جولة في علم التَّاريخ العربي

02:27 مساءً الإثنين 25 أبريل 2022
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية وكاتبة وأكاديمية، لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

التَّاريخ والتَّاريخ (أ ر خ): (التَّاريخ): تعريفُ الوقتِ، و(تاريخُ الشّيءِ): وَقْتُه وغايَتُه.

و(عِلمُ التَّاريخ): فرعٌ من العلومِ يدوّنُ أحداثَ الماضي ويُعَلِّلُها. وقد كان التَّاريخ مجرّدَ سردٍ لأخبارِ الملوك والأُسَرِ الحاكمةِ والحروب وما إليها، ولكنّه اتّخذَ في العصر الحديث وجهةً جديدةً فأصبح يُعنى بتصويرِ الحياة العقليّة والحياة الاجْتِمَاعِيّة والحياة الدّينيّة وغيرها عند شعبٍ بعينه، أوعند شعوبٍ بكاملها، أو على المستوى الإنسانيّ الشّامل، وبالكشف عن العوامل والقوى الصّانعة للتّاريخ أو المؤثّرة فيه وتحليلها وتعليلها.

وقد بدأ التَّاريخ، أوّلَ ما بدأ، شفهيًّا غيرَ مدوَّنٍ، تختلطُ فيه الأخبارُ بالأساطير، حتّى إذا كان القرن السّابع قبل الميلاد بدأ تدوينُ التَّاريخ، على نحوٍ نظاميٍّ، في عددٍ من المُدُنِ الإغريقية. وما هي غير مُدَّة يسيرةٍ حتّى ظهرَ هيرودوتس الّذي أرّخَ  للحروب اليونانيّة الفارسيّة فعُرِفَ بـ (أبي التَّاريخ).

والواقع أنَّ التَّاريخ اتّخذَ- عند اليونان والرومان- ومن ثم عند العرب، خطّينِ متوازيينِ: (أ)خطّ الحوليّات وفيه تُرتَّبُ الأحداثُ وفقًا للسّنين، و(ب) خطُّ التَّراجم وفيه تُرسَمُ مسيرةُ التَّاريخ، على نحوٍ مداورٍ، من خلال سِيَرِ الرّجالِ أو النِّساء، والتّحدّث عن أعمالهم.

وليس مِن رَيْب في أنَّ العَرَبَ كانوا مِن أكثر الأُمَمِ عِنايةً بالتَّاريخ وأحرصهم على تحرّي الدّقّةِ في تدوينِه.

ومِن أهمِّهم في هذا الميدان: الطّبري صاحب (تاريخ الرّسل والملوك)، وابن الأثير صاحب (الكامل في التَّاريخ)، وابن خلدون صاحب كتاب (العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أخبار العرب والعجم والبربر) الّذي تُعَدُّ مُقدّمتُه أثرًا فذًّا جعل من ابن خلدون مؤسِّسًا  لفلسفة التَّاريخ ولعلم الاجتماع في آنٍ معًا.

(أولًا) بدايات التَّاريخ العربي:

(1)بقي تاريخ العربِ المسلمين لأكثر من (150) سنةً بعد ظهور الإسلامِ يعتمدُ على النَّقل[1]  الشّفهي اعتمادًا على العَنْعَنَة[2].

(2)المؤرخون العرب بدأوا (مُحَدِّثين) عن الرَّسول (ص)، وانتهوا (مُؤرِّخين).

(3)أقدم كتاب تاريخي هو (المَغازي)[3] للواقِديّ، وهو رواياتٌ شفهيَّةٌ عن غزواتِ الرّسول(ص). ولغةً: المَغازِي (غ ز و): مَناقِبُ الغُزاةِ، وقيل: المَغْزَى والمَغْزاةُ والمَغَازِي: مواضِعُ الغَزْوِ، وقد تكون الغَزْوَ نَفْسَهُ، ومنه الحديث: “كان إذا اسْتَقْبَلَ مَغْزًى”، وتكونُ المَغازِي مَناقِبَهُم وغَزَواتِهِم. والمغازي: الغزوات، والغزوات جمع غزوة؛ أي: الحرب في سبيل التوسع أو نشر الدِّين مثلًا.

وعن علاقة المغازي بعلم التّاريخ العربي وسيرة النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم)، لا بد من ذكْر أنَّ أول ما عُنِي به- من التَّاريخ الإسلامي- سيرة النَّبيّ ﷺ وما يتبعها من مغازٍ، وهذا النوع من التَّاريخ اعتمد على أمرين: (الأول) ما كان دائرًا بين العرب عن أخبار الجاهلية كأخبار جُرْهم ودفن زمزم، وأخبار قُصَيّ بن كِلابٍ وغلبته على أمر مكة وجمعه قريش، ومعونة قضَاعة له، وقصة سد مأرب ونحو ذلك. و(الثان)ي أحاديث رواها الصَّحابَة والتَّابعون منْ بعدهم عن حياة النَّبيّ ﷺ من ولادته ونشأته ودعوته إلى الإسلام، وجهاده مع المشركين وغزواته، وعلى الجملة أخباره إلى حين وفاته؛ وقد أضافوا إلى أخبار الجاهلية والإسلام الأشعار التي رُوِيت في هذه الموضوعات، مما يصح بعضه ولم يصح بعضه عند الثقات.

وقد تأثر ما يُرْوَى في السّيرة من أحداث قبل الإسلام بالنَّمط الذي تروى به أيام العرب في الجاهلية، كما تأثر ما يروى منها من أحداث الإسلام بنمط الحديث.

وقد كان تاريخ النَّبيّ ﷺ داخلًا فيما يروى من الحديث، وكانت الأحاديث فيه متفرقة يوم كان المحدِّث يجمع كل ما وصل إليه علمه من غير ترتيب، فلمَّا رُتِبَت الأحاديث في الأبواب، جُمِعت السِّيرة في أبواب مستقلة، كان من أشهرها باب يُسمَّى (المغازي والسِّيَر)، ثم انفصلت هذه الأبواب عن الحديث، وأُلِّفت فيها الكتب الخاصة، ولكن ظل المحدِّثون يدخلونها ضمن أبوابهم؛ ففي (البُخاري)- مثلًا- (كتاب المغازي)، وفي (مسلم): ( كتاب الجهاد والسِّير)، وفي (مسند أحمد):  (كتاب المغازي)، إلى غير ذلك من الأبواب المتصلة بتاريخ النَّبيّ ﷺ .

(4)صحيحُ البُخاري:

جمَعَ الإمامُ البُخاري بالتَّواترِ[4] (7397) حديثًا نبويًّا من أصل (600000) حديثًا نبويًّا توزعَت بين: حسَنْ، ورديء، ومشكوك فيه. و(الإمامُ البُخاري) هو (محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه)، كانت أجداده فرسًا على دين المجوس، وأول مَنْ أسلم من أجداده (المغيرة)، أسلم على يد (اليمان الجُعْفِيّ) والي بخارى، فكان ولاؤه له، وتنقل الولاء في أولاده، فلذلك يقال في (البخاري) إنه (محمد بن إسماعيل أبو عبد الله الجُعفِيّ)؛ فهو من (بخارى)، وُلِدَ بها سنة 194، وكان أبوه محدِّثًا أيضًا، مات وهو صغير، وترك له مالًا جليلًا، فنشأ في حجر أمه، وأُسْلِم إلى الكُتَّابَ، فلمَّا بلغ عشر سنين بدأ في حفظ الحديث، فلمَّا بلغ ست عشرة سنة حفظ كتب ابن المبارك ووكيع، وهما محدَّثان مشهوران.

وقد خطا في جمع الحديث خطوة جديدة؛ فقد كان كثير من المحدِّثين الأولين يقتصرون في حديثهم على ما يجمعون من أحاديث مصرهم،ولكنّه وسَّع هذه الدائرة وسنَّ سنة لمن بعده من المحدِّثين في الإمعان في الرِّحلة لطلب العلم، وبعبارة أخرى لطلب الحديث كما فعل إذ أقام في رحلاته نحو ستة عشر عامًا، لقي فيها عناءً شديدًا لا يحتمله إلا الصَّابرون، وأخيرًا عاد إلى موطنه، ومات سنة256.

كما أنه خطا بالحديث خطوة أخرى في جِدِّه في التَّمييز بين الحديث الصَّحيح وغيره، وقد كانت الكتب قبله لايُعْنَى فيها بهذا الموضوع عنايته، فكان المحِّدث يجمع ما وصل إليه تاركًا البحث عن رواته ومقدار الثِّقة به إلى القارئين أو السَّامعين، وهذا يحتاج إلى معرفة واسعة بتاريخ رجال الحديث، وتاريخ حياتهم ووفاتهم والثقة بهم، وحفظهم، ومَنْ منهم صادق أمين، ومَنْ منهم مستور الحال، ومَنْ منهم كاذب، ومَنْ منهم صادق لكنه مغفل كما يقولون “تُقْبَلُ دعوته ولا تُقْبَلُ روايته”، كما يحتاج إلى مقارنة الأحاديث التي ترويها الأمصار المختلفة، وما بينها من فرق وموافقات، وما فيها من علل، ومعرفة مذاهب الرِّجال.

وقد رُزِقَ البخاري خصلتين بارزتين مكَّنتاه من أن يقرب من غرضه:

(أولًا): حافظة قوية لاقطة، وخاصة فيما يتعلق بالحديث، وكان يستعين على حفظه بالتقييد (ثانيًا): مهارته في تعريف الرِّجال ونقدهم. وفي ذلك وضع كتابه التَّاريخ لتمييز الرِّجال، ورووا عنه أن قال: “قلّ اسم في التَّاريخ إلا وله عندي قصة”. وهو- مع معرفته الدقيقة بالرجال- مؤدَّب التَّعبير جدًا، فهو يقول في الرَّجل الذي لا يرتضيه والذي يعرف كذبه “فيه نظر”، أو يقول “سكتوا عنه”، وقلّ أن يقول كذَّاب أو وضَّاع؛ وإنما يقول: كذَّبه فلان ورماه فلان، يعني بالكذب، وأصرح ما قال في رجل: “هو مُنْكَر الحديث”، إلا في النَّادر[5].

(5)نشأ (علمُ الفقهِ)[6] و(علم الصِّياغة المُعْجَميةِ) في فترةِ جمعِ القرآنِ الكريمِ ونقلِهِ، وهذان العِلْمانِ يمتَّانِ بصلةٍ وثيقةٍ إلى التَّاريخ.

(ثانيًا): التَّاريخ سيرةٌ ذاتيَّةٌ:

(1)كتبَ (ابنُ اسحقْ) [وهو مخضْرَمٌ[7] بين العصرينِ الأموي والعباسي] في سيرةِ رسول الله (ص)، وأهدى الكتاب للخليفة (جعفر المنصور)، فضاعَتِ النّسخةُ.

(2)(ابنُ هشام): استخدمَ النّسخةَ الضّائعةَ في كتابه (المغازي)، وخاصةً حين تحدثَ عن خَلْقِ العالَم وقصص الأنبياء.

(3)(ابنُ سَعْد): كتاب (الطَّبَقَات)، ذكرَ فيه أعلامًا[8] من النّساء والرّجالِ من الفقهاء والصّوفية[9] وغيرهم، وصل عددُهم إلى (4500) علَمًا.

(4)(ابن قُتَيْبَة) (توفي سنة ٢٧٦ﻫ)

هو (أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري)، ولد في (الكوفة) سنة213، وتثقَّف على أهلها، وسكن (بغداد)، وتولى قضاء (الدينور)، فنُسب إليها، وكان عالمًا في اللّغة والنَّحو والشَّرع، متفننًا بالعلوم، صادقًا فيما يرويه، مستقل الفكر، جريئًا في قول الحق، وهو أول من تجرأ على النَّقد الأدبي، فألَّف في أكثر فنون الأدب المعروفة، والباقي من مؤلفاته إلى اليوم حسن وشائع، وبعضها من أمهات كتب التَّاريخ والأدب.

كتبَ كتابَ (المعارف)، وهو من أقدمِ الكتب التَّاريخيةِ وأهمِّها، تحدث فيه عن الحضارة الإسلامية وما بعدها، إذ فيه خلاصة تاريخ الخلق والأنبياء، وأنساب العرب، وسيرة النَّبيّ ومغازيه، وأخبار الصَّحابَة والتَّابعين والقراء ورواة الشّعر، وصناعات الأشراف، وأهل العاهات، ونوادر الحوادث، والأديان، وأخبار ملوك العرب والعجم، وقد طبع في (غوتنجن) بعناية (ووستنفيلد) سنة1850، وفي (مصر) سنة 1300. وله كتاب (الإمامة والسِّياسة): وهو تاريخ الخلافة وشروطها بالنَّظر إلى طلابها من وفاة النَّبي (ص) إلى عهد (الأمين) و(المأمون)، طبع بمصر سنة 1900، ومنه نسخ خطية في مكاتب (باريس) و(لندن) و(مصر).

وترجمة (ابن قتيبة) في (ابن خلِّكانْ) 251، ج1،  و(طبقات الأدباء) 272، و(الفهرست) 77[10].

(5)(ابن خِلِّكانْ):

كتبَ: (وفيات الأعيانْ في أنباءِ أبناءِ الزَّمانْ) عن آلافِ الحكام والفقهاءِ والعلماء، وقد استغرق في كتابته (20 سنةً).

وقد حظي كتاب (وفيات الأعيانْ في أنباءِ أبناءِ الزَّمانْ) للقاضي والمؤرّخ ابن خِلِّكانْ (1211- 1282م) بكثيرٍ من الشُّروح والدِّراسات التي تتبّعَتْ أحد أبرز التَّراجم في التراث الإسلامي، وكثيراً ما جرت الإشارة إلى تنوّع مصادره ومقارنته بينها لتقديم سير الأعلام الذين أرّخ لهم بموضوعية ورؤية متوازنة لم تكن شائعة في عصره.

وقد تضمّنت كلّ سيرة وضعها (ابن خِلِّكانْ) أبرز الأحداث التي عايشتها تلك الشَّخصيات في (العهد الأيوبي)، وكيف أثّرت بها وتأثّرت، في محاولة لتسليط الضَّوء على المحطّات المفصلية والتَّحوّلات الكبرى. ولم تقتصر على السَّاسة والعلماء والأدباء وعلية القوم؛ بل مرّت على أناس عاديّين اشتهروا بمهنهم أو ارتباطهم بحادثة ما بوصفهم شهود عيان لا يمكن إغفال دورهم.

هذا، وبالعودة إلى دراسة مهمة بعنوان: (إعلام الأعيان بذكر ما لم يُذكَر في ترجمة ابن خِلِّكانْ) للباحث المغربي (إبراهيم بلفقيه اليوسفي) المتخصص في لسانيات النَّصّ وتحليل الخطاب، والصّادرة ضمن السّلسلة المحكمة التي يصدرها (معهد المخطوطات العربية) في القاهرة، يستقرئ المؤلّف معطيات جديدة لم يوردها الدَّارسون لسيرة المؤرّخ، من خلال تتبُّع ما كتبه عن نفسه في مواضعَ متفرّقة من كتاب (وفيات الأعيانْ في أنباءِ أبناءِ الزَّمانْ) ضمن توثيقه للأعلام الذين اختارهم.

ويقول (اليوسفي) في تقديمه: “لم أورد هنا غير ما ذكرَهُ هو عن نفسه، ولم أنقلْ ما قاله مترجموه بشأن اسمِهِ ومولده ووفاته ومناصبه إلَّا ما ندر؛ ولكني لم أغفل شيئًا مما يتعلّق بحياته وشيوخه ومقروءاته وأصحابه وأسفاره ممّا أثبته هو في كتابه”.

ويرصد الكاتب وقائعَ تبتدئ من مولد (ابن خِلِّكانْ) في مدينة (أربيل) والعلماء الذين تتلمذ على يدهم في صغره؛ ومنهم: (جمال الدين الواسطي)، و(أبي جعفر البغدادي)، ثم انتقاله إلى الموصل، فالشَّام، فحلب ليعود إلى دمشق، ووصْفه لأبرز ما شاهده في رحلته، ثم ينتقل بعدها لوصف رحلاته إلى الدِّيار المصرية، وتولّيه نيابة القضاء فيها، وإلى حلب التي تردّد عليها غير مرّة.

ويلاحظ أن الوفيات والجنائز التي كان يحضرها هي أهمّ مشاهداتها المدّونة في تلك الأسفار، تليها أخبار الأمراء والسَّلاطين، فالأوبئة والمظاهر الطَّبيعية وتعيين المسؤولين وعزلهم، وصولًا إلى عام 654 هجري، حين قرّر البدء بترتيب كتابه القيّم والشّروع بتأليفه.

وعلى المنوال ذاته، يذكر المؤلّف أحداثًا عائلية تتعلّق بزواج (ابن خِلِّكانْ) وأولاده، وأصحابه الذين رافقهم في المنصب والسَّفر والحياة، والعلماء الذين منحوه الإجازات، ومِن بينهم: (ابن أبي طاهر الخشوغي)، و(أبي الحسن الطّوسي)، و(زينب بنت الشّعري).

وتقف الدَّراسة على تفاصيلَ دقيقةٍ تتعلّق بقبور العلماء وأضرحتهم التي حرص على زيارتها، كما تقف على الأشعار التي نظمها وكان الناقد الفلسطيني الراحل إحسان عباس قد جمع جزءًا منها[11].

(6)(ياقوت الحَمويِّ):

ولد في بلاد الرُّوم (اليونان) عام 1178، وأُسِر صغيرًا، فابتاعه ببغداد تاجر يدعى (عسكر الحَمْوِيّ)، فنُسب إليه، ونشأ مسلمًا وغلب عليه لقب (الحَمويِّ). كان مولاه عسكر أميًّا لا يعرف شيئًا سوى التجارة، لكنه عنيَ بتعليمه، لينتفع به في تجارته، فتلقّى العلوم المعروفة من نحو ولغة، ولما كبر شَغَله مولاه بالأسفار في تجارته إلى كيش وغمان.

وكان يعيش من نسخ الكتب، بعد أن جاب البُلْدان، فزار (تبريز) أشهر مدن (أذربيجان) سنة 610هـ، وزار (مصر) ما بين 610-613هـ. كما زار دمشق سنة 613هـ وتوجه إلى (حلب) مارًّا ب(حمص) و(حماه)، وخرج إلى (الموصل)، ومنها إلى (أربيل)، ثم اتجه إلى (خراسان) التي كانت تحت حكم (محمد بن تكش خوارزم شاه) (569-617) فأقام فيها يتاجر في مدنها، واستوطن (مروَ) مدة، ثم انتقل سنة 616ه، إلى (خوارزم).

وقد استفاد كثيرًا مما جمعه من المكتبات التي تردّد عليها في مراكز الثَّقافة التي نشطت فيها الحياة الفكرية، كـ(دمشق) و(حلب) في ظل الحكم الأيوبي. وقد أقام (الحَمويِّ) في (مرو) ثلاث سنوات، وكان فيها اثنا عشر  ألف مجلد أو ما يقاربها، وكان يستعير في وقت واحد ما يقارب مائتي مجلد؛ فكان “يرتع فيها ويقتبس من فوائدها”.

وخلال رحلاتِه مع سيده، ألَّفَ:

الكتاب الأول:

(مُعْجَم البُلْدان) في الجغرافيا، وقد كتبه بين الأعوام (1220-1224). ويحوي الكتاب وصفًا لبلدات ومدن ودول مرَّ بها وأقامَ، وكان أسلوبُه العربيّ بليغًا.

 وهو أشهر كتب (الحَمويِّ). وأهدى نسخة بخطّه إلى القاضي (أبي الحسن جمال الدين الشّيباني). وهذا الكتاب من أعظم المراجع، وهو مؤلف في أسماء البُلْدان والجبال والأودية والقيعان والقرى والمدن والبحار والأنهار والغدران والأصنام والأوثان، مرتّبة على حروف الهجاء، ويمتاز بدقّته واتّساعه وجمعه بين الجغرافيا والتَّاريخ والعلم والأدب.

 وكان (الحَمويِّ) الحموي أمينًا في ذكر مصادره ومراجعه التي اعتمد عليها، إذ كان من أكثر العلماء عناية بمظاهر الثَّقافة الشَّاملة، ومن أبعدهم عن الأخذ بالخرافة والأساطير، وقد عني المستشرق هير (Heer) نهاية القرن الـ 19 بدراسة (مُعْجَم البُلْدان)، وكتب بحثًا عن المراجع التَّاريخيَّة والجغرافيّة التي اعتمدها (الحَمويِّ) لتصنيف هذا المُعْجَم.

يقول الباحث والمؤرّخ وعضو المجمع العلمي العراقي الدكتور (حسن عبيد عيسى): “ما من مؤرّخ فذٍّ يشرع بالتَّدوين إلّا ويتّكئ منذ شروعه بالعمل على عمود من كتاب: (مُعْجَم البُلْدان) لـ(ياقوت الحَمويِّ)” الذي يُعَدُّ “موسوعة باذخة”،  ويعده سجلًّا أمينًا متكاملًا للجغرافيا التَّاريخية. “وهو من أفضل ما حفظ لنا الزَّمان من كُتُبِ هذا الجنس من العلوم التي نأنس بها ونلجأ إليها عند الحاجة.”

كما يرى الباحث أن (ياقوت الحَمويِّ) “كان فطنًا ويسجّل ملاحظاته عن كلّ بلد يمرّ بها وهي التقاطات مفيدة”، بل يزيد على قوله:  “إن التقاطات (الحَمويِّ) “لم تكن هي مورده الوحيد؛ فلقد رجِعَ الى مئات الكتب ليستخلص منها معلومات تكمل النَّقص في مشاهداته أو تعزّزها، أو تعوض النَّقص في معرفة ما لم يزرْهُ من بلدان بما نسميه الآن المقابلات”.

كما يشير إلى أن الباحثين والمؤرّخين والمهتمين- وبفضل ما دوَّنَه (الحَمويِّ)- “تعرفوا على مدن اندثرت معالمها من مئات السِّنين”، فقد ذكر أعلام تلك المدن “مع نبذ سِيَرِ من تيسرت له سيرهم، إضافة إلى معلومات وافرة عن اقتصاديات تلك المدن وطبيعة تدوينها أو عدمها”،  ما جعل الجميع يعتبرون الكتاب “موسوعة”، لا كتابًا.

الكتاب الثَّاني:

(مُعْجَم الأُدباء): المعروف بإرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، 7 أجزاء، حققه وضبط نصوصه وقدم له: عمر فاروق الطباع، ط1، مؤسسة المعارف، بيروت، 1420هـ/1999م.

معجم تاريخي يشبه معجمه الجغرافي، ولكنه أكبر منه وأوسع، وفيه كثير من التَّراجم التي لا وجود لها في غيره، فضلًا عن توسعه وتحقيقه.

وقد جمع في كتابه ما وقع له من أخبار النَّحويين، واللّغويين، والنَّسابين، والقُرَّاء المشهورين، والأخباريين، والمؤرخين، والورَّاقين، والكتَّاب المعروفين، وأصحاب الرَّسائل، وكل من صنف في الأدب تصنيفًا أو ألف فيه تأليفًا.

 ولم يقصد – فيما جمع – أدباءَ قُطرٍ، ولا علماء عصر، بل نراه جمع للبصريين، والكوفيين، والبغداديين، والخراسانيين، واليمنيين، والمصريين، والشاميين، والمغربيين، وغيرهم على اختلاف البلدان، وتفاوت الأزمان. 

ولم يتضمن هذا المعجم تراجم الشُّعراء، اللَّهم إلا من عُرف- إلى جانب الشِّعر- بالتَّصنيف والتَّأليف: كـ(أبي العلاء المعرّي)، و(البحتري)، و(ابن عبدربه الأندلسي)، وغيرهم…

أما الشُّعراء الذين لم يُعرفوا إلا بقول الشِّعر، ولم يتركوا من الآثار سوى دواوينهم، فلم يأتِ “ياقوت” – في معجمه – إلا على قليل منهم. ويضم الكتاب نحوًا من 1041 ترجمة[12].

 (7)(تاريخ اليعقوبي) (توفي سنة278 ﻫ)

هو (أحمد بن أبي يعقوب بن واضح) المعروف بـ(اليعقوبي)، وجده من موالي المنصور، عاشَ في زمن (العباسيين). وعُرِفَ بـ(ابن واضح الإخباري=الكاتب)؛ لأنه تحدّرَ من عائلةٍ تحترفُ الكتابة الدِّيوانية[13] في دواوين الخلافة العباسية. وكان رحَّالة يحب الأسفار؛ فساحَ في بلاد الإسلام شرقًا وغربًا، فكان سنة 260 ﻫ في (أرمينية)، ورحل إلى (الهند) وعاد إلى (مصر) وبلاد (المغرب)، وألَّف في سياحته هذه كتابًا سماه: (كتاب البلدان)، وهو أقدم كتاب عربي وصل إلينا في الموضوع.

وله في التَّاريخ كتاب يعرف بـ(تاريخ اليعقوبي)، نشره المستشرق (هوسما) في (ليدن) سنة1883 في مجلدين: (الأول): في التّاريخ القديم على العموم من آدم فما بعده إلى ظهور الإسلام، وتدخل فيه أخبار الإسرائيليين والسّريان والهنود واليونان والرّومان والفرس والنّوبة والبجة والزنج والحميريين والغساسنة والمناذرة، و(الثَّاني) في تاريخ الإسلام، وينتهي في زمن (المعتمد على الله) سنة 259 ﻫ، وقد رتبه حسب الخلفاء.

وهو كتابٌ موسوعيٌّ تناولَ فيه تاريخ العالم منذ بدء الخليقةِ حتى العصر العباسي، علمًا أنه حين تناولَ العصر العباسي: أوجزَ في أخبارِهِ السّياسية وركزَ على الجانب الحضاريّ أكثر.

أما النَّقد الموجه إلى كتابه (تاريخ اليعقوبي)، فهو: أنه لم يذكر الدَّولة الأموية في الأندلس في تاريخِهِ. أما مصادرُ كتابِه، فهي:

(أ)(التَّوراة): حين تحدث في كتابه عن التَّاريخ القديم.

(ب)(الأساطير): غير الموثوقة، حين يتكلم عن التَّاريخ الفارسي.

(ت)(المصادر اليونانية المعربة): حين كتبَ عن الثَّقافة اليونانية.

(ثالثًا): التَّاريخ الرِّوائي: [السَّرد[14] لا التّحليل: تاريخ الطَّبَري]

(1)(الطَّبَري): الإمام الطّبري أول من سردَ التَّاريخ في كتاب (تاريخ الرُّسل والملوك) من بَدْءِ التّكوين حتى 915)م. وقد استغرق في كتابةِ كتابه هذا (45) سنةً، ودوَّنَ التَّاريخ حسب تسلسل الحوادث زمنيًّا) [15 مجلدًا] وقد (سردَ) الطّبَري التَّاريخ ولم يحلله. وقد جمع مواده من الأحاديث، وأقوال من قبله من المؤرخين، مع التَّحري الشَّديد لصدق ما يجمع، وقد مكنته فارسيته الأصلية من أن يطلع اطّلاعًا واسعًا على أخبار الأمم.

و(الطّبري) يروي عن الحادثة الواحدة آراء كثيرة فيها، متأثرًا بمنهجه التَّفسيري؛ فهو في كل آية ينقل آراء الصّحابة والتَّابعين فيها، ولكنه كان ذا رأي ناضج، فهو يستطيع أن يرجِّح بعض الآراء على بعض، وقد عُني النَّاس بتاريخه كثيرًا، حتى ليكاد يكون عماد كل مؤرخ بعده، ودليل العناية به أنه ترجم من قديم إلى اللّغة الفارسية، ووضع له ذيول مختلفة.

وله كتاب آخر في تاريخ الرِّجال الذين ورد ذكرهم في أحاديثه، وكما اعتمد على كتب من قبله، اعتمد أيضًا على الأحاديث الشّفوية من النَّاس الذين يوثَق بهم.

وهو جريء في قول الحقِّ، يتعرض لذكر أشياء قد لايرضى عنها العبَّاسيون أنفسهم، وهم الخلفاء ذوو السُّلطة، وإن أُخذَ عليه شيءُ، فهو أنه يكثر من ذكر الحروب، وسيَر الخلفاء، ولا يعرض إلا لمامًا لذكر الأحاديث الاجتماعية، والمسائل الاقتصادية.

وقد طمح كثير قبله إلى كتاب في التّاريخ العام، ولكن ذلك لم يتسنَّ لأحد غيره قبله، إذ جرَّد نفسه لذلك، فنظر إلى التّاريخ نظرة عامة منذ الخليقة إلى آخر حياته.

وغلبت عليه طريقة المحدثين؛ فهو يروي الحادثة عن جملة من الرُّواة، ويترك للقارئ اختيار أحسن الآراء كما فعل في التَّفسير، كما اعتمد على الصُّحف، والمؤلفات قبله، والرِّوايات التي أخذها عن شيوخه، وخصوصًا في السّنين الأخيرة من كتابه، وإذ كان (الطّبري) محدِّثًا وفقيهًا، فقد أثر ذلك في كتابه[15].

أهميةُ كتابِهِ:

(أ)التّرتيب الزَّمني المتسلسل.

(ب)سرد الرِّوايات عن كل الأنبياء.

(ت)سردٌ مفصَّلٌ لفترة ما قبل الإسلام [تاريخ الإنجيل، تاريخ بلاد فارس حتى العصر الأموي].

(ث)استخدمَ السَّرد (التَّاريخي) لا (البطولي).

(رابعًا): التَّاريخ التّحليلي: (من السّرد إلى التّحليل: المسعودي: مروج الذَّهب)

كان (المسعودي) ذا منحى آخر يغاير منحى (الطّبري)، ولكلٍّ فضل، فألَّف (المسعودي) كتابي: (مروج الذَّهب)، و(التَّنبيه والإشراف)، وضاعت له كتب كثيرة.

وهو ليس مؤرخًا فقط؛ بل هو مؤرخ وجغرافي معًا، فهو رحَّالة سائح، ولد في (بغداد) من عائلة عربية، ورحل وهو شاب إلى فارس، ثم إلى الهند، وزار (مُلتان)، و(المنصورة)، وصحب بعض التُّجار في سفرهم في (بحر الصّين)، ورجع إلى (زنجبار)، ثم رجع إلى (عمان)، ثم سافر إلى (قزوين)، و(طبريا)، و(فلسطين)، ثم زار (أنطاكيا)، وساح في بعض بلاد (سورية)، ثم عاد إلى (البصرة)، ثم عاد إلى (سوريا)، ورُئي بعد ذلك في (الفسطاط)، وهكذا كان لا يستريح من الأسفار.

ولم تكن أسفاره للنُّزهة؛ بل لمعرفة الأقطار وأخبارها، وإذا قارنا بينه وبين المؤرخين: (المقدسي) و(البيروني)، وجدناهما أدق وأعمق.

ويدل كتابه على معرفة واسعة باللُّغة، والعادات، والتَّقاليد، والأدب، والأخلاق، والسِّياسة. ويمتاز (المسعودي) في كتبه بالتفاته الكثير إلى الأمور الاجتماعية، كبحثه في ديانات العرب، وآرائها في الكيمياء، والهواتف، والقيان، والزّجر، والسَّانح، والبارح، ومقارنته بين العجم والعرب إلخ إلخ.

وعند كل ملك يذكر طرفًا من أخباره الخاصة، وسيرته الدَّاخلية، وملامحه، وتقاطيع وجهه إلخ؛ مما لا نجد له نظيرًا في الكتب الأخرى، فهو مؤرخ مسلَّح بالوثائق التي تلزم المؤرخ. وهو القائل:”إن وراء كل حدث سبب”، فبدأت معه مدرسة (التَّاريخ التّحليلي)[16].

وقد أخذ عنه ابن خلدون، من كتابه: (التَّنبيه والإشراف)، فكرة أن الاقتصاد والاجتماع يؤثران في السياسة.

 (خامسًا): تواصل التَّاريخ والسّياسة:

  • مع الفيلسوف (الفارابي) كانت أول محاولة لوضع نظرية سياسية في كتاب (المدينة الفاضلة) [لاحظ المقارنة]:
الجمهورية (أفلاطون) المدينة الفاضلة (الفارابي)
تتكون الدَّولة المثالية من ثلاث طبقات: طبقة الملوك الفلاسفة (فضيلتها الحكمة والعدالة).طبقة الحرّاس\الجيش (فضيلتها الشّجاعة)طبقة اقتصادية: تجار، حرفيون، عمال، فلاحون (فضيلتهم ضبط النفس). تتكون الدَّولة المثالية من ثلاث طبقات: (1)طبقة القادة والحكّام+ رجال الدّين. (2) طبقة العسكر. (3) طبقة الصّناع والفلاحين.

(ب)أبو الفرج الأصفهاني: (الأغاني ومَقَاتِل الطّالبيين)

(1)أديب عربي مثقف، هَجّاء، عاش في العصر العباسي. اتّصل بـ(الحسن محمد المهلبي) وزير معز الدّولة البويهي ولازمه (13) سنةً، ونال منه الكثير من النّقود والهدايا.

(2)كتبَ كتبًا لحكام الأندلس من بني أمية لقاء كثير من النّقود.

كتب كتاب (الأغاني) في (21) جزءًا، وأهداه لسيف الدّولة الحمداني، ونال ثمنه ألف دينار. وكان قد جمع كتابه خلال خمسين سنةً. وقد جمعَ فيه أخبارَ العربِ وأشعارَهم وأنسابَهم وأيامَهم ودولتَهم، وجعلَ مبناه على الغناءِ في المائةِ صوْتٍ التي اختارَها المغنُّون للرَّشيدِ، فاسْتَوْعبَ فيه ذلك أتم استيعابٍ وأوفاه. ويعتبَر ديوان العَرَبِ وجامع أشتاتِ المحاسنِ التي سلفَتْ لهم في كلِّ فنٍّ من فنونِ الشِّعْرِ والتَّاريخ والغناءِ وسائرِ الأحوالِ، ولا يُعْدَل به كتابٌ في ذلك فيما نعلمُهُ، وهو الغايةُ التي يسمو إليها الأَدِيب ويقفُ عندَها.

(3)له كتابٌ مهمٌّ هو: (مَقاتِلُ الطّالبيين)، ذكر فيه شهداء ذرية أبي طالب من عصر الرّسول (ص): مَن قُتِلَ، أو سُجِنَ، أو سُمِّمَ، أو مات أثناء هروبِهِ. ويعتبَر دائرةَ معارف لتاريخ الطّالبيين وأدبهم.

(ت)أبو الحسن الماوردي (توفي سنة 450 ﻫ): (الأحكام السّلطانية، قانون الوزارة، نصيحة الملك)

 

هو (أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي)، الفقيه الشَّافعي، أهم فقهاء عصره. تعلم في (البصرة) و(بغداد)، وتقدم في مناصب القضاء، وكان مفكرًا حسن التَّأليف كما يظهر من كتبه التي وصلت إلينا وأهمها:

(1)كتاب الأحكام السُّلطانية: يبحث في الإمامة وشروطها والخلافة وأحكامها والوزارة وأقسامها وشروطها وإمارة الجهاد وأقسامها والقضاء، والشّروط التي يصح التّقليد بها، والنّقابة حسب الأنساب، وفصول في الولاية على الحج وولاية الصّدقات، وأحكام الفيء والغنيمة وأقسامها والجزية والخراج حسب الأرضين وأحكام الإقطاع وترتيب الدّواوين وأنواعها، وما اختص ببيت المال وأحكام الحسبة وغير ذلك من القواعد الشّرعية، مما يتعب الباحث عنه في غير هذا الكتاب، وحلَّل فيه تصرفات الخلفاء والسَّلاطين. وهو مطبوع في (مصر) سنة 1298  وغيرها.

(2)  نصيحة الملوك: وحلَّل فيه تصرفات الخلفاء والسَّلاطين.

(3)تسهيل النّظر وتعجيل الظّفر: في السِّياسة والحكومة.

(4)أسس نظرية (مبدأ الضّرورة)؛ أي: (قانون الطّوارئ) الذي يُعمَلُ به استثنائّيًّا في الأوقات العصيبة.

(5)قال إن منتخِبي الخليفة (الرّئيس)، يجب أن يكونوا: أذكياء، متعلمين، أنقياء الرّوح والشّخصية.

(6)دمج (العلوم السّياسية) مع (علم الاجتماع)[17].

(سادسًا): التَّاريخ الاجتماعي- الاقتصادي ( عز الدين بن الأثير الجزري)
(ت 630هـ / 1233 م)


[الكامل في التَّاريخ، أُسْدُ الغابة في معرفة الصَّحابَة]

(1)عاشَ أيام دولة (صلاح الدّين الأيوبي). وكتابه (الكامل في التَّاريخ) (12 مجلدًا) يؤرخ تلك المرحلة. أسلوبه فيه تحليليّ. وقد أوردَ الأحداثَ حسبَ المنهج الحَوْلِيِّ[18]. وفيه رصدَ الغلاء والرّخص والقحط والأوبئة والزّلازل. كما رصد (حروب الفرنجة) [الصّليبيين][19]، الزّحف التَّتري. وأهمية الكتاب أنه استكملَ تدوين التَّاريخ من حيث توقف (الطّبري) بأسلوب سهل، موجَز، لا مجاز فيه.

(2)(أُسْدُ الغابة في معرفةِ الصَّحابَة): كتب في هذا الكتاب عن الصَّحابَة الذين فتحوا البلاد بالدّعوةِ وبالسّلوك الجيدِ، لا السّيف. وقد جمع في كتابه هذا بين الكتب التي هي غاية ما انتهى إليه الجمع في الصّحابة حتى عهده، فاجتمع له من الصّحابة (7554)، وعُني بترتيبه على الأحرف ترتيبًا أدق من كتاب (الاستيعاب)، فجاء كتابًا عظيمًا حافلًا، قال (الحافظ): إنه تبع من قبله، فخلط من ليس صحابيًّا بهم، وأغفل التَّنبيه على كثير من الأوهام الواقعة في كتبهم.

وترجع أهمية الكتاب إلى كون تراجمه لرجال إقليم (الموصل) و(الجزيرة) قد احتوت على ما اقتبسه (ابن الأثير) من الجزء المفقود من كتاب (تاريخ الموصل) للأزدي، وهو يحوي الكثير من المعلومات عن القبائل العربية التي استقرت في الإقليم بعد الفتح الإسلامي، وبعض أسماء ولاة الموصل وولاة الجزيرة، وسنوات حكمهم أحيانًا. كما أشار إلى فرار القبائل المعادية لخلافة (علي بن أبي طالب) من (الكوفة)، واستقرارها ببلاد (الجزيرة)، وما منحهم (معاوية بن أبي سفيان) من قطائع بمدن (الجزيرة)، ثم مشاركتهم في موقعة (صفين) إلى جانب (معاوية)[20]

(سابعًا): مؤرِّخو الأندلس

المؤرِّخ الأندلسي الأول: ابنُ الخطيب (ذو الوزارتين) [الإحاطة في أخبار غرناطة، اللَّمحة البدرية في الدَّولة النّصرية]

هو:

  • من معاصِري المؤرِّخ (ابن خلدون). ولدَ في (قُرْطُبَة)، وانتقلَ إلى (غرناطة)، وعُرِفَ بـ (ذي الوزارتين): الأدب والسّيف.
  • حسّاده وشَوا به، فسُجِنَ في (فاس) [مدينة في المغرب]، وخُنِقَ داخلَ زنزانتِه.
  • من أهم كتبِهِ: [الإحاطة في أخبار غرناطة،  واللّمحة البدرية في الدّولة النّصرية]، وفيهما يتحدث  عن المرحلة الأخيرةِ للحكم الإسلاميّ في (الأندلس).

وقد قال عنه ابن خلدون: “الهالك لهذا العهد شهيدًا بسِعَايةِ أعدائهِ”.

المؤرِّخ الأندلسي الثَّاني:

المقريّ: [نَفْحُ الطِّيبْ من غصنِ الأندلس الرَّطيبْ] (4 أجزاء)

المقري (ت 1041ه- /1631م)

ولد (أحمد بن محمد بن أحمد المقري القرشي) المكنى بـ(أبي العباس) والملقب بـ(شهاب الدِّين) سنة 986 بمدينة (تلمسان).  وأصل أسرته من قرية مَقَّرة بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة. نشأ بـ(تلمسان)، وطلب العلم فيها، وكانت من أهم شيوخه التّلمسانين عمة الشَّيخ (سعيد المقري).

وهو واحد من أعلام القرن السَّادس عشر والسَّابع عشر الميلاديين، شهد له معاصروه بالإمامة والفضل، في الفقه وأصوله، وفي الحديث وعلوم القرآن، وفي علوم العربية.

 وتدل آثاره الحسان على علم وفهم، ورواية ودراية، وإتقان وإحسان، ويعتبر (كتاب الرّحلة إلى المغرب والمشرق) من الآثار المفقودة لأبي العباس (المقري) لولا الهدية التي قدمتها حفيدة المستشرق الفرنسي (جورج ديلفان) سنة 1993م، للمكتبة الوطنية بـ(الجزائر)- العاصمة، والمتمثلة في مجموعة من المخطوطات من بينها رحلة (المقري) هذه.

كتاب: (نَفْحُ الطِّيبْ من غصنِ الأندلس الرَّطيبْ) كان اسم الكتاب أولًا: (نَفْحُ الطِّيبْ بالوزيرِ ابن الخطيب)، فلما ألحق به أخبار الأندلس، وأفاض فيها، اتَّخذ له هذا الاسْم الجديد.

جعل المؤلف كتابه قسمين كبيرين:

يشمل  الأول رحلة المؤلف، ووصف جزيرة (الأندلس) وما تحويه من المحاسن، وفتح المسلمين لها، ومَن تعاقب عليها من الأمراء والخلفاء إلى ملوك الطَّوائف  ووصف (قرطبة) ومحاسنها، وتراجم مَن رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق، وفيهم جماعة من النِّساء، وذكر مذاهب الأندلسيين وسائر أحوالهم إلى خروجها من أيدي المسلمين.

ويشتمل القسم الثّاني  على ترجمة مفصلة ل (لسان الدين بن الخطيب) وأقواله، وأشعاره، ومشايخه، وغير ذلك.

وفي كل باب من أبواب الكتاب يحشد (المقري) مجموعة هائلة من المعلومات التَّاريخية والجغرافية والأدبية والاجتماعية، منقولة من كتب مختلفة، يعتبر أكثرها في حكم المفقود، ما يجعل للكتاب قيمة لا تقدر، ويصفه في طليعة المراجع الأولى لتاريخ إسبانيا الإسلامية، من أيام الفتح إلى آخر أيام استردادها، وفي تاريخ الحقبة الأخيرة هو المرجع الوحيد.

أما الطَّريقة التي اتّبعها في تأليف كتابه، أنه جعل المترجم له نواة يجمع حولها الأخبار الجمة، والمعلومات المستفيضة، ويتخذها محورًا يدير حوله الموضوع، ويؤلِّف بين شوارده ويضم متناثره، ويحاول أن يفهم الرجل عن طريق فهم عصره، واستقصاء معارف زمنه، والإحاطة بالظُّروف التَّاريخية التي مهدت له السبيل.

 (أ)أفضل من أعطى التَّاريخ الأندلسي بعض الرومانسية، خاصةً حين كتب عن بداية الحكم العربي في (إسبانيا)، وكذلك عن مرحلة (ملوك الطّوائف).

(ب)شهدَ انتهاءَ الإمارة الإسلامية في (إسبانيا)[21].

ابن خلدون

مؤرخ وفيلسوف تونسي، من أصل يمنيّ، درس في الأزهر،  وعمل قاضيًا على المذهب المالكي. عنوان كتابه:[كتاب العِبَرْ، وديوان المبتدأْ والخبرْ في أيام العربِ والعَجَمِ والبربرْ، ومن عاصرَهُم من ذوي السُّلطان الأكبرْ][22]، ويُعَدُّ موسوعةً تاريخيةً، ويقع في سبع مجلدات، وطبع بعنوان (تاريخ ابن خلدون)، ومشهورةٌ جدًّا مقدمتُه.

يقول (ساطع الحصري) في (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) في (القسم الثَّاني): إن مقدمة ابن خلدون من نوع المؤلفات التي عُرِفت في أوروبا باسم (فلسفة التَّاريخ) في القرن الثَّامن عشر، وباسم (علم التَّاريخ)، أو (المدخل إلى التَّاريخ) في القرن التاسع عشر.

وهي تتضمن- في الوقت نفسه- آراء ومباحث ونظريات اجتماعيةً مهمةً؛ لذا يجب اعتبارها- من هذه الوجهة- من نوع المؤلفات المتعلقة ﺑ (الفلسفة الاجتماعية)، وﺑ (علم الاجتماع) أيضًا.

وتبحث فلسفة التَّاريخ في الوقائع التَّاريخية بنظرة فلسفية؛ فتسعى لاكتشاف العوامل الأساسية التي تؤثِّر في سير الوقائع التَّاريخية، عاملةً على استنباط القوانين العامة التي تتطوَّر بموجبها الأمم والدّول على مر القرون والأجيال.

كما يرى (ساطع الحصري) أن حق (ابن خلدون) بلقب (مؤسِّس علم الاجتماع) أقوى من حق (أوغست كونت) الذي دُعي بمؤسس علم الاجتماع؛ لأنه كان قد فعل كل ذلك قبل أن يؤلِّف (كونت) دروسه في الفلسفة الإثباتية بمدة تزيد على أربعمائة وستين عامًا.

كما يعتقد أن (مقدمة ابن خلدون) لم تكن تلمُّسًا بسيطًا لعلم الاجتماع، ولا تحدُّسًا غامضًا عنه؛ بل كانت محاولةً ناجحةً لاستحداث علم الاجتماع، محاولةً تستجمع جميع الشّروط التي تخوِّلنا حق تلقيبه بلقب “المؤسِّس” لهذا العلم.

منهجيتُه التَّاريخية:

       (1)يقول محمد الطَّالبي في “منهجية ابن خلدون التَّاريخية”: إن “لكتاب العبر بالنّسبة  إلى تاريخ الترك والمماليك وتيمورلنك خاصة، والّذي اتَّصل به المؤلف اتصالًا مباشرًا أهمية تفوق غيره، فقد احتفظ لنا ابن خلدون بمعلومات اجتهد فيها أن يبلغ أكثر من التَّمحيص والتَّحقيق معتمدًا- زيادة على مشاهداتِه- على ملاحظات المسافرين وروايات مَن شاركوا في الأحداث أو واكبوها من موظفين وغيرهم[23]“.

(2)استفادَ من علم (مصطلَح الحديث) وقياسه وأدواته.

(3)استفادَ من رؤيةِ الإمام عليّ للخبرِ: “اعقِلوا [اربطوا] الخبرَ عَقْلَ درايةٍ [الدّراية: العلم والخبرة والمعرفة]، لا عَقْلَ روايةٍ [نقل الأخبار للتّسليةِ والإفادةِ]، فرُعاةُ [حُماةُ] العلمِ قليلٌ، ورُواتُهُ [ناقلو أخبارِهِ] كُثُر”.

(4)وظَّفَ قواعدَ (العُمرانِ البشري) التي اكتشفَها.

(5)تعامل مع التَّاريخ (كعلْمٍ): اسباب ونتائج منطقية.

(6)قسّم المجتمعَ إلى:

(أ)مجتمع مَدَني [تجارة+ صناعة+ فردية+ ظروف مريحة اقتصاديًّا واجتماعيًّا]

(ب)قَبَلِيّ (أي منسوبٍ إلى القبيلةِ): [زراعة+ رعي مواشي+ ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة+ عصبية قَبَلِيّة+ رِقّ (عبودية)+ مرتَزَقَة (طالب الرّزق حتى لو حاربَ في جيشٍ غريبٍ على سبيل الارتزاقِ)].

أدوارُ العصبية[24] القبلية:

يقول (ساطع الحصري) في (دراسات عن مقدمة ابن خلدون): إن نظرية العصبية من أهم وأَطْرَف النَّظريات التي وضعها (ابن خلدون)، لأنها بمثابة المحور الذي يدور حوله معظم المباحث الاجتماعية، وتتصل به جميع مباحث “الاجتماع السِّياسي” في المقدمة، وقد بناها (ابن خلدون) بالتّدريج، ,إذ تغلُّب العصبيَّة على أفراد القبيلة في (الدّور الأول)، فلا بد من التّوقف عند ما تعنيه من رابطة معنوية تربط ذوي القربى والأرحام لم تَخْفَ على أنظار العقول السّليمة في العالم العربي منذ العصور القديمة. ومما يدل على ذلك دلالةً قوية؛ أن اللّغة العربية تسمِّي ذوي القربى باسم (العصبة)، وهذه الكلمة تمت بصلة الاشتقاق إلى كلمة (العصب) بمعنى الشَّد والرّبط، وكلمة (العصابة) بمعنى (الرَّابطة)، كما أنها تسمِّي الخصال والأفعال النَّاجمة عن ذلك- من تعاضد وتشيُّع- باسم “العصبية:، ما يجعل (ابن خلدون) يتخذها موضوعًا لدراسة شاملة وعميقة، متحدثًا- بدايةً-  عن مصدرها، معيدًا إياها إلى الطَّبيعة البشرية، وأثر القرابة في الحياة الاجتماعية، فتهمل على تكريس الاتّحاد والالتحام والتّعاضد والتّناصر بين أفراد النّسب الواحد، وتتسع لتشمل الحلف، والولاء، والدخالة، بل لم يكتفِ بذلك، بل وسَّع مفهومها أكثر، ، وشملها إلى الرق والاصطناع، وقد قال:

“إذا اصطنع أهل العصبية قومًا من غير نسبهم، أو استرقّوا العبدان والموالي والتحموا به؛ ضرب معهم أولئك الموالي المصطنعون بنسبهم في تلك العصبية، ولبسوا جلدتها كأنها عصبيتهم، وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها” (ص135)

 (2)تنخفضُ العصبيَّةُ بتحسُّنِ الظّروف المعيشيةِ.

(3)التّرف يخفّضُ العصبية أكثر فأكثر.

(4)يتسلط سيد القبيلة ويستبدّ، ثم تندثر العصبية، ثم تنتقل السلطة إلى قبيلة جديدة لتمر العصبية بالأدوار نفسِها.

فهم ابن خلدون للتّاريخ:

(1)قبلَهُ كانَ التَّاريخ (سَرْدًا)، يحمل مغالطات ومبالغات وأساطير وتملّق للسّلطان. أما معه، فقد أخضع التَّاريخ لـ:

(أ)قواعد السّياسة.

(ب)طبائع الموجودات.

(ت)العادات والتقاليد.

(ث)الأديان.

(ج)مقارنة الحاضر بالماضي.

(ح)أسس العمران. وفيها يستفيض بالأمور الاقتصادية، فيرى أن “قيم الأشياء” تتبع- من حيث الأساس- “العمل الذي يُبْذَلُ لإنتاجها”، ويرى أن “الأعمال هي سبب الكسب”، وأنه

“لا بد من أعمال إنسانية في كل مكسوب ومتمول”، وأنَّ “الرّزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران”، ملاحظًا أن  العمل أيضًا يتبع قانون العرض والطَّلب، فترتفع قيمة العمل عند زيادة الطَّلب؛ ولذلك تكون أجور “المتعلمين مرتفعةً المستبحرة في العمران”، وكذلك تكون “الصّنائع والأعمال غاليةً في الأمصار الموفورة العمران[25]“.

 (2)كي يكونَ التَّاريخ علمًا برأيِهِ:

(أ)يجب أن تكون رواية التَّاريخ مطابقة للواقع.

(ب)غاية التَّاريخ: معرفة أحوال الماضي والحاضر والمستقبل.

(3)طبقات المؤرخين برأيه:

(أ)الفُحول[26] (مؤرِّخو الطّبقة الأولى).

(ب)المتطفلون: الذين أخذوا عن الفُحول وأضافوا بعض المعلومات.

(ت)الذين أخذوا عن الطّبقة الثَّانية من دونِ تمحيص.

(4)أجيال الدّولة: (120 سنة)

(أ)الجيل الأول: نمط البداوة.

(ب)الجيل الثَّاني: تَرَفٌ وتحضُّر وانفراد شخص بالحكم.

(ت)الجيل الثالث: تَرَفٌ يؤدي إلى انقراض الدّولة.

(5)أطوار الدّولة:

(أ)الظَّفَرُ بالحُكْمِ.

(ب)الانفراد بالحُكمِ.

(ت)تحصيل ثمرات المُلْكِ والجباية؛ أي: جمع الضّرائب، وتشييد المباني والمصانع.

(ث)القُنوع [القُنوع: القناعة] والمسالَمَة [السّلام والمصالحة].

(ج)التَّبْذير [التبذير: الإسراف]، فالهَرَم [الهَرَمْ: كبر السّنِ]، فالانقراض.

ابن إياس

(التَّاريخ هو الصَّادقُ المغني عن السَّيف)

هو محمد بن إياس. شركسي مِن الأبازة [أو الأباظة][27]، ولد في القاهرة في 6 ربيع الآخر سنة 852ه. وتوفي سنة 920ه.

جده الأمير إياس الفخري الظّاهري مِن مماليك السّلطان الظّاهر برقوق أول مماليك دولة الشَّراكِسَة[28]، وله كتب أهمها: (عقود الجمان في وقائع الأزمان)، (مرج الزّهور في وقائع الدهور)، (نزهة الأمم في العجائب والحكم)[29]، و(عجائب السّلوك)، (نشق الأزهار في عجائب الأقطار)، (منتظم بدء الدُّنيا وتاريخ الأمم)[30].

       وتكمن أهمية ابن إياس في أنه مؤرخ وأديب وشركسي ويكتب عن عصر يحكم فيه سلاطين الشَّراكِسَة كواحد من الشّعب المصري، لا كواحد من الحكام وإن كان واحدًا منهم.

من هنا، كان لا بد من الوقوف مع ابن إياس- المؤرخ قبل الشَّاعِر وهو الّذي اختص بالتَّاريخ حتى اعتبره الصَّادقَ المغني عن السَّيف إذ قال:

عوِّلْ على كتبِ التَّاريخ واعنَ بها 

فكم تهزُّ لها الأعطافُ مِن طربِ

ولا تعوِّلْ على مَن قالَ مِن سفَهٍ  

السَّيفُ أصدقُ أنباءً مِن الكتبِ[31]

وإذ نال ابن إياس شهرته مِن كتابه التَّاريخي الكبير الشَّهير: (بدائع الزّهور في وقائع الدّهور)، نقرأ في الكتاب الأديبَ والمؤرخ ذا الآفاق الواسعة، تلك السّمة الّتي جمعت مؤرخي تلك الفترة كما قال نقولا زيادة[32]، فنقرأ الأديب والمؤرخ حر التّعبير؛ وكانت الحرية تمارسها العامّةُ في النّتاج الشّعبيّ في تلك العصور بينما يمارسها المؤرخون في النّتاج التَّاريخي ويمارسها الفقهاء الأحرار في النّتاج الفقهي وإلا ما وصلت إلينا سلبيات هذه العصور[33] الّتي تطرق المؤرخون الحديثون في أحكامهم عليها مِن دون أن ينظروا بموضوعية إلى إيجابيات هذه الفترة الّتي تكمن في الازدهار العلمي والأدبي والفني والّذي بلغ ذروته فيها.

نقرأ ابن إياس الّذي عاش عصرين وشهد أحداث جيلين: أواخر العصر التُّركي المملوكي ومستهل العصر التُّركي العثماني، فكان كتابه عظيم الفائدة مِن النَّواحي السّياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثّقافية، وكذلك من النّاحية الحربية[34].

وتكمن أهمية ابن إياس- أيضًا- في كونه ذكر المصطلحات[35] المستعملة وقتها، وأمدَّنا بالكثير فيما يتعلق باستعمال الأسلحة النَّارية[36].

ولعل ثقافته الواسعة وعلمه الغزير ونشوءه في بيئة قريبة مِن الحكام – إلى جانب نزعته الأدبية – هو ما خوّله أن يكون مميزًا، حتى إن مارجليوث في كتابه: (محاضرات حول المؤرخين العرب) وصف أسلوب ابن إياس بقوله:

“إن أسلوبه في الكتابة والتّأليف ونمطه في التَّفكير ينم كل منهما عن فردية واستقلال في الرأي قل أن يقربه فيه معظم المؤرخين”[37].

وما يميّز (ابن إياس) هو أنه شاعر، إلى جانب كونه مؤرّخًا، وقد استعان بلغته الشّعرية البسيطة الأقرب إلى “العامية منها إلى الفصحى”[38] والتي استعان بها  في التّعبير شعرًا ونثرًا  كما  استعانَ بنثر وشعر غيره  من أصحاب هذه اللّغة “للتعبير عن الانفعالات الّتي كانت تتولد في أعماقه بسبب حالة سياسية أو اجتماعية معينة”[39].

فإذا توقفنا عند كلمة (انفعالات)، وإدخال (الشّعر) للتّعبير عن هذه الانفعالات أو لإيضاحها وإعطائها وهجًا، نجد أن ابن إياس- الشَّاعِر، يستنجد بالشّعر إذ يصعب على النّثر التّعبير الحماسي أو العاطفي فيما يتعلق بما يحدث.

وتشير سيدة إسماعيل كاشف في بحثها عن ابن إياس أنه- في تتبعه لحوادث مصر والقاهرة- كتب عنها حسب مشاهداته و”إحساساته”[40] إلى جانب أنه كان يستقي معلوماته مِن “أوثق المصادر وأكثرها صلة بالأحداث الجارية في مصر وقتذاك”[41]، فكان “أحد المؤرخين القلائل الّذين يتميزون بحسٍّ أدبي شعبيٍّ دفعه إلى أن يتخذ كثيرًا من فنون الشّعر الشّعبي وعاء أدبيًّا للتَّعبير عن رأيه في الأحداث، مشاركًا بذلك، في التّعبير عن الوجدان الشّعبي السّائد آنذاك تجاه هذا السّلطان أو ذاك، ولا سيما في الأحداث الّتي عاصرها”[42]، منفِّذًا نظرية أن الشّعر أو الأدب مسؤول عن “الحروب الخاسرة أو الكاسبة، عن ضروب التَّمرد وأصناف الرّدع، وهو- إذا لم يكن حليفًا للمظلومين- فإنه لن يكون إلا شريكًا للظَّالمين”[43].

لكنّ  التَّاريخ طغى  عليه، فعُرف به ولم يعرف على نطاق واسع شاعرًا شعبيًّا سمى “الزَّجل”: “الفنَّ الشَّريف”، وترجم “لقيم الزّجل” في الشَّام ومصر، ونقل نصوصًا زجلية كثيرة عنهما في تأريخه – لولاه – لضاعت كما ضاع الكثير منها[44].

ابن إياس والسّلطان قانصوه الغوري

وصل (قانصوه الغوري) إلى سدة الحكم والمملكة المصرية في أحرج ساعاتها، “فقد اضطربت أحوالها الدّاخلية وتركز في نفوس أمرائها وجنودها حب العصيان والخيانة، واعتادوا الفتنة والثّورة والتَّأبي على أوامر السّلطان”[45] الّذي اضطرَّ إلى اللّجوء إلى الأموال الموقوفة فأخذ منها جانبًا وفرض الضّرائبَ على النّاس حتى أثار غضبهم وذلك  إلى جانب مواجهته أمور الدّولة الخارجية[46].

لقد كانت خزائن السّلطان “خاوية”[47] بسبب مواجهاته لكل ما حوله بالإضافة إلى معاناة البلاد من الآثار السَّلبية لحروب الفرنجة والتتر الّتي تركت أثرًا سلبيًّا على المدى الطّويل”[48] من كل النَّواحي.

كانت علاقة ابن إياس بقانصوه الغوري  علاقة جريئة، فحين خرج السّلطان الأشرف إقطاعات[49] أولاد النّاس، وكان ابن إياس قد خرج إقطاعه لأربعة مِن المماليك، هب المؤرّخ- الشّاعر مقاتلًا بالشّعر السّلطان وتدابيره، وبلسان جريء، منشدًا بيتين من المواليا:

يا مالكَ المُلكِ يا مَنْ بالعبادِ ألطفْ

دبِّرْ عبيدَك وأصلحْ دولةَ الأشرفْ

كم مِن أقاطيعَ أخرجَها وما أنصفْ

وأطغى المماليكَ ذا يهجمْ وذا يخطفْ[50]

ويشارك ابن إياس العامة شماتتهم بالغوري وقت شاع نبأ مرض أصابه في عينه فأشاع العامة أنه عمي، فيقول:

سلطانُنا الغوري غارَتْ عينُه

لمَّا اشترى ظلمَ العبادِ بدينِهِ

لا زالَ “ينظر” أخذَ أرزاقِ الورى

حتى أُصيبَ “بآفةٍ في عينِهِ”[51]

وغيرها من الاعتراضات التي لم تعنِ أنه خرج عن الموضوعية، فهو يثور حين تدعو الحاجة إلى الثَّورة، ويسجل رضاه حين تدعو الحاجة أيضًا.

فبعد أن ثارت ثائرة شاعرنا إذ خرج إقطاعه فطلب مِن “مالك الملك” أن يصلح دولة الأشرف واستجاب الله دعوته إذ أعاد السّلطان الغوري إليه إقطاعه فحصل منه له “غاية الجبر”.

ومثلما يثور المؤرّخ- الشَّاعِر إذ يُحَمَّلُ الشّعب ما لا طاقة له به، يفرح إذ يخف الثّقل عنه، فنراه يصف حال النّاس حين أمر السّلطان بإبطال المشاهرة الّتي كانت على الحسبة، نازلًا إلى الشّارع، واصفًا فرح الجياع ودعاءهم للسّلطان وجبران قلوب الحزانى البؤساء.

لم يسكت ابن إياس، إذن، عن الخطأ؛ بل تحدث عنه وبيّنه وفضحه وشمت بفاعله، مراقبًا عقاب الدَّهر لمَن عاقبوا وظلموا، وفي الوقت نفسه، رثى الدولة التي وقف فيها بقلمه يصطاد الخطأ ويقوّمه بمحبة غير ناجمةٍ عن عقدة نقصٍ ولا هي تهدف إلى التجريح من أجل التّجريح.  

ما مهمة المؤرخ؟

أو ليست في النُّزول مِن البرج العاجي للمشاركة؟

هل كان ابن إياس مؤرخًا فذًّا وفريدًا فقط، أم كان شاعرًا فذًّا وفريدًا أيضًا؟

لعله كان الاثنين معًا.


[1]النَّقْلُ (ن ق ل): مصدر نَقَلَ، وهو رِوايَةُ الكَلامِ والأَخبارِ ونحوها.

[2]العَنْعَنَة: نقْل الحديث النّبوي الشّريف شفهيًّا عن…عن…عن…

[3] – هناك كتابان بعنوان (المَغازي)؛ الأول: (للواقدي)، والثّاني (لابن هشام).

[4]لتّواتُر (و ت ر): مصدرُ تواترَ؛ و(تَواتَرتِ الأَخبارُ): جاءَ بعضُها في إثرِ بَعضٍ وِتْرًا وِتْرًا غير مُنقَطِعةٍ. فإذا تتابعَتْ، فليسَت متوترةً، بل هي متتابِعة ومتدارِكة.

[5]– أحمد أمين: ضحى الإسلام.

[6]الفِقْهُ (ف ق هـ): مصدر فَقِهَ، وهو الفَهْمُ والفِطْنَةُ، (أو) العِلمُ بالشّيء والفَهْمُ له، وغَلَبَ في عِلْمِ الشَّرِيعةِ وفي عِلمِ أُصُولِ الدِّينِ، و(الفَقُهَةُ): الفَقِيهَةُ، و(الفَقُهُ والفَقِهُ والفَقِيهُ): الذَّكِيُّ.

[7]المُخَضْرَمُ: مَن أدركَ (الجاهليةَ) والإسلامَ، (أو): مَنْ أدركَ عهدَيْنِ مُطْلَقًا.

[8]الأعلام: جمع (عَلَم)، وهو سيِّدُ القومِ، أو هم المشهورون في القوم، من أدباء وفقهاء وشعراء وعلماء وغيرهم.

[9]الصّوفية: التّصوّف، وهو مذهبٌ روحيُّ يعتقدُ أنصارُهُ بإمكانيةِ اتحاد النّفسِ البشريةِ اتحادًا مباشَرًا بالخالِقِ.

[10]– جرجي زيدان: تاريخ آداب اللّغة العربية.

[11]-سناء الأمين: مطالعة لدراسة: (إعلام الأعيان بذكر ما لم يُذكَر في ترجمة ابن خِلِّكانْ) للباحث المغربي (إبراهيم بلفقيه اليوسفي) المتخصص في لسانيات النَّصّ وتحليل الخطاب، والصّادرة ضمن السّلسلة المحكمة التي يصدرها (معهد المخطوطات العربية) في القاهرة. [العربي الجديد: 2019].

[12] – انظر: الألوكة.

[13]الدِّيوان: المكان الذي يُنظَرُ فيه في أمور الدولة وقضايا الحكم.

[14]السَّرْد: الحكْي عن طريقِ الرواية.

[15]– أحمد أمين: ظهر الإسلام، الفصل الثّامن.

[16]– أحمد أمين: ظهر الإسلام، الفصل الثّامن.

[17]جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية (العلوم الإسلامية).

[18]-الحَوْل (ح و ل): السّنة، وجمعه: أحوالٌ، وحُؤولٌ، وحُوولٌ.

[19]– يرى الدكتور قاسم عبده قاسم أن مصطلح “صليبي”، هو مصطلح أوروبي ترجم إلى العربية واستخدم بدل “الفرنج” المصطلح الّذي استعمله المؤرخون العرب الّذين عاصروا الحملات الصليبية. ويرى فيه خطورة إذ يوحي “مصطلح الصّليبي” بأن “الحركة كانت حركة دينية ترتبط بالصليب رمز المسيحية ولا تضعها في إطارها الصحيح باعتبارها مغامرة استيطانية متعصبة. ومن ناحية أخرى، فإن استخدام هذا المصطلح يظلم المسيحيين الشّرقيين الّذين عانى قسم كبير منهم من وحشية الفرنج وعدواتهم”[انظر: قاسم عبده قاسم، ماهية الحروب الصليبية (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، شوال 1410ه_ مايو/1990م)، العدد 149، ص14 _ 15].

[20]– والكتاب صدر عن دار الكتب العلمية، تحقيق: علي معوض وعادل عبد الموجود: 1994 م.

[21]– د. يوسف البقاعي: الكتاب صدر عن دار الفكر، 1998 م.

[22] – انظر:  ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون (بيروت: دار الكتاب اللبناني 1968).

[23] – انظر: حسين عاصي: ابن خلدون مؤرخًا (بيروت: دار الكتب العلمية، 1991) ص190-191

[24] العصبية (ع ص ب): قرابةُ الإنسان من جهة أبيه، والمدافعة عمَّنْ يرتبطُ أمرُكَ بأمرِهم لغرَضٍ من الأغراضِ، أو بمعنى آخر: الانتماءُ والولاءُ.

[25]– ساطع الحصري: (دراسات عن مقدمة ابن خلدون)، الحياة الاقتصادية، بتصرف.

[26]– الفَحلُ (ف ح ل): الذَّكَر القوي من كل حيوان، أو ذكَر النّخل، جمعه: أفحُلٌ، وفُحول، وفُحولةٌ، وفِحالٌ، وفِحالةٌ. أو هو: الرّاوي، وجمعه: فُحول.

[27] _ راسم رشدي: مصر والشَّراكِسَة، ص129.

[28] _ سيدة إسماعيل كاشف، محاضرة بعنوان: مكانة ابن إياس مؤرخي مصر في العصور الوسطى، كتاب:  ابن إياس (دراسات وبحوث) بإشراف أحمد عزت عبد الكريم (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977)، ص50 _ 53.

[29] نفسه، ص54.

[30] _ عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي من مطلع القرن الخامس الهجري إلى الفتح العثماني 400 _ 923ه_/1009م _ 1517م (بيروت: دار العلم للملايين، 1972)، ص936 _ 937.

[31] _ ابن إياس، أبو البركات محمد بن أحمد بن إياس الحنفي 852 _ 920ه: بدائع الزّهور في وقائع الدهور، تحقيق: محمد مصطفى (القاهرة: فرانز ستاينر، 1960 _ 1974)، 4: 486.

[32] _ إذ وصفهم بأنهم كانوا منفتحين وقال: إن كتاباتهم كانت  عن الإسلام والبلاد الإسلامية إلا أنهم كانوا قد ارتبطوا بجماعات أخرى في الشّرق والغرب وكونوا معها علاقات وثيقة وتعاملوا معها بشكل واسع، وقد جاءت كتاباتهم مستندة على كتابات الجغرافيين والزَّجالين الّذين درسوا أجزاء العالم وكتبوا عنها. كما دوَّن هؤلاء المؤرخون تاريخ الحروب الصَّليبية أكبر نزاع مسلح بين المسيحية والإسلام، ويخلص زيادة إلى نتيجة مفادها: “كانت آفاقهم أوسع”، [نقولا زيادة، دمشق في عصر المماليك (بيروت _ نيويورك: مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، مكتبة لبنان، 1966)، ص203 _ 204)].

[33] _ محمد رجب النجار، الشّعر الشّعبي السَّاخر في عصور المماليك [الفكاهة والضحك (الكويت: عالم الفكر، اكتوبر _ نوفمبر _ ديسمبر، 1982)، ج: 13، ع: 3، ص65].

[34] _ فاضل عبد اللطيف الخالدي، مقال: ابن إياس المصري، منهجه في البحث التّاريخي، كتاب ابن إياس ص28 _ 31 _ 32.

[35] _ عبد المنعم ماجد، كتاب ابن إياس، ص93 _ 94 _ 95.

[36] _ عبد الرحمن زكي، مقال: ابن إياس واستخدام الأسلحة النارية الّتي في ضوء ما كتبه في كتاب بدائع الزّهور، ع.س، ص104.

[37] _ سيدة إسماعيل كاشف، ع. س، ص62.

[38] _ محمد زغلول سلام، ع.س، ص110.

[39] _ فاضل عبد اللطيف الخالدي، ع.س، ص36.

[40] _ سيد إسماعيل كاشف، ع.س، ص60.

[41]_  فاضل عبد اللطيف الخالدي، ع.س، ص33.

[42] _ محمد رجب النجار، ع.س، ص84.

[43] _ أحمد أبو حاقة: الالتزام في الشّعر العربي (بيروت: دار العلم للملايين، ط1: 1979)، ص43.

[44] _ محمد رجب النجار، ع.س، ص71.

[45] _ محمود رزق سليم، عصر سلاطين المماليك 1/58.

[46] _ من فتن في بلاد الحجاز، واعتداء على حجاج مصر والشّام وشذود بعض أمراء الشّام عن طاعته وعبث عربان البلاد في نواحيها إلى جانب عبث الفرنجة وسلطان الفرس والعثمانيين وقد أدى كشف البرتغاليين لطريق جنوب أفريقيا والعبث بالسفن والشواطئ والمتاجر المصرية في الشّمال والشّرق إلى نقص إيرادات مصر مما جعل البلاد تعاني اقتصادياً. [نفسه، ص59].

[47] _ نفسه، ص59.

[48] _ قاسم عبده قاسم، ع.س، ص214.

[49] _ الإقطاع: مساحة من الأرض تكون مصدر دخل سنوي للأمير بما يعادل رتبته الحربية، ولم تكن قريبة من مسكن صاحبها، بل إنها كثيراً ما كانت بعيدة عنه، وكان على الأمير أن يدفع سنوياً مبلغاً من المال مقابلها إلى ديوان الجيش وكان الإقطاع في عهدهم ينتهي بوفاة صاحبه أو إدانته أو نقله عكس الإقطاع أيام الأيوبيين الّذي يقر بتوريث الإقطاعات [إحسان فخري القاس: الأوضاع الاقتصادية في عصر سلاطين الشَّراكِسَة، (دمشق: النشرة الثّقافية جمعية المقاصد الخيرية الشّركسية، 1992)، ع: 6، ص61].

[50] _ بدائع الزّهور، 4/136.

[51] _ محمد رجب النجار، ع.س، ص84.

One Response to جولة في علم التَّاريخ العربي

  1. د/ عبدالرحمن البنا رد

    3 فبراير, 2023 at 3:14 م

    دراسة اكثر من رائعة، وتضم عددا كبير، من المراجع، جهد بحثي، يستحق الإشادة والشكر والتقدير،

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات