قراءة الروائي (آرام كربيت) لرواية (الأثير) للروائية اللبنانية (إيمان بقاعي) (رواية لبنانية جدًّا)

10:13 مساءً الجمعة 16 ديسمبر 2022
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بقلم آرام كربيت

رواية (الأثير) التي تعرِّفها كاتبتها الأديبة إيمان بقاعي بأنها “رواية لبنانية جدًّا”، هذه الرّواية الصغيرة الحجم، الكبيرة بأحداثها، نستطيع أن ندرجها ضمن (أدب الحرب الأهلية)، الحرب التي لم تكن عشوائية كما يظن الكثير من الناس، بل كانت حرب استراتيجية، أو وظيفية، لخطف الأنظار عن العمليات السياسية المهمة التي حدثت على أطراف الدولة المبتلية بهذه الحرب.

رواية متداخلة جدًا، تبدو من الخارج بسيطة، بيد أنها معقَّدة، تتناول الحرب الأهلية لخدمة “أجندة” خارجية بأدوات محلية:

ولئلا تعتقدي أن الخطف العشوائيّ- كما يوحي اسمُه-  كان عشوائيَّ الهدف، أؤكدُ لكِ أنَّه لم يكنْ كذلكَ، بل كان خطفًا استراتيجيًّا؛ إذ إنه وجد ليثير الخوف والشَّك بين الناس؛ ما يعني أن مهمته الرّئيسة كانت تفتيت الثقة؛ إذ لن يثق- بسببه- أحد بأحد، إلا ضمن دائرة العائلة التي تتسع لتشمل الحيّ، فالطّائفة. وهكذا تكتشفين أن المطلوب منه كان أن يرتبط أمنُ المواطن بالعائلة والحي والطّائفة ليحكم إغلاق الدّائرة بالمتاريس والقنْص”.

يقول بطل الرّواية (الأثير)، ويتابعُ شارحًا لمرافِقته شرح العارف:

“ولئلا تعتقدي أيضًا أن القناص- كما كنا نعتقد بداية الحرب- هو مجرد قاتل محترِف من جماعة المُرتَزقة، يتقاضى أجرًا أو مكافأة على عمله، أجزم لك أن عملَه كان- كما الخطف العشوائيّ- جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية حرب المدن التي يفترَض أن تتحول فيها الأحياء إلى جبهات قتال لا تلبث أن “تتطهّر” من رافضي الحرب، فتغادر العائلات حاملة ما خفّ وزنه وغلا ثمنه- إن وُجد، إلى حيث لا يعلم إلا ربّ السّموات متى تعود وكيف وعلى أية قاعدة”.

وهذه الجمل تلخص الهدف الحقيقي من الحروب الأهلية المعاصرة: أن تفرغ الأوطان من النّخب الثقافية والفنية والقوى المدنية الحية، وتبقي على العاجز والخانع والضعيف، وتبقي الجرح مفتوحًا إلى أمد طويل.

رواية مركبة تبدو لنا الشخصيات تتحرك في فضاء طبيعي بسيط وسهل، ثم نكتشف أنها أخذتنا إلى اليمّ العميق، فنغرق في عمق الأحداث القاهرة التي مر بها لبنان في الحرب التي امتدت منذ العام (1975 إلى العام 1990)، بأسلوب سهل ومعقد للغاية، تترك الشخصيات تتحدث ببساطة، ثم نرى أنها تنفث النِّيران في ما حدث في الواقع، بله تترك القارئ في حيرة، يسرح في التجوال في عمق الأزمة العميقة، بحيث تأسر لبَّنَا وتتركنا نتوه في أتون الدمار والضياع الذي عاشه هذا البلد المنكوب.

رواية قصيرة حوالي (مئة وخمسين صفحة)، مكثفة جدًا مملوءة بالحيوية والتفاعل، تدخل البيت اللبناني من أوسع أبوابه، والتجربة المترابطة  مع القضايا الموجودة على السّاحة التي يُجيد زعماؤها توزيع شهادات حُسن سلوك لمن “تستقطبهم” من الشّباب وتغدق عليهم المال والسلاح من دون أن يسمح لهم أن يطرحوا أي سؤال، “فأبناء الحرب غير أبناء الأكاديميا”.

وكأن الروائية اللبنانية (إيمان بقاعي) لا تتحدث عن (الحرب الأهلية) اللبنانية فحسب، بله كأنها تتحدث عن سوريا اليوم، وليبيا، واليمن، أو أية بقعة فيها أمراض اجتماعية وسياسية وتدخلات خارجية، وعرضة للمذبحة الوطنية الذاتية.

وكأن الرواية فخ للقارئ، تبدأ بلغة عربية بليغة رائعة، جذلة، جذابة تمسك الكلمات وكأنها تعزف، تتفنن في نقل الأحداث بإتقان ثم تتوسع وتدخل أرض الواقع بأدق تفاصيله مستخدمة براعتها وتمكنها من أدوات الكتابة، تفعّل الشخصيات، تتحدث ببساطة وكأنها شخصية عادية، ثم تنتقل معهم نقلات نوعية لا نكون- كقرّاء- مستعدين لها، عندما تبدأ هذه الشخصيات البسيطة في التحول رويدًا رويدا إلى شخصيات ممتلئة، معقدة، وعميقة جدًا، تنفث النار في مفاصل العمل، تعري الواقع المعرى بتفعيل تعريته وإخراجه من العادي إلى الحقيقة الحقيقية عبر الأدب وتجعل المرء  يمسك الأحداث، يمسك بلب المجتمع وأمراضه وقواه.

إيمان بقاعي

ربما هذه الرواية، (الأثير)، كانت تحتاج إلى أربعمائة صفحة لتقرب الأحداث من القارئ، بيد أننا- كقراء- التقطنا حبكة العمل بقدرتها على اختصار الزمن والوقت وإيصال الحدث إلينا بكل بساطة ويسر، ولكن على المرء- القارئ أن يركز على الشخصيات، لأنها متماسكة الحبكة، وفيها قدرات أدبية عالية وفنية جميلة للغاية هو نتيجة قدرة الأديبة على تجسيد العمل بإتقان، فإذا بنا أمام أوضاع يُخطف فيها المفكرون وتكسَر أقلامهم وقلوبهم، فنجد أنفسنا إزاء مواجهة حقيقة أظهرتها الرواية، وهي أن قدر بلادنا أن يموت المفكر قبل نضوج الفكر، أو يتم تكسيره بفعل فاعل فتموت الأزهار والورود والأغاني على مذبح العلاقة، بين خارج وداخل!

نادرًا هي (الحروب الأهلية) التي تبقي البناء الوطني دون تفكيك:

فـ“حرب المدن التي يفترَض أن تتحول فيها الأحياء إلى جبهات قتال لا تلبث أن “تتطهّر” من رافضي الحرب”.

و“إثر كل “تطهيرٍ”، كان يوضَع للمنطقة نظام حُكم  وفق قوة لغة الحرب الوحيدة المسموعةِ؛ أي: لغة السلاح!” القادرة- مع تمطّي الحرب- على “طرد النّاسِ من بيوتهم ومناطقهم، وسد أبواب أسباب العيْش وسبله، وكمّ أفواه كل المفكرين الرافضين ما يحدث، عدا عن التعامل بضراوة مع كل من تُعتقد عداوته لأرباب الأمر الواقع”. 

الأدب انعكاس لواقع اجتماعي سياسي، راصد أمين لتحولات المجتمع، يعمل الأديب على تجسير العلاقة بين ما حدث وما يجب أن لا يحدث، لهذا نرى الأدب في بلادنا موجوع، يبكي ويصرخ ويحاول أن يمزق جدران الصمت، وتعمل الحرب على قطع الوطن الواحد إلى زمنين منفصلين، مفقود الروابط، جرحه عميق.

 وإذ أشارَ إلى “الجنينتينِ” المشجرتين؛ قالَ بصوتٍ حزينٍ:

  • ما عادت مسابك زهور الفُل والزنبق والريحان والياسمينِ تملأ المكان عبقًا؛  بل استُبدلت، كما ترين، بالنباتات البرية الشائكة، وبالهواء المثقَل برائحة البارود والموت لسنوات طويلة، تمامًا كما استُبدل نور الشمس الداخل من الأبواب والنوافذ بأكياس الرّمل اتّقاء اختراق أدوات الموت البيوتَ الحية”.

ثم تقدما معًا في “الزاروب المشجر المؤدي إلى بيته بخطوات متأنية فوق أوراق الشجر اليابسة الصّفراء المائلة إلى البنّي؛  فتكسرتْ تحت أقدامهما وصوتت، وكادت تتسبب بتزحلقها لو لم يسندها في اللحظة الأخيرة، طالبًا منها التمهل إلى أن تسمرت قدماه قبالة الباب،  فرسم على شفتيه ابتسامة مائلة تسخر من معنى الفرح الغامر الذي ينتاب المرء كلما عاد إلى بيته أو بيت طفولته، مشيرًا إلى لوحة كبيرة وُضع أسفلها رقم هاتفه وقد خُطّت عليها بعناية كلمة واحدة: (للبيع)!”

هذه الإشارات والرموز إشاراتُ زمن الموت، ونهاية دولة ومجتمع، وبداية دولة ومجتمع تعمل على مقاس المصالح الاستراتيجية للدول الفاعلة في مصائر الدول الصغيرة الواقعة في قلب الصراعات الدولية، رغم كل التّمسك بالانتماء اللبناني “الحضاري” بدءًا من الصفحات الأولى التي استعرضت الكاتبة فيها ما تعنيه بلبنان، من خلال لوحات (الأخوين رحباني)، و(فيروز)، و(الصَّبوحة)، و(منير أبو دبس)، و(لطيفة وأنطوان ملتقى)، و(شوشو)، و(روجيه عسّاف)، و(ريمون جبارة)، و(يعقوب الشّدراوي)، و(روميو لحّود)، ولوحات أخرى كثيرة عُلقت وقد أُطرت حديثًا بأُطر خشبية بنية رفيعة يتخللها اللون الذهبي المعتق”، وكذلك “لوحة روز غريب، أم مسرح الأطفال اللبناني”، وأكبرها لوحة “(مارون النَّقَّاش)، أَوّل مسرحيٍّ لبنانيٍّ وعربيٍّ”، وأكدت على انتماء بطلي الرواية، مكرسة “الأثير” حارسًا  لـ “الذاكرة الفنية الجمعيّة لهذا البلد الصّغير- الكبير، رغم أنف كل مَن يحاول تقويضَها”، من خلال ترؤسه “بيت المَسْرَح اللُّبناني” في (بيروت) “حبّه الأكبر، ومسقط رأسِه وأجداده”، آملة- من خلال بطلة الرواية (الأغلى) المؤمنة بالانتماء الفني ذاته، والعاملة في مجاله ككاتبة مسرح للأطفال، أن يستطيع الفن- رغم ضبابية المشهد- أن يقهر الحرب وآثارها!

آرام كربيت

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات