الروائي زياد كاج يكتب “رأس بيروت” ويضعه مثل “صندوق في بحر، نار على تلّة”

09:40 صباحًا الجمعة 25 يونيو 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

زياد كاج، كاتب وروائي لبناني من الجيل الجديد الذي حقق حضوراً مميزاً في كتابة الرواية الحديثة، إن لجهة شكل الرواية بما تمثل من لغة مفتوحة على احتمالات تطورها، وإن لجهة مضمونها الذي يشكل حافزاً كبيراً في وعي التاريخ والمراحل والأمكنة. وروايته الأخيرة،”رأس بيروت صندوق في بحر، نار على تلة”، تجسد الكثير من صور الذاكرة البيروتية وتالياً، تستحضر المكان والزمان من زاوية خاصة جداً. فالكاتب هو أبن رأس بيروت، حيث نشأ وترعرع وعاش، وروايته هي أشبه بجواب على سؤال العيش الذي مارسه. والحديث معه يكشف ويعرف أكثر على تجربته الروائية الحديثة:

رسالة بيروت – إسماعيل فقيه

1- لماذا اخترت الرواية سبيلا للتعبير، وكيف تبلورت معك فكرة الكتابة ؟

الحقيقة انني لم اختر عمل الراوي او كاتبة الرواية— وانا لا ازال في بداية نشاطي الروائي— بل اخبار القصة وحب السرد والتمتع بذلك هو الذي اختارني. كأن في الأمر شيء من القدر، من سكة مرسومة لك مسبقا. كل السنين التي مرت علي قبل خوض غمار الكتابة، شعرا ثم رواية، لا احسبها من عمري الجميل.
كنت دائما اسأل نفسي ” لماذا انا في شرود دائم في الصف” و ” لماذا علاماتي المدرسية وحتى الجامعية كانت وسطية وما دون ؟” لأنني كنت منشغلا— او قدر لي ان اكون مشغولا وغارقا في لملمة التفاصيل، في التقاط الصور، دراسة الناس من حولي وطرح العديد من الأسئلة القاسية على نفسي تحديدا. انا من الناس الشديدي القسوة مع انفسهم وامارس النقد الذاتي دوما.
بداية رسمت، ثم كتبت الشعر بالانكيليزية، ثم بالعربية في صحيفة ” النهار”، ثم اصدرت مجموعتين شعريتين بالعربية، وكرت السبحة لنصل الى اربع روايات، كانت آخرها : ” رأس بيروت: نار على تلة، صندوق في بحر”.
الرواية ملعبي المفضل، لأنها تشبه ملعب لعبة كرة القدم الأميركية، وهي تسع وتستوعب معظم اشكال التعبير. البعض يصفها ” بالمغامرة” او ” مصارعة وحش” فكري…..افضل تعبير:” الرواية مشوار فكري ممتع ومسؤول”. واذا فقد الراوي متعة الكتابة عليه ان يتوقف .

2- رواياتك تتحدث عن المدينة بما تمثل من حياة وذاكرة وعادات، عن اي مدينة تتحدث، طبعا تقصد العاصمة بيروت، ولكن هل مدينة بيروت هي نموذج خاص يستحق التفرغ له وللكتابه عنه، ولماذا؟

كان همي الأول في روايتي منطقة “رأس بيروت” تحديدا، حيث كانت المشاهدات الأولى والوعي الأول والتعلم، ولو بطريقة صعبة وقاسية احيانا. غريبة مدينة بيروت! قد تبدو للوافد الجديد قاسية، وصادة، وغير مرحبة. لكن ما ان يحل هذا الوافد الجديد في بيروت ويبدأ ” بالشرب من دلوها”— كما يقولون بالعامية، يتحول ومع مرور الزمن الى كائن بيروتي. معه حق الروائي الكبير جبور الدويهي حين قال بأن المكان هو البطل الأول في الرواية.
بيروت تستحق اكثر من رواية واكثر من فيلم. كتب الكثير عنها، ومن هذه الكتابات كانت بعض الروايات. لكنني ارى ان ما روي عن بيروت يبقى ناقصا ويعبر فقط عن تجربة معينة ووجهة نظر خاصة بالراوي .مثلا ، الاديبة غادة السمان روت عن بيروت المعتمة ، القاسية والعاهرة.وفي روياتها قالت ان الحرب قادمة. هذه وجهة نظر. وانا هنا اعطي مثال فقط دون المساس بمكانة الأديبة.
بيروت كمدينة ” كوزموبوليتانية”— مدينة منفتحة على كل العالم، او سمها اسفنجة تمتص الجميل والقبيح، من هنا سحرها الخاص، وخلتطها المميزة. حتى الحيطان والأرصفة في بيروت، وتحديدا في رأس بيروت، تكاد تتكلم، تكاد تتأنسن، من كثر ما رأت واختبرت .
في رحلة الى الصين سنة 2009 ، كنت خلالها مبعوثا من وزارة الثقافة في مؤتمر شعري عالمي، قرروا اخذنا الى اعلى جبل كي نرى ” النهر الأصفر” من فوق. نهر مخيف، وهم يقولون انه اذا كان النهر الأصفر بخير، فالصين تكون بخير ايضا.

يوما وقفت ونظرت…وحنيت الى شارع الحمراء وكدت ابكي. فكتبت قصيدة حنين لهذا الشارع الذي عشت فيه طفولتي ومراهقتي وشبابي وبدأت الخطوات الأولى في شيبي فيه ولا ازال. في بالي مشروع روائي شامل عن بيروت. يوما ما سأعمل عليه.

3- كأنك تعيش حياة الناس في المدينة، وروايتك تبرز ذلك بوضوح، كيف دخلت وتعمقت في هذا العالم الخاص؟

انا مراقب ومستمع جيد. منذ نعومة ” عقلي” وانا افعل ذلك بالفطرة. لدي موهبة فطرية في الرسم، لذلك يلفتني كثيرا شكل الناس، طريقة لبسهم، تعابير وجوههم. انا— وعفوا عن تكرار كلمة “انا”— قارىء جيد للوجوه. ومستمع جيد للجمل والعبارات والتعليقات التي تدور من حولي، دون التدخل والتورط في ذلك. هكذا خلقت. ان اكون مراقبا جيدا. هي موهبة ورثتها عن ابي— ناطور البناية الوحيد في رأس بيروت الذي كان يقود دراجة نارية ويقرأ جريدة النهار ويقرأ كتاب ” السلام المفقود” لكريم بقردوني دون ان يسألني سؤال واحد.
يبدو انني كنت احمل كاميرا فيديو ومسجلة في عقلي دون ان انتبه. اتعبني الأمر في بداية شبابي. لكنني اليوم في موسم الحصاد.

4- تمزج وتشرح وتفسر مشاهد كثيرة في المدينة وناسها، الجغرافيا البيروتية واهالي بيروت جوقة او شبه اوركسترا في نصك الروائي، هل استحضار المكان لديك كان من خلال استحضار ناسه او العكس، او معا ؟
هي رواية نوستالجيا— كل من كتب في الصحف على انها رواية حنين الى زمن لم يبق منه الا اليسير— هو على حق. لدي الحنين الكبير لبيروتتي الغالية— بيروت الكتب المستعملة تباع على الأرصفة، ودور السينما في شارع الحمراء، وكورنيش المنارة وباعة القهوة…وايضا بيروت غير المتشاوفة وغير اللاهثة وراء المظاهر والسيارات الفارهة والعمارات الشاهقة. نعم احن الى رأس بيروت يوم كان كشاش الحمام اكثر الناس صدقا وبشاشة، ويوم كانت الجوامع تفرش بالحصير ولم يكن رجال الدين يتعاطون بالسياسة كما هو حاصل اليوم.
في رواية ” رأس بيروت” استحضار لروح والدي— ابو رياض—وشلته الذين عاشوا على سهراتهم ومغامراتهم الصغيرة بعيدا عن تعقيدات الحرب ورخص السياسة. كانوا شلة ناجحة ومن كل الطوائف، وعاشوا فرحين وعلى ضوء الشمعة، ونحن مع العمر فهمنا وادركنا سر احتفالهم بالحياة.
يبقى المكان في رأس بيروت، فعلا له ميزته الخاصة، لما شهد من عيش— وليس تعايش— بين المسلمين والمسيحيين.لم نكن نتحدث عن طائفة او مذهب بعضنا البعض. رأس بيروت وهبتنا منطقة فردان والروشة والمنارة والجامعة الأميركية وحديقة الصنائع وشارع الحمراء وقريطم وقصورها.
رحم الله امرء عرف حده فوقف عنده…..هذا ما تعلمته في رأس بيروت.

5- الكتابة عن المدينة وناسها لا يخفي موقفك المنحاز الى فكرة او قناعة معينة، هل قناعتك هذه قائمة فيما ترمي اليه من خلال نصك او انك تضمر ما هو ابعد وابلغ ؟

لا استعمل الكتابة للوصول الى هدف ما، ولا اضع في عقلي متلقي او جمهور ما. لكنني حين اصوب على موضوع ما— مثل حصار بلدة دير القمر سنة 1983— والذي كتبت عنه رواية لاقت استحسانا ، مع ان الموضوع كان يعتبر من الممنوعات في الأدبيات اللبنانية.وهذا لأننا تعلمنا كطوائف وشعوب متناحرة منذ القدم على دفن الماضي وعدم الرغبة بالعودة اليه او حتى التعلم من تجاربه.
ففي مقاربتي لموضوع روايتي، طبعا انا اتكلم عن وجهة نظري، من دون ان اكون واعيا للفعل بحد زاته. لدي انسياب وعشاوائية في التعبير لا انوي التخلي عنهما. لاحقا اكتشف ان النص يخدم قضية معينة او يحاول ان يلقن القارىء درسا او عبرة ما. شرط ان لا يفلت هذا القاريء من قبضتي او ان يشعر بالملل— ولو لبضعة صفحات.
طبعا، من خلال رواياتي سواء في ” اولاد الناطور السابق” وصولا الى ” رأس بيروت”، يشرفني ان اخدم قضية العلمنة ومشروع فصل الدين عن الدولة من خلال تعرية وفضح مجتمعاتنا المتقوقعة التي صح فيها القول :” بيت بمنازل كثيرة”.
بصراحة، انا مستعد ان اضحي بالغالي والنفيس من اجل القضية العلمانية ، خاصة اننا نعيش في مزرعة من الطوائف ابعد ما تكون عن القيم الروحية والسماوية للديانات.
6- متى شعرت بضرورة الكتابة واختيار هذا السياق، اقصد الدافع الذي حرضك على خوض هذه التجربة؟
ربما الروائي او القاص او حتى الشاعر وصاحب ” اللوثة” الفنية والثقافية يشعر بأنه مختلف منذ صغره. وهذا ما حصل معي. لم افكر يوما بتجميع المال والثروة— وهذا في بلد مثل لبنان خطأ صحي!
حصلت معي حادثة تساعد على فهم نفسية الشاعر والروائي: كنا شلة شباب في حي الصنوبرة في رأس بيروت. احد الشباب كان مغرما بفتاة رائعة الجمال وتسكن في الطابق الأول في احدى البنايات. لاحقا قررت الفتاة ” تغيير طعمة ضرسها” وصرنا نراها ما شاب جديد في الحي وعتيت. قرر الشباب ضرب الشاب. فربطوا له وانهالوا عليه ضربا. انا لم استطع المشاركة! فهو كان وحده ونحنا كنا اكثر من سبعة.
ايضا كانت لي تجاربي الأولى وخربشاتي في المدرسة والجامعة وفي بعض الصحف المحلية ، تحديدا ” النهار” و ” البناء”. لكن الجد بدأ ، عندما نشرت اول مجموعة شعرية بعنوان ” كان عليك ان تقلب السلم” لدى دار نلسن، ثم كرة السبحة.


7- اين انت داخل روايتك، الى اي مدى تجسد روايتك واقعك؟
جل اعمالي هي بنت الواقع. حسابيا، هي 90% من الواقع و 10 % من فلفل وبهار مطبخي الخاص. اذ لا بد من نكهة خاصة.
في ” رأس بيروت” انا صوت الشاب الذي يروي زمن بداية السبعينات ثم الثمانينات، ثم انا ابي كما عرفته وكما كان يفكر وهو يحكي زمن الخمسينات والستينات.وحتى الشخصيات الأخرى، مثل يوسف العيتاني، هي اتت نتيجة مراقبتي له واحتفاظي بمفاتيح وملامح شخصيته الطيبة والمخلصة.هو وغيره من جيراننا الأرمن كانوا يدخلون الى بيتنا كل يوم كأننا اهل .
الحقيقة ان القسم الأكبر من روايتي الأخيرة هو من واقعي الخاص وواقع بيئة رأس بيروت الاستثنائية شكلا ومضمونا. اما القسم الباقي فهو جاء نتيجة حوارات مع معمرين وابحاث تاريخية لم تستهلك الكثير من وقتي.
8- هل تعتمد على الواقع في الكتابة او انك تستحضر الخيال او تنطلق منه مثلا، او انك تنقل الواقع كما هو مع لمسات ابداعية واجبة؟

انا احلم برواية لا تمت الى الواقع بصلة لا من قريب ولا من بعيد. رواية خارج المكان والزمان. اذ لا بد من الهروب من الزمن الذي نعيشه لأنه— حسب قول زميلتي في المكتبة— هو زمن اغبر. لكن هذه هي حال كل من يتعاطى صدقا بالشأن الثقافي او ينظر الى الوجود من منظار شعري وخيالي. فالمثقف هو عادة في حالة حرد “وسنكفة” مع الزمن والمحيط. هذا ليس بجديد.
اما اعمالي السابقة فهي بنت واقعي انا. لأنني ابن الحياة والناس العاديين وابن الطرقات وعجقة السير ، ومقهى الويمبي والمودكا. المقاهي هي طقس عبادتي. ساحتي وملعبي المفضلان. وواقعيتي في عالم الرواية تنبع ايضا من تجربتي المريرة والقاسية في السنوات الأربعين من عمري. قدري لي ان اشهد فترة طويلة من الحرب ألأهلية وصولا الى اجتياح 1982 ومجزرة صبرا وشاتيلا حيث كنت متطوعا في الدفاع المدني. ثم لاحقا المرض الذي ورثته، ثم الزواج المختلط وانا ابن عائلة مختلطة….كلها امور صعبت علي الحياة، لكنها لقنتني دروسا لن انساها. انا من هنا اغرف، وسأستمر.
طبعا استعين بالخيال فقط لخدمة النص وكسب ود القارئ.

9- ربما كانت روايتك صورة لاستحضار تاريخ عابر تريد ان تقدمه نابضا في الواقع الآني ؟
اذا كان التاريخ عابرا فهو عبرة لمن يريد ان يعتبر. اما لمن لا يريد ان يعتمر، فداوود سيستمر بقراءة مزاميره!
والحاضر ” المسخ” هو ايضا عابر مع دورة الزمن. ماذا يبقى ؟ ايهما افضل ذلك الزمن الجميل حيث كانت الناس على اختلاف معتقداتها تعيش مع بعضها— ولو بالحد الوسطي— ام زمن اليوم حيث الكراهية ورفض الآخر والتعصب والجدران العالية بين الطوائف والمذاهب تعلو بفضل تربتنا الصالحة واستعدادنا الفطري كطوائف لتقديم الخدمات للخارج على كافة المستويات.
اذا اصريت على تسمية ” استحضار”—– اقبل ذلك، شرط اضافة العبارة التالية: ” استحضار الأرواح الطيبة لطرد وحوش هذا الزمن الردىء”.

10- اين تصنف نفسك ككاتب رواية. هل انت من جيل معين، او لك خصوصية رواية، من انت كروائي حديث يتحدث عن الماضي بلغة هادئة جدا؟

لا استطيع تصنيف نفسي ولا اميل الى ذلك. نعم انا من جيل السبعينات ثم الثمانينات والتسعينات. الهوة بدأت تتسع بيني وبين جيل الشباب وهذا يخيفني. احب كثيرا ان استمع الى هذا الجيل ” النتي”— وهو جيل يميل الى التحدث والتفكير بسرعة. احب هذا الجيل واراهن عليه وامقت تلك العادة السيئة عندنا في الشرق التي تلعن كل جيل صاعد على اساس انه حامل بذور الفساد معه. هذه حماقة.
لست ماضويا رغم تورطي في بعض القضايا التاريخية مثل حصار دير القمر سنة 1860 و 1983. انا مهووس بالمكان واحب التاريخ للتعلم وليس لنبش القبور. لكننا كأهل هذا الشرق نحن ماضويون بصورة عامة. الماضي يعني الحاضر. اعتقد انه حان الوقت لنسيان الماضي الملطخ بالدماء والحروب والاغتيالات ونحافظ على القيم والايمان والعائلة . لقد كسرت رقابنا ونحملق بالسماء…..حان الوقت كي نتطلع ببعض ونكتشف بعضنا البعض قبل ان يفوت الأوان.
واخيرا، ستكتشف عزيزي اسماعيل في روايتي القادمة عن مؤسسة الزواج انني هاديء فقط على الورق!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات