــــــــل ما كتبته من قصائد لم يولد من حزن أســـــــود، بل من فرح غامض حزين لم يفارقني أبداً حتى هــذا العمر”.

الحظ ثم الحظ ــ تقول ايفانا ــ وتعترف انها كانت : “مسألة حظ ان ألتقي بدرويش ذات مساء في خريف باريسي، وأن يفتح لي طوعاً باب الحوار معه على مصراعيه“… سلمها درويش أجوبته وأوصاها: “خبئيها معك وحافظي عليها جيداً. أنت وحدك ستعرفين متى يحين الوقت. ربما بعد 20 عاماً أو أكثر. ليكن كتاباً أنيقاً، مكملاً بالصور أو الرسومات المناسبة، ولا مانع من أن يضم ذكرى نزهاتنا في شوارع (الحي السادس عشر في باريس). فقط كي لا تنسى مثلنا هذه النزهات قريباً ويمر عليها الزمن، حينها لن أكون ولن تكوني”.
تنقل ايفانا ما قاله الراحل عن أمه، يقول محمود درويش: “أمي هي أمي. ولو استطعت أن أفك خصرها وضفائرها من لعنة الرموز لفعلت. نعم، تركت وجهي على منديلها، لأني خارجها أفقد ملامحي. وعندما لا أطلب من كل هذا المأسوي، الذي هو ما يدور في بلادي وعليها، غير منديل أمي، فلأنني أسعى لاسترداد ملامحي الأولى، لاسترداد إنسانيتي في صورتي كما هي، لا كما ترسمها الجريمة الكبرى التي ارتكبت في بلادي من ناحية ، ولا كما ترسمها البطولة من ناحية أخرى“.
وكلام أعمق يبوح به درويش عن خيمته: “خيمتي هي أحد اسماء بؤس شعبي. هي أحد عناوين المصير المأساوي لجزء كبير من شعبي لا يستطيع العودة إلى وطنه من جهة ، ولا يستطيع الاندماج في منفاه أو بين بني عشيرته من جهة ثانية”.


ويكرر درويش ما قاله في مناسبات :” قلت لا هوية إلا الخيام… إذا احترقت الخيم ضاع منك الوطن.. كنت أعبّر عن سخرية احتجاجية من خطاب قومي حدّد هوية الفلسطيني بضرورة صيانة بؤسه، بينما هدف الحركة الوطنية الفلسطينية إنسانية الفلسطيني وكرامته، وتطوير التعبير عن حقه في العودة وقدرته على إنجاز هذا الحق، ولذلك فإن التخلص من ظاهرة المخيم الراهنة هو أحد أهداف العمل الفلسطيني“.
أما عن بيروت ، فلمحمود درويش كلام من ذهب . عن بيروت يقول الراحل كما تروي الكاتبة: “عشت في بيروت عشر سنوات كانت كافية لأن اعبّر عن حبي الإنساني أكثر لبيروت، لولا صفتي الوطنية التي قد تخدش من يعتقدون أن التعبير عن حب بيروت يعكس نيّة في التوطين.
مع ذلك، كتبت كثيراً عن هذه المدينة التي توقع زائرها في حالة الادمان العاطفي عليها. ولأن بيروت أكثر من مدينة، فإن كل واحد منا يبحث عن نفسه ويجدها في مرآة بيروت، من دون أن يعي ان بيروت ليست هنا. وانه ليس في بيروت بقدر ما مقيم في صورتها التي شارك في رسمها
“.
الشعر؟ هو الشعر القائل بكل شيء .عــــــــن الشعر يسال ويقول الشاعر درويش: “لماذا الشعر؟ لأني استطيع ان اقول فيه وأن افعل ما لا أستطيع قوله أو فعله خارج الشعر. فلو فعلنا وقلنا خارج الشعر ما نفعل ونقول داخله، لبدا الشـــــعراء عصـــابة مـــــن المجـــــرمين والمجانين.
لا أستطيع في القصــــــــــيدة إلا ان أكون حراً: ولا استطيع أن أكون حراً إلا اذا كنت عارياً تماماً من الأقنعة، ومن الأهداف، ومـــــــــن التقاليد، ومـــــن الحـــرية ذاتـــــــها. أمــــا ما يبقـــــى مني خارج الشعر فـهو: القناع، الهدف ، والموروث، وشرط الحرية”.
قال درويش الكثير الكثير لمحاورته ، وكأنه يريد ان يقول أكثر ، لكنه أنهى الحوار بكلام ساطع ، تنقله مارشليان :”لم يعد هناك ما يكفي من الوهم لأخاف خيبة الأمل، فالعقد الأخير من هذا القرن العاصف علمنا ان نفتح باب المخيلة لكافة الاحتمالات. وعلّمنا انه ليس للهاوية من قرار. وعلّمنا ألا نفرح او نغضب بما يقدمه لنا الواقع التاريخي من مفاجآت. كأن علينا ان نركب عقلاً آخر لكي نتحمل صدمة المفاجآت، ولكي نتكيف مع متطلبات فهم العالم الفوضوي الجديد. كل شيء ، إذا مؤقت ما دام التاريخ في حالة تعويم عام، وما دام عشوائياً إلى هذا الحد. ومع ذلك، ما زال في وسعي ان أحلم، ما زال في وسعي أن أواجه صدمة الواقع بصدمة شعرية هي الوحيدة الكفيلة بتبرير حياتي. ما زال في وسعي أن اشهد على أكثر من تاريخ عشته وأعيشه في لحظة واحدة.
ماذا يبقى من كل ذلك؟
لا أعرف. وربما لا أريد أن أعرف،
فليس في قلبي مكان لطعنة جديدة”.

محمود درويش في القاهرة


كتاب وثيقة ذاكرة ، أو سيرة حياة لا تنتتهي بانتهاء الكتابة. هكذا وثقت مارشليان شاعرية الراحل وما تمثله هذه الشاعرية من تاريخ ومعنى وذكرى وذاكرة. وما زالت تتلقى الدعوات في بلاد كثيرة لتتلو من تلك الذاكرة ما ينعش حاضر الزمن وأهله. وهي فخورة بأنها استطاعت ان ترسم خارطة حضور لشاعر يمثل قضية الحياة وناسها، وترى من واجبها أن تنشر تلك الذاكرة على مداها، رغم حذرها الجميل من الوقوع في دائرة الضوء الذي أخذها اليه الكتاب وشاعره:” لا أسعى الى الشهرة ولا أريد . صحيح أن الراحل كان نورا للقضية التي يمثلها وتالياً ، هو نجمها،ولكن لا أريد لظلالي أن تمتد ولو خلف ذاكرة الغائب”.
وثّقت ايفانا الإحساس الدفين والباطني لشاعر شهد تحولات الزمن المرّ ، وبكتابها هذا، وبهذا الشكل المختلف من السيرة المكتوبة والمنقولة بأمانة المبدعة الواثقة الهادفة الى سماء صافية، حققت مشهداً لا تمحوه تحولات الزمن ولا اشتقاقات المكان ، بل يبقى صورة بارقة ولامعة ، تعطي المسافة وأنوارها ، لأجيال تاتي وتتلاحق .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات