المَمَالِيكُ ظاهرة الشَّرْقِ الفريدة

10:56 صباحًا الجمعة 24 فبراير 2023
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

كتب المؤرخ الشَّرْكَسي والرِّوائي الأستاذ (برزج سَمْكُوغ) صاحب كتاب (الشّركس في فجر التّاريخ)، والثلاثية الروائية (ضياع الاغتراب):  

(المَمَالِيكُ ظاهرة الشَّرْقِ الفريدة)

هي ظاهرة اجتماعيَّة وعسكريَّة وسياسيَّة وحضاريَّة فريدة، كان لها أسبابها العميقة، بدأت بالظُّهور في المشرق العَرَبِيّ منذ أواخر الدَّوْلَة العَبَّاسيّة، وتوضحت في منتصف القرن الثَّانِي عشر، واستمرت قرابة ثلاثة قرون؛ فكانت حالًا غير مسبوقة في التَّاريخ.

تعرض المشرق العَرَبِيّ لخطرين عظيمين هما: خطر حملات الفرنجة الاستيطانية التي احتلت بيت المقدس، واستقرت على سواحل بلاد (الشَّام) منذ القرن الثَّانِي عشر الميلادي؛ وخطر اجتياح المَغُوُل والتَّتَار الذي أرهبَ العالم بأسره، ونجم عنه احتلال هولاكو لبغداد، وقضاؤه على الخلافة العَبَّاسيّة فيها، ثم استمرار غزواتهم لبلاد (الشَّام) طوال القرنين الثالث عشر والرَّابع عشر.

هذه الاجتياحات التي شملت كل بقاع العالم المعروف آنذاك في أوراسيا، كانت قد بدأت بظهور جنكيز خان الذي احتلَّ أواسط آسيا وجزءًا من الصِّين، وبلاد إيران، والقَفْقَاس وجنوب روسيا، ثم قسَّمَ البلاد التي فتحها بين أولاده قبل وفاته العام 1227 م/ 624 هجرية.

إنَّ ما يهمنا هو شمال القَفْقَاس (بلاد الشَّرْكَس)، التي دخلت في حصة جوجي ابن جنكيز خان، والتي شملت كل مناطق السُّهوب جنوب روسيا أمام شمال القَفْقَاس.

وقد دعيت بالقبيلة الذَّهبية أو دولة (التن أوردو) وعاصمتها (ساراي) عام 1230م، ومن بعده تولى ابنه بركا الذي دخل الإِسْلام،  وصار يتعاون مع دولة المَمَالِيك في مصر، من منطلق إسلامي، ضد عدوهما المشترك المَغُوُل من أبناء عمومته (أولاد تولوي: منكو ثم هولاكو وابنه أباقا)، وهم حُكَّام إيران، وكان يريد الانتقام منهم لمقتل الخليفة العَبَّاسيّ على يدي هولاكو.

كانت الحروب والاجتياحات من قبل هذه الأقوام الرُّحَّل قد دمرت الكثير من دول العالم وحواضره، واتَّسَمت بالقسوة والعنف والهمجيَّة. ولم ينجُ القَفْقَاس من شرورها؛ فقد كثرت عصاباتهم، وخاصة في شمال القَفْقَاس، وعملت على مداهمة المُدُن والقرى للسَّلب والنَّهب، وكان منها الحصول على أَسْرى من السُّكان وخاصة الأطفال لبيعهم في أسواق النّخاسة.

إنَّ أول ذكر لهؤلاء المَمَالِيك يعود إلى أواخر الدَّوْلَة العَبَّاسيّة، وكانوا من عنصري التّرك والترّكمان استعانت بهم الدَّوْلَة للقضاء على طبقة العبيد التي كثرت في بغداد واستفحل أمرُها وكثر نفوذها.

كما عملت الدُّول العسكريَّة التي قامت في المشرق العَرَبِيّ نتيجة وردًّا على الأخطار المحدقة، على الإكثار منهم والاعتماد عليهم، لحاجتها الماسة إلى جنود محترفين يمتهنون القتال، وليتمكنوا من صَدِّ تلك الأخطار التي كانت تهدد البلاد. وقد عمل سلاطين الأيوبيين من بعدهم على الإكثار منهم في جيوشهم.

بالنَّسبة إلى العنصر الشَّرْكَسي؛ فإنَّ أول ذكر لهم يأتينا منذ زمن صلاح الدين الأيوبي الذي استعان بهم في جيوشه، لأن الأيوبيين قبائل كرديَّة كانت مقيمة في (دوين) قرب تفليس في القَفْقَاس الجنوبي، وعلى معرفة تامة بالقَفْقَاسيين، ومقدرتهم القتالية؛ لذلك كان قائدا الفرقتين الصَّلاحيتين في معركة حطين من الشَّرْكَس، وهما: (فخر الدين أباظة، وإياز خوج).

وفي زمن قلاوون وأولاده، استكثروا من الشَّراكِسَة، وكان يرسل الرُّسُل لاسْتِقْدامهم، وبلغ تعدادُهم في زمن ابنه الخليل 3700 رجلًا، مما مهّد لاستمرار قدومهم في الأزمنة اللاحقة حتى تسلمهم السُّلطة زمن السُّلْطَان برقوق، وبدء قيام دولة سلاطين الشَّرْكَس البُرْجِيين عام 784 هجرية 1382 ميلادية.

من المَمَالِيك؟  

كان اسْتِقْدام المَمَالِيك إلى المنطقة، سواء بافتدائهم كأسرى حروب، أو اسْتِقْدامهم بشكل طبيعي من شعوب مسلمة عُرِفَت بشجاعتها وفروسيتها وميلها إلى القتال، ناجمًا عن الحاجة الماسَّةِ إليهم، لاستخدامهم كجنودٍ محترفين ومدرّبين، لمواجهة الأخطار العظيمة التي كان قلب العالم الإِسْلامي يواجهها.

ولم يُعْرَف عن هؤلاء الرِّجَال أنهم عملوا خدمًا في المنازل أو عبيدًا في الأرض والزِّراعة أو في أي أعمال إنتاجيَّة أخرى، فقد وكان قدومهم من بلاد فائقة الغنى والثروة والجمال؛ لذلك فهم لم يكونوا مُرْتَزَقَة قادمين من بلاد فقيرة بدافع الحاجة والعوز؛ بل كانوا من الأحرار وهم أولاد أسر حرة غير مُستعبَدة لم تعرف الرِّقَّ.

 وحدث أن دُمِّرَتْ قراهم وقُتِل أهلُهم، فاختُطِفوا وهم أطفال في تلك الحروب والاجتياحات من قبل أقوام رعويَّة بربريَّة همجيَّة، فمسَّهُم الرِّقُّ رغمًا عنهم فترة من الزمن عندما صاروا أسرى حروب. وما يُدفَع في الأسير من أثمانٍ، لا يكون بقصد الاسْتِعْبَاد، بل هو افتداء له وفكاك لأسْرِهِ، وخاصة إذا كان من يفتديهم يمتُّ بِصِلَة القُربى والجنس لهم.

وهذا ما نلحظه عند سلاطين الشَّراكِسَة والبُرْجِيين الذين كانوا يُرسلون الوفود للبحث عن بني جِلْدتِهم من الشَّرْكَس لفكاكهم وتخليصهم من الأَسْر، وجلبهم إلى مصر للاستقواء بهم والإكثار منهم ولو دفعوا في هذا العمل أثمانًا باهظة.

ولم يكونوا يستخدمونهم، بل كانوا يدخلونهم الطّباق، أرقى مدارس في عصرهم، بغيةَ تأهيلهم للمهام الجسام التي تنتظرهم والمناصب الرَّفيعة في الجيش والدَّوْلَة.

إذن، فقد شكّل الشَّراكِسَة البُرْجِيون فئة من المجتمع، تخصَّصَت في امتهان الفروسية والقتال، للدفاع عن الدين والدَّوْلَة، فكان من الطَّبيعي أن يصبح هؤلاء الرِّجَال الطَّبَقَة الحاكمة لامتلاكهم مصادر القوة والمعرفة والتأهيل الكافي في دول ذات طابع عسكري، بدءًا من قمة الهرم السياسي الذي هو السُّلْطَان وحتى أصغر فارس.

كان هؤلاء يعدّون ويهيئون ثقافيًّا وعسكريًّا لمهامهم الحربيَّة والقياديَّة، فيُصْقَلون منذ نعومة أظفارهم، ويُعَلَّمون اللُّغة العَرَبِيّة، وعلوم الدين الإِسْلامي، ومختلف العلوم الأخرى في عصرهم؛ إضافة إلى التَّدرب على استعمال مختلف أنواع الأسلحة وأساليب القتال والفروسية، ثم يُعْتَقُون عند تخرّجِهِم كجنود وفُرْسَان محاربين من طراز رفيع.

 أي إِنهم لم يُؤْتَ بهم ويفك أسرُهم بقصد الخدمة في القصور أو الاسْتِعْبَاد في الأعمال الزِّراعية والإنتاجية الأخرى، كما هي حال الرَّقيق في ذلك العصر؛ فهم والحال هذه ظاهرة فريدة من نوعها، خلقتها الظُّروف السِّيَاسية والمخاطر التي كانت تمر بها المنطقة.

المقاومة والتَّحرير

لذلك، نفى كثيرٌ من  مؤرِّخي العرب والمسلمين الذين عاصروهم عنهم صفة العبوديَّة التي ألصقَها بهم مؤرخو الغرب، مفسّرين كلمة مَمْلوك العَرَبِيّة بالعبد في اللغات الأوربية (ESCLAVES)  انتقامًا وتشفّيًّا.

 لقد استكثر مؤرخو الغَرْب على العالم الإِسْلامي أن يعد جيشًا مدربًا على القتال، قادرًا على قهر الغزاة؛ لأن هؤلاء المَمَالِيك الرِّجَال هم الذين أنهوا وجودَ الفرنجة من بلاد (الشَّام).

ونحن نعتقد أن كلمة “مملوك” العَرَبِيّة هي أقرب إلى الصَّواب، وأن كلمة عَبْد الأجنبيَّة خطأ مقصود وقع فيه المؤرخون الغربيُّون وروَّجَهُ مَن نقل عنهم، لأنها لا تنطبق على وضعهم الاجتماعي، فقد كانوا تابعين وموالين أكثر من كونهم مماليك أو عبيدًا لمن افْتَكَّ أسرهم وجاء بهم إلى مصر، أكان ذلك هو السُّلْطَان أو الأمراء أو الدَّوْلَة، وإعتاقهم ونيلهم حريتهم بعد تخرجهم من المدرسة كان أمرًا مفروغًا منه، وكانوا يحافظون على ولائهم وعلى وفائهم للشَّخص الذي افتَكَّ أَسْرَهم، ويتسّمون باسمه، لذلك فإن حقيقة وضعهم الاجتماعي كان التبعية والموالاة والتعصّب لطبقتهم المتميّزة في المجتمع، وأن كلمة مملوك- أو عبد- التي استخدمها المؤرخون لا تنطبق على واقعهم الاجتماعيِّ الحقيقيِّ.

وننهي الفقرة بذكر وصف أبي حامد المقدسي عن كيفية قدوم بعض الشَّراكِسَة البُرْجِيين في كتابه (دول الإِسْلام الشَّريفة):

“مولانا السُّلْطَان يسمع بأن فلانًا وصل من جَرْكَس، فيرسل نائبه إلى حلب لملاقاته، بفرس بسرج من ذهب وكنبوش وكاملية طرش، ويقف النَّائب في خدمته وكذا كل مَنْ مَرَّ عليه؛ بل ومِن حين وصوله يعمل خاصكيًّا، فما يرى نفسه إلا ملكا لا مملوكًا”.

وقد عاش الشَّراكِسَة البُرْجِيون منعزلين كطبقة فُرْسَان، لهم عاداتهم وتقاليدهم التي قد تختلف بشكل أو بآخر عن تقاليد وعادات أهل البلاد، وهو السِّرُّ في استمرارهم لفترة طويلة. وقد أنجز هؤلاء الرِّجَال, الذين سُموا بالمَمَالِيك، وسمَّاهم مؤرِّخُو الغرب عبيدًا (Esclaves) المهمة النَّبيلة والعظيمة والشَّاَّقة التي اسْتُقْدِموا من أجلِها، فقهروا المَغُوُل والتَّتَار، وقاموا بتصفية ممالِكِ الفرنجة، وأخرجوهم من بلاد المسلمين.

برزج أمين سمكوغ:  مجلة العَرَبِيّ الكويتية العدد 530 عام 2003م.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات