[إلى روحِ أستاذِنا المفكرِ (وجيه فانوس:1948-2022)1]: بقلم: د. إيمان بقاعي
لم أَرَ من قبلُ “مُعَلِّمًا” نال محبةَ كلِّ طلابِهِ ومريديه، وثقةَ كلِّ طُلَّابِه ومريديه، فكانَ ذا أُثْرَةٍ عندَهم، مثلما نالَ أستاذُنا الدُّكتور (وجيه فانوس)، الذي يُجمِعُ طلابُه على أنَّ اسْمَهُ يُحفَرُ بماء الذَّهَبِ “عَ الحَوْرْ العتيقْ”.
ولم أرَ مهتمًّا بطلَّابِه من خلال تأمُّل عيونِهم، قُبَيْلَ المحاضرة أو أثناءَها أو بعدها، في محاولةٍ منه لمسحِ ألمٍ جسديٍّ أو نفسيٍّ أو اجتماعيٍّ كما اهتمامه.
لطالما كان هذا الرَّجلُ نصيرَ الطُّلابِ، يلجأون إليه واثقينَ بأنه لن يتهرَّبَ، أو يعتذرَ، أو يتراجعَ إِنْ وعدَ، فكأنه قلبُ أُمٍّ لا تولي اهتمامًا لابنٍ دونَ آخر ، إلا إنْ كان هذا الابنُ مريضًا حتى يشفى، أو ضعيفًا حتى يقوى، أو مكْسورًا حتى يُجبَرَ كسرُه.
إنِ استُنصِرَ، كان صَمُوتًا، مُصْغِيًا، حليمًا، هادئًا، يقلِّبُ قضيةَ المُسْتَنصِرِ به بتُؤَدَةٍ وتَرَوٍّ ورزانَةٍ وبذكاءٍ نادرٍ، ناظرًا إليها من كل الزَّوايا، وواجدًا لها حلًّا منطقيًّا، متزنًا، رفيقًا، آخذًا بعين الاعتبارِ كل التَّفاصيل التي تميِّز قضية عن أخرى، فلا حلَّ يشبه غيره، إلا من خلالِ إيلاءِ الاهتمامِ.
وكلُّ تلامذتِه أولادُه، اما أولادُهم، فيعرّفهم بالقول: “فلان حفيدي أكاديميًّا”، وعلى هذا الأساسِ يتعامل معَهُم جميعًا، فبينه وبين “الأُبُوَّة” رابطٌ يربطُهُ بتلاميذه كما تربطُ الأُبوَّةُ الأبَ بذُرِّيَّتِه، فهو عنهم مسؤولٌ يُتَّكَلُ عليه.
أمَّا مَن كان مِن تلامذته طَموحًا، فلا يترك يدَهُ إلا حين يطمئنُّ إلى وصولِهِ إلى حيث يجب أن يصلَ.
فإنْ لم يعرفِ التَّائِهُ الطَّريقَ، استدعاه، ورسمَهُ له، وذكَّرَهُ بأنه سوف يضعُ حول عنقِهِ وسامًا إن وَصَلَ.
ومَنْ قال إنَّهُ لا يمدُّ له يد المساعدةِ إن وَصَلَ؟
أَيَكُفّ الراعي المسؤولُ، فعلًا لا قولًا، عن متابعةِ رعيته؟
ومِن رعايةِ هذا الذي نصَّبَ نفسَه، بالمحبةِ راعيًا، أن يهتمَّ بطلابِهِ أُسَرِيًّا، فيهتمّ بدقائقِ تفاصيلِ بيوتِهمْ إنْ طرحوها، وخاصة بمَن يحتاجُ إلى اهتمامٍ خاصٍّ، كالأطفالِ أو كبارِ السِّنِّ والمرضى، فيربتُ كتفَ طلابِهِ أنِ: اهتمَّ يا هذا بشؤونِ صغارِكَ أو مرضاكَ أو عجائزِك، فهُمْ- كما كان يردد- “فرحةُ البيتِ“!
أما إنِ اكتشفَ من طلابِهِ موهوبًا، فيهديه- كلَّما رآهُ- كلمةَ تقديرٍ تذكِّرُه أنه لم ينسَ أنه مبدعٌ، ولن ينسى؛ فلا غرابةَ إن أهداكَ ريشةً إن كنتَ رسَّامًا، وقَلَمًا إن كنْتَ شاعرًا أو قاصًّا، و”آخرَ أغنيةٍ لفيروز أو زياد ابنِها” إنْ كنْتَ عازفًا أو صاحبَ صوْتٍ جميلٍ، وثناءً يصلُكَ عن طريقٍ مباشَرٍ، أو عن طريقِ الآخرينَ الذين يتحدثُ عنْ مواهبِكَ معهم.
وستكونُ في قمَّةِ سعادتِكَ إنِ اصطفَاَك، فأرسلَ لكَ قُبَيْلَ نشر دراساتِهِ الحافلةِ بالأدبِ والعلْمِ والفنِّ والسِّياسةِ، النَّابضة بشعورٍ وطنيٍّ أَلِقٍ واسِعٍ حينًا، ممتدٍّ إلى أنحاء الوطنِ، ومكثَّفٍ آخَر حتى تظنَّ أنه هو بيروتَ، وبيروتَ هو، فلا يمكن أن تذكرَها من دونِ أن تذكرَهُ، والعكس صحيحٌ.
وأخيرًا، لن تذكُرَ هذا الاسْمَ العريقَ الجليلَ في عالَمِ الأدب والسّياسةِ، من غيرِ أن تتذكرَ أنه رجلٌ لمّاحٌ، فَكِهٌ، يرتجلُ نكتةً مِنْ هنا، وتعليقًا ساخرًا مِنْ هناك، ويضعُها على طاولتِكَ إنْ كنْتَ قلقًا أو حزينًا، فتنسى سببَ حُزْنِكَ، وتحسُّ أنَّ من المعيبِ أن تتعثرَ بمشاكلِ الحياةِ وتكْبُوَ ولديكَ ممَّا يضحكُكَ الكثيرَ، وما عليكَ إِلا أَنْ تفتِّشَ عنه في تلافيفِ دماغِكَ وثنايا روحِكَ، فالحياةُ أقصَرُ من أنْ نفسدَهَا بالهَمِّ والغَمِّ والكآبَةِ.
نعم، لطالَما حفَّزَ معلِّمُنا أحلامَ طلاَّبِهِ المستقبليَّةَ، فوصلُوا إلى الضّوءِ المنبعثِ من هِدايتِهِ، المنيرِ فعلًا لا قولًا، دروبهم، وما زالَ وسيظلُّ، حتى يخيلُ لي أنَّنا، إن لم نكنْ مثلَهُ في تمجيدِ معلِّمينا، على غرارِ تمجيدِه معَلِّمِه الشّاعر (خليل حاوي) السّاكِنِ فيه، غيرَ منتظرٍ منه حمْدًا ولا شُكْرًا؛ لأنَّ للشُّكْر عنده فلسفةٌ يرددُها عن أمِّهِ: “لا شُكْرَ على الحُبِّ!”؛ لذا، فإنه تاركٌ في الكونِ عطرَ فكرِهِ وإنسانيَّتِهِ وتعاليمِهِ السَّمْحَة.
طُوبى لمَنْ كَسَرَ نمطيَّةَ شخصيَّةِ المعلِّمِ الحياديَّةِ، وصنميَّةَ العَنْجَهِيَّة، فكانَ عَلَمًا مُتَفَرِّدًا، وقدوةً حَسَنَةً عُلْيا يُفَخَر أن تُجارى.
للدّكتور (وجيه فانوس) عدة كتاباتٍ ودراساتٍ وأبحاثٍ، ومؤلَّفَات باللُّغتين العربيَّة والإنكليزيَّة، منها:
1992: Adventures In Literary Criticism
لبنان: 11\3\2023
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.