منبت أغصان السلام في تونس: اللاّس مهرجان الحِلّقَة

04:10 مساءً الأربعاء 17 نوفمبر 2021
خالد سليمان

خالد سليمان

كاتب وناقد، ،مراسل صحفي، (آجا)، تونس

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

لا يمكن أن يفارقك مذاق زيت زيتونها الضارب جذوره في عمق التاريخ وعبقه أيضا، وهومن أجود أنواع زيت الزيتون في تونس إن لم يكن أجودها على الإطلاق .. إنه زيت ” اللاس” الذي أكتسب إسمه من القرية التي تنتجه والتي يقال أنها أقدم القرى التونسية على الإطلاق إذ يرجع تاريخها إلى ثلاثة آلاف عام مضت .. فما هي حكاية قرية ” اللاس” ..

في قلب سهول معتمدية ” السرس” التي يقال أن اسمها مشتق من الاسم الروماني ” سيراس” والتي تتبع ولاية “الكاف” بالنطق العربي المشتق أيضا من إسمها البربري أوالروماني القديم “سيكافينيرنيا” .. تقع قرية ” اللاس ” الجبلية الجميلة والمحاطة بما يشبه الدوامة الجبلية .. وهي عبارة عن مرتفعات شاهقة ضمنت لها قدرا كبيرا من العزلة ونقاء الطقس .. فضلا عن عيون المياه العذبة التي يوفرها ذوبان ثلوج المرتفعات عندما ينقضي الشتاء القارس، والخزان الجوفي الممتلئ بفضل وفرة كميات الأمطار التي تتهاطل على المنطقة خلال السنة .. ونسبة الرطوبة التي تضمن خصوبة أراضي الناحية حتى في المناطق الصخرية ..، وتتوسط “اللاّس” المنطقة الواقعة بين مدينتي “مكتريس” ” مكثر” حاليا .. و    ” زنفور ” ..، على ضفاف واديين هامين هما ” عمير ” و” تاسة “، وتتخللها وتحيط بها غابات الزيتون التي يرجع تاريخ بعض أشجارها إلى عهد الرومان الذين اتخذوا من تلك المنطقة الريفية منتجعا ومكانا للإستجمام ..،

وتعد السهول المحيطة باللاّس مناطق مثالية للرعي حيث يتم تربية سلالات جيدة ومتميزة من الأغنام، كما يقوم أهالي القرية بتربية النحل الذي يرعى رحيق الزهور والزراعات التي تغص بها المنطقة خاصة ” الكاليتوس .. الكافور “، وتضم المنطقة مقابر جلمودية قديمة تدعى         ” ميغاليث ” والتي تعد أبرز معالم تلك القرية القديمة والجميلة .. وهي عبارة عن صروح صخرية   وشواهد يقول البعض أنها ترجع إلى العصر الحجري أوالبرونزي .. لم يتبقى منها بحالة جيدة إلا ثلاثة صروح بكل منها سبعة غرف يعد كل واحد منها مقبرة مستقلة تضم عشرين من الرفات البشرية في ستة من تلك الغرف أما السابعة فتستخدم لتجميع الهياكل العظمية بعد مرور حقبة من الزمن كما جرى        ويجري العرف منذ قديم الأزل منذ أقام الجنس البشري مقابره ..، ويسعى أهالي المنطقة للحصول على رعاية وعناية منظمة اليونسكوبتلك المنطقة الفريدة واثارها ..

وتوجد روايتان بخصوص إسم المنطقة التي يقال إن من إكتشفها وحقق تاريخها هوشخص أمريكي يدعى ” جاثروود “، الرواية الأولى تقول .. أن أول من عَمر تلك القرية هوشخص بربري أوروماني يدعى ” إلياس ” وإشتق إسم تلك القرية من إسمه أوبالأحرى كتحريف لإسمه، أما الرواية الثانية .. فتقول أن إسم المنطقة مشتق من إسم زهرة نبات ” الآس ” الذي كان منتشرا في المنطقة ..

في ” اللاّس” تشعر بعزلة آمنة وأنت محاط بأغصان السلام .. أغصان الزيتون التي تنبتها فروع تلك الشجرة المباركة، وجودة زياتين ” اللاّس ” سواء كانت منتجة للزيت أولما يعرف بزيتون الطاولة لا يمكنك أن تخطئ مذاقها المتميز والرائع في بلد أشتهر بإنتاج الزيتون وزيته مثل تونس الخضراء،     ومن المعروف أن أفضل مناطق إنتاج زيت الزيتون خاصة من ناحية الجودة الشمال الغربي التونسي حيث يكثر ما يطلق عليه الزيتون ” البعلي ” وهوالزيتون المسقي بماء المطر، ورغم تميز زيت زيتون الشمال الغربي في مذاقه وجودته .. إلا أن الزيت الذي تنتجه منطقة ” اللاّس ” يبقى فريدا من نوعه .. لذا فقد قرر أهل المنطقة ومتساكنيها إقامة مهرجان لجني الزيتون وعصره ..

– مهرجان الحِلّقْة :

“الحِلّقْة” هونطق مصطلح ” حَلَقة ” باللهجة المحلية والتي تؤدي نفس المعنى شكلا ومضمونا لتجمع بشري يحيط بإحتفال أوحدث ما في شكل ” حَلَقة ” ..، وهوالإسم الذي إختاره أهل المنطقة لإقامة مهرجان ريفي بسيط وجميل يحتفلون فيه بجني وعصر الزيتون، كما يعرضون فيه بعض المنتجات الفلاحية المحلية عالية الجودة وأهمها الزيتون، وزيت الزيتون، وعسل النحل، والبسيسة إلخ .. إلى جوار بعض الصناعات التقليدية الخاصة بالمنطقة ..

ويقوم بإفتتاح المهرجان الذي يبدأ في السابعة صباحا وينتهي قرب منتصف النهار المسئولون المحليون وعلى رأسهم والي ” الكاف ” ومعتمد معتمدية ” السرس ” .. حيث يتم حضور جني الزيتون ونقله إلي المعاصر، وزيارة تلك المعاصر للإحتفال بباكورة إنتاج زيت الزيتون، ثم تفقّد السوق ومنتجاته، ثم يتحلق الحضور ليشهدوا إحتفالا لطيفا تعلوفيه أنغام آلة ” الزُكرى ..  المزمار ” التي يصاحبها قرع الطبول مع إستعراض للخيول، ويصاحب تلك الإحتفالات عمليات البيع والشراء خاصة فيما يتعلق بزيت الزيتون وثماره، وعسل النحل في الأساس ..

كما تشهد القرية رواجا تجاريا في مجال بيع الأطعمة التقليدية حيث يتناول رواد المهرجان إفطار الصباح خلال جولاتهم وإحتفالية المهرجان، ومع منتصف النهار يبدأ رواد المهرجان وضيوفه في التوجه لتناول طعام الغداء قبل أن ينطلقوا للعودة من حيث جاءوا .. ولا ينسوا عند إنصرافهم تعبئة بعض المياه من العين العذبة عند مدخل قرية ” اللاّس” بعد أن عرفوا حلاوة مائها ونقائه عند القدوم ..

وقد شهدت دورة المهرجان لهذا العام إزدحاما كبيرا بعد إنقطاع الأنشطة الذي سببته جائحة كورونا،   ولم يكن التنظيم المتواضع للمهرجان متناسبا مع حجم الحضور الهام والكبير، والذي شهد حضور من بلدان عربية شقيقة من المشرق والمغرب، ومشاركة فرقة فنون شعبية مصرية، لكن ما عوض كل ذلك هوالحفاوة الكبيرة والكرم الملحوظ الذي قابل به أهالي ” اللاّس ” الطيبين الودودين ضيوفهم .. وعلى رأسهم السيد / نجيب الجريدي .. وحرمه المصون وأبنائه وباقي أسرته الكريمة اللذين إستضافوا في منزلهم العامر كافة الصحفيين وسيدات ورجال الإعلام المشاركين على وجبة غداء محلي متميز للغاية من إعداد الطباخ المحلي للمنطقة “محمد الحبيب” الذي أعد الوجبة الإحتفالية الشهيرة لمنطقة ” اللاّس” ( الكسكسي الأحمر بالعلوش .. الخروف، المزينة بالزبيب والحمص )، كما لم تتوانى أبنة تلك المنطقة السيدة / عائشة بوصيري .. عن معاونة ضيوف المهرجان بكل ما تستطيع إن لم يكن أكثر  رغم أنها تقيم بتونس وجاءت لحضور المهرجان مثل بقية الضيوف، وكذلك فعل الصديق  ” نوفل السعدي ” إبن أحدى العائلات الكبرى في تلك المنطقة البديعة ..

بقي أن تعلم عزيزي القارئ إذا أسعدك الحظ بزيارة ” اللاّس” الجميلة فلا تنسى شراء زيت الزيتون الممتاز الذي تنتجه تلك المنطقة لكن النوع الأكثر جودة في زيت زيتون ” اللاّس” هوما يطلق عليه     ” زيتون لقناطر ” لأنه ممتاز جدا فيما النوع الأخر ممتاز فحسب، وفي كافة الأحوال سيشملك أبناء    ” اللاّس ” الطيبيين بعطفهم وكرمهم الذي يتميزون به عندما تحل عليهم ضيفا في منبت أغصان السلام في قلب الساحرة الخضراء تونس

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات