‬الدكتورة منى رسلان تكتب قراءتها النقدية لـ (جاين هونغ) “بيروت أجمل على الدَّرَّاجة”

10:21 صباحًا السبت 18 فبراير 2023
د. منى رسلان

د. منى رسلان

أُسْتَاذةُ النَّقْد الأَدَبِيّ المعاصر والمنهجيَّة فِي كليَّة الآدابِ والعُلومِ الإنسانيَّة في الجامعة اللبنانيَّة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

يبحثُ الإنسانُ عن المعرفة لذاتها، سواء أكانت صالحة للتَّطبيق داخل المُجتمعات أم لا تصلُح، وفقًا لضرورات الواقعيَّة المُجتمعيَّة أو تلك المُرتبطة بالسَّعي والاجتهاد، بعيدًا من الجهلِ من جهةٍ، والتَّفلسُفِ من جهةٍ ثانية.

وعليه، يُسطِّرُ الإبحارُ في المعرفةِ، أداةً للتَّفكُّرِ بتفاصيل موضوع ما، أو صيرورة شخصيَّة (ذاتيَّة أو موضوعيَّة)، أو استقراءً لحالةٍ اجتماعيَّةٍ أو سياسيَّةٍ أو ثقافيَّةٍ أو دينيَّةٍ أو أيديولوجيَّةٍ بعينها، والَّتي يُحدِّدها بعض المُفكِّرين بـ “النُّضوج الطَّبيعيّ” لإدراك المعاني والتَّصاوير والوقائع بعينها، وتحديد حضور الكائن العاقل “الفاعل” بعلاقته مع ذاته بادئ ذي بدء، ثمَّ علاقتِهِ مع الآخرين، فمعِ الدَّولةِ وأنظِمتِها القانونيَّةِ والتَّشريعيَّةِ والإجرائيَّةِ – التَّنظيميَّةِ، بما يُساعد المرء على استيعابِ موقعه داخل أيٍّ من التَّكتُّلات أو أيٍّ مِنَ المؤسَّساتِ (الأُسريَّةِ، الاجتماعيَّةِ، العمليَّةِ، الحزبيَّةِ ولرُبَّما السِّياسيَّة منها في الدَّولة…) محكومًا بمنظوماتٍ قانونيَّةٍ أو بمرجعياتٍ أخلاقيَّةٍ أو ثقافيَّةٍ أو تربويَّةٍ أو علميَّةٍ وسواها الكثير، في المجتمع. وهي بمعنًى من المعاني، تصُبُّ في مَعين إنضاجٍ لتجرُبةٍ إنسانيَّةٍ لا مُتناهية.

مِنْ هُنا، سيكونُ كتابُ الكاتبة والقاصَّة جاين هونغ، الصَّادر عن دار المشرق، في طبعته الأولى من العام 2022، بترجمته إلى العربيَّة لـ “سميرة الحسين”، بيروت أجمل على الدَّرَّاجة، عنوانًا مُحيِّرًا وآسِرًا للقُرَّاء في آنٍ معًا. فكأنِّي ببيروت تتمطَّى فوق صهوةِ الدَّرَّاجة الهوائيَّةِ، أو هي رحَّالةٌ تُنادي حياتها عبر المسالِك والممرَّاتِ إلى بداياتٍ أولى والدُّخول إلى رِحاب عالمٍ من الاستكشافات في طبيعة “إنسانيَّة بيروتيَّة” بهيَّة، بملامح جُدرانها، وتعابير أزقَّتها وتجاعيد زواريبها، وأبنيتها العتيقة، وأصالتها التَّاريخيَّةِ، وحركيَّة ناسها ومُرتاديها؛ أو هي رحلةٌ في الحُرِّيَّةِ المُتجدِّدةِ تلاوينها في فنونِها الغرافيكيَّةِ أو التَّشكيليَّةِ أو المسرحيَّةِ أو الصِّحافيَّة، أو الأدبيَّةِ والنَّقديَّة؛ أو هي هذا الصَّرح التَّعليميُّ بمشروعِهِ الثَّقافيّ الهادف الَّذي يُسابق أزمنة التَّهجير والمُخيَّمات وأزمة اللَّاجئين في وطن مُتأزِّم، مفتوح على شتَّى أنواع الصِّراعات (فكريًّا وقوميًّا وتاريخيًّا..)؛ أو إنَّها تُشكِّلُ مسارًا تواصليَّا لخوض تجارب حياتيَّة، بموضوعاتها الشَّائكة، إنْ على المستوى الفلسفيِّ (مسألة الحضورِ أو الغياب)، (الحياة أو الموت)، (الانبعاث أو الخمود)، (التَّجدُّد أو التَّقوقع)، (الشَّغف أو الانعزال فالتَّقهقر)، أو على مستوى العيشِ في الواقع، أو الرُّكون – هُروبًا إلى خزينٍ هائلِ من الذِّكريات – بحُلوها و مُرِّها، المُشلَّعة بين أزقَّة بيروت وشوارع هونغ كونغ، فالهند وأستراليا والمكسيك وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وإسبانيا وألمانيا، وسويسرا والنِّيبال … والإمارات العربية المتَّحدة والبحرين وليبيا وتونس وجيبوتي، لتستقرّ – عمليًّا وحياتيًّا شخصيًّا – “ربيكَّا” بطلة حكاية بيروت أجمل على الدَّرَّاجة في لبنان.

لقد شكَّل عنوان القصَّة / الكتاب، مدارًا جُغرافيًّا وإنسانيًّا للبحث في المتن الحكائيِّ لقصَّةِ حياة ربيكَّا – ابنة جاين هونغ – الَّتي قضت منذ ما يقارب الخمس سنوات على يد سائقٍ متفلِّت أخلاقيًّا، إذ استباح جسدَها اليافع، مُفجِّرًا فيه غضبًا وحِقدًا ورعونةً، وصولًا إلى قتلها على طريق سريع. هي “سرديَّة” بواقعيَّتها الفجَّة، نقلتها القاصَّة – “الأم” جاين عن ذكرياتها الأُسريَّة مع ابنتها والعائلة، بسعادتِها وقلقِها ووجعِها الإنسانيِّ جرَّاء فقدهم الابنة ؛ والَّتي تعمل بنشاط منقطع النَّظير في المُخيَّمات ومع اللَّاجئين في مختلف أصقاع الأرض، والمُجتهدة في سعيها العمليِّ والقِيميِّ والإنسانيِّ.

ذكرياتٌ فوق صهوة حكايا أُمِّ “ربيكَّا” الإنسانيَّة في “بيروت أجمل على الدَّرَّاجة” لـ “جاين هونغ”

بيد أنَّ هذه الفجيعة لم تطل عائلة ربيكَّا وحدها، بل استحالت فجيعةٌ لبنانيَّة طالت البلد بأسرِهِ، وصدمة مُجتمعيَّة لما آل إليه سوء تدنِّي مستوى القيم الأخلاقيَّة عند البعض ممَّن تعتمل في نفوسهم الضِّعة والحِقد والغائيَّة، والتباسًا في أهمِّيَّة القيم من عاداتٍ وتقاليد واحترامٍ لحريَّة الغير؛ فتراهُم لا يسترشدون بالوعي وبالأخلاقيَّاتِ الدِّينيَّةِ والاجتماعيَّةِ والقانونيَّةِ الَّتي تُقيم الحدود بين حرِّيتهم وحريَّة الآخرين، وتُقيم في المضمار نفسه، العدالة بين النَّاس فتحكُم علاقة بعضهم البعض ضمن قوانين مرعيَّة الإجراء؛ وهم في الوقت نفسه يظنّون بأنَّ “لا قوانين ولا عدالة” في لبنان ستطال جُرميَّتهم، ليقعوا في فخِّ صنيعهم “اللَّا – ضميريّ” و”اللَّا – إنسانيّ” و”اللَّا – أخلاقيّ” و”اللَّا – قيميّ”.

لذا، تقومُ قصَّة “ربيكَّا” في بيروت أجمل على الدَّرَّاجة، على سبرِ أغوارِ ذكرياتِ الأُمومة، المُدرِكة فجيعتها الشَّخصيَّة، وتلك الأُسريَّة، في بحثِها عن المدركات الكُليَّة الأكثر شموليَّةً، فتبدو مُستفيضةً في التَّنقيب عن ذاتِ ابنتها، تسترجعُ ذكرياتها ومُتعلّقاتها، لتأخُذَك في رحلةٍ فوق صهوةِ الذِّكرياتِ في شريط استرجاعيٍّ، واقعيٍّ وحقيقيٍّ، إلى أمكنةٍ ومُشاهداتٍ ومشهديَّةٍ علِقت في الذَّاكرةِ الفرديَّةِ أو الجمعيَّةِ، ومُخاطبةً ابنتها ربيكَّا، ضمن حوارٍ واسع وشامل يستعيدُ مفاصل أساسيَّة في حياة الابنة، على طول مسارِ الأحداثِ القصصيَّة.

بناءً عليه، فإنَّنا نجد القاصَّة جاين هونغ، قد استقدمت الكثير من المشهديَّات الاسترجاعيَّةِ كنظامٍ سينمائِيٍّ أو حتَّى سيميائيِّ ذي أبعادٍ دلاليَّةٍ، غير ترميزيَّةٍ، بكُلِ جلاءٍ ووضوح، فلا معاني مستعصية على القارئ أو الباحث، ولا التباس في الانتقال من مقطع مشهديّ أوَّليّ إلى مقطعٍ مشهديّ ثانٍ وما يليه تِباعًا، ليكون عنوان القصَّة بيروت أجمل على الدَّرَّاجة، عتبة رئيسة في الدُّخول إلى عالم جاين النَّفسيّ الشُّعوريّ، بخصوصيَّاتِهِ الدَّلاليَّةِ، وتصوُّراتهِ وتأويلاتِهِ النَّفسيَّةِ والأخلاقيّةِ والاجتماعيِّةِ والفنِّيَّةِ، ضمن رؤى مُتجدِّدة، للعودةِ إلى عميقِ ذاتيَّتها – الأمومة، مُحوِّلةً مأساتها – الفجيعة إلى خطابٍ مُباشر بين أمٍّ وابنتها في بحثٍ عن احتضانٍ تائه، عن أُغنية جزِلة، عن افتخار بإنجاز، في أُسرة تعتريها جُملةً من المشاعر المُتباينة وتلك المتناقضة في البحث عن “الوهم”، ولربَّما في السَّعي نحو استعادة السَّعادةِ والحبورِ في حضور الابنة الغائبة جسديًّا والمُجسَّدة بديمومتها الفاعلة في جميع اهتماماتها وأعمالها وصور قد التقطتها في بيروت، من خلال التَّمتُّع بالذِّكريات، فيكون مرتعها طفولة جاين وشبابها، بعدما سوَّرت المأساةُ حياةً أسريَّةً – تُمثّلها الأمُّ في القصَّة، فجيعةً ومرضًا وألمًا وقهرًا ومرارةً وابتلاءً، بكلِّ ما تحويهِ الحياة من تجارب وفاعليَّة العيش مع التَّناقضاتِ الحياتيَّةِ.

يتّضحُ من خلالِ هذه السَّرديَّة “قصَّة جاين – أُمِّ ربيكَّا” المملوءة بالعطف العقلانيّ والمُستتِر وحتَّى الضَّامر في جوف أحداقها، والحافلة بالوجدانيَّاتِ والدَّلالاتِ على هذا الحبِّ الأموميِّ، الخامد والرَّاسخ سويًّا، في التَّجربةِ الإنسانيَّةِ، الَّتي تتلازم مع قصَّةِ الجُرح “الصَّامت” لدى كُلِّ أُسرة أو كلِّ فرد، خسرت حبيبًا أو عزيزًا أو صديقًا.

وعليه، يقعُ القارِئ في “قصَّة جاين، بيروت أجمل على الدَّرَّاجة على تفاصيل جمَّة، مغروسة في ذاتِهِ هو، في تجربتِهِ، متناثرةً في روحِهِ، من رحلة على درَّاجة العُمر في البحث عن هذهِ الشَّظايا والمشاعِرِ الرَّمادِيَّةِ الغائرة، ولا سيَّما في سفر البحث عن “السَّعادة المفقودة”، أو هي في “التَّغنّي بالحضور الإنسانيّ – الغائب”، أو في مواجهة “الأقدار” – “مأساة الحياة”؛ إذ ترتحلُ في هذه السَّردِيَّة بموضوعاتِها الثَّلاثة، مُشكِّلةً، في ما تُشكِّلُهُ من موجات، تغيُّب حضور شغف ربيكَّا الإنسانيِّ والتَّعاضد مع المُعذَّبين والمقهورين في أرجاء المعمورة، أو تلك الموضوعات الَّتي كانت تؤرِّقُها وتُحفِّزها، أو تيك المواسم المؤلمة الَّتي ألمَّت بأُسرتِها، وصولًا إلى حدِّ الفجيعة الكبرى ومأساة خسارة ابنة غضَّة، طريفةً، شُجاعةِ، خطفًا، وإجبارًا فاعتداء بالقتل.

ههُنا، تستهدف قصَّة بيروت أجمل على الدَّرَّاجة قيم تحقُّق العدالة، لتعود بيروت مرصدًا لحقوقِ الإنسانِ زمانيًّا ومكانيًّا، مدينة تشعُّ حماسةً وعيشًا وتنويرًا في خدمة الإنسانيَّة.

الدُّكتورة الأميرة منى رسلان أستاذة النَّقد الأدبيّ المُعاصر والمنهجيَّة  في كلِّيَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة في الجامعة اللُّبنانيّة. عضوة ميسِّرة في مشروع حفظ التُّراث الثَّقافيّ غير المادِّي في UNESCO. حائزة شهادة الدّكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها عن أطروحة “تشكّلات الأنا والبطولة في الرِّواية اللّبنانيّة”، والماجستير عن “التَّجربة الشِّعريّة عند جبرا إبراهيم جبرا”، ولها العديد من القراءات النقدية والمقالات والأبحاث المنشورة، والنَّدوات الثَّقافيَّة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات