حَانَ وقْتُ الحِكايَةِ | الحكايةُ 12 | مَن ينظرُ شَزَرًا؟

12:12 مساءً الإثنين 3 أبريل 2023
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

د. إيمان بقاعي |حانَ وقتُ الحكايةِ

(ثلاثون حوارية منقَّحة ومزيدة أبطالُها: حفيدٌ وجدّتُه وجدُّه)

[إهداء: إلى كل من لم يتسنَّ له سماعها مُمَثَّلةً عبر أثير إذاعة القرآن الكريم- دار الفتوى في بيروت – 2019]

                                 (أ)          

الجدّة: أوَ تعتقدُ يا سمسومةَ قلبِي أنَّ جدَّ جدِّكِ اللّغويَّ كانت مهمَّتُه تقتصرُ على تصحيحِ الأخطاءِ اللّغويةِ؟

سامي: أعتقدُ: لا!

الجدّ: لمَ؟

سامي: لأن جدَّكَ لغويٌّ.

الجدّة (بسرعة): أرأيتَ الجوابَ الذكيَّ يا جدو عزيز؟ سامي يعرفُ أنَّ اللّغويَّ عالمٌ في اللُّغةِ، أي: يعرفُ كلَّ كلمةٍ: أصلَها ومشتقاتِها ومعانيها ومترادفاتِها وأضدادَها، ويعرفُ ارتباطَها بالحياةِ؛ أليسَ كذلكَ يا حبيبي يا سامي؟

سامي (مترددًا): يعني، كذلكَ يا تيتا مُهيبة، مع أنني لم أعرفِ الكثيرَ مما ذكرتِ، لكنني توقعتُ أنَّ اللّغويَّ يُفترَضُ أن يعرفَ معاني كلِّ ما يقالُ، خاصةً وأنه قد جمعَ مُعجَمًا.

الجدّة: صحيحٌ يا حبيبي.كلُّ ما في الأمرِ أنني شرحْتُ ما قلْتَ بالتّفصيلِ، فمثلًا: إذا ذكرتَ أمامَ جدِّ جدِّكَ كلمةَ (ريجيم)، فلا تعتقدَنَّ أنَّ الجدّ الأكبرَ سيصوِّبُ لكَ الكلمةَ فقطْ…

الجدّ: لا تعتقدَنَّ ذلكَ!

الجدّة: بل سيصوِّبُ الكلمةَ ويصوِّبُ معها نظامَ أكلِكَ أيضًا.

الجدّ (موافقًا): نعم، وألفُ نعم!

سامي (بريبة): آه! يبدو أنَّ قصةً بعينِها جرتْ معكَ يا جدي لها علاقةٌ بـ(الرّيجيم)، تعرفُها جدتي كما تعرفُ الشَّقَفَةَ واللّبَنَةَ و(كسَّارَ الزَّبادي).

الجدّة (تخاطب سامي): سليمٌ كلامُكَ! (تتوجه بالحديث إلى زوجها): أخبرْ حفيدَكَ قصةَ (ريجيمِكَ).

الجدّ (مستنكرًا): ريجيمي؟

الجدّة: لن أحرقَ الحكايةَ..

 الجدّ (يضحك ممازحًا): لم تحرقيها!

الجدّة (بحرد): ماذا تقصدُ؟

الجدّ: لا أقصدُ إلا ما قلْتُ، فلو كانَ لسامي جدةٌ غيركِ، لأحرَقَتِ الحكايةَ، ضاربةً بعقدةِ القصةِ عرضَ الحائطِ.

الجدّة (بفخر): تصورْ أن أضربَها بعرضِ الحائطِ!

سامي: أخبرني عن (ريجيمِكَ) يا جدو عزيز. 

(ب)

الجدّ: في الحقيقةِ يا سامي، أنا مثلُ معظمِ الأطفالِ، في كلِّ العصورِ، كنتُ أعاني مشكلةَ امتلاءِ جسدي باللَّحمِ والشَّحمِ، بسببِ ما أتناولُهُ من طعامٍ لذيذٍ، خاصة ما تعدُّهُ الجدّاتُ لأحفادِهِنَّ…

الجدّة (تتدخل حانقة): أنا؟

الجدّ: ما عداكِ، فأنتِ لا تطبخينَ إلا الطَّعامَ الصّحيَّ لئلا تفسدي الحِمْ…(تقطَعُ كلمة الحِمْيَة)…

تقاطعه الجدّة بسرعة: (الرّيجيم)… واللهِ لا أعرفُ مَن يضربُ بعقدةِ الحكايةِ عرضَ الحائطِ… ادخلْ في الحكايةِ ادخلْ!

الجدّ: حسنًا! على الغداءِ، لاحظَ جدي أنني  أستبعدُ الخبزَ، بينما أقرّبُ صحنَ البطاطا المقليةِ والدّجاجِ المشوي بالزّبدةِ و”المَرقَاتِ” الدَّسمةَ، وأخبئ الحلوياتِ المليئةَ بالقطرِ والزّبدةِ لما بعدَ الشَّبعِ، فبرمَ شفتيْهِ وسألَني: عن السّببِ، فقلتُ له بفخرٍ: إنني أتْبَعُ ريجيمًا.

الجدّة: تصورْ يا سامي أن يقولَ لجدِّهِ اللّغويِّ إنهُ يَتْبَعُ (ريجيمًا).

سامي: في الحقيقةِ، أنا لا أعرفُ لماذا قد يزعجُ (الرّيجيمُ) الجدّ الأكبرَ!

الجدّ: وأنا أيضًا لم أعرفْ وقتَها، ولكنَّ جدتي مريم- رحمَها اللهُ- سارعَتْ إلى الدِّفاعِ عني، تمامًا كما تفعلُ جدتُكَ وكلُّ الجدّاتِ، وسألَتْهُ بغضبٍ:  لماذا تنظرُ شذَرًا إلى الصَّبيِّ؟ فغضبَ جدّي أكثرَ يا سامي، وكادَ يغادرُ المائدةَ، لوجودِ أربعةِ أخطاءٍ كما قالَ.

سامي: لوجودِ أربعةِ أخطاءٍ لغويةٍ؟

الجدّة: بل لوجودِ اثنينِ لغويينِ؛ فلا (الرِّيجيمُ) صحيحٌ، ولا جملةُ (ينظرُ شذَرًا) صحيحةٌ.

سامي: لم أفهمْ!

الجدّ: اسمعْ ما قالَهُ جدي حرفيًّا: قُلْ: أَتْبَعُ (حِميَةً) لا ريجيمًا، لأنَّ (الحِمْيَةَ) كلمةٌ عربيةٌ مُعجميَّةٌ تعرفُها الخاصَّةُ والعامَّةُ، ويعرفُها الكبارُ والصِّغارُ. أما (الرّيجيمُ)، فكلمةٌ فرنسيةٌ  مأخوذةٌ من اللاتينيَّةِ، ونحنُ في غِنى عنها ما دامَ في الضَّادِ كلمةٌ مألوفةٌ كالحِمْيَةِ.

سامي: لم أكن أعرفُ أن (الرّيجيمَ) اسمُه (حِمْيَةٌ)!

الجدّة: أما الخطأُ الثَّاني، فاختصرَهُ الجدّ الأكبرُ…

الجدّ (يتابعُ):  اختصرَهُ جدي حينَ نظرَ إلى جدتي مريم، قائلًا: لم أنظرْ إلى حفيدي (شَذَرًا)، بل ها أنذا أنظرُ إليكِ (شزَرًا)؛ لأنك قلتِ (شَذَرًا). وشزرًا- يا سامي- كلمةٌ تعني النَّظرَ بمؤخَّرِ العينِ علامةً على الغضبِ والإعراضِ.

سامي (يشهق): يا إلهي!

الجدّة (تضحكُ): نعم!

سامي: والخطأُ الثَّالث يا جدي؟

الجدّ: الخطأُ الثَّالث في استبعادِ الخبزِ، والخبزُ مهمٌّ جدًّا للنّموِّ لأنه يندرجُ تحت حاجةِ الإنسانِ إلى النّشوياتِ التي لا غنى عنها.

سامي: والخطأُ الرّابعُ؟

الجدّ: الرَّابعُ هو استبدالُ الخبزِ بالدُّهونِ؛ كالبطاطا المقليةِ والمَرَقَةِ الدّسمةِ، والسّكرِ؛ كالحلوى، وهما باعتقادِهِ سببُ السّمنةِ.

سامي: فهمتُ!

الجدّة: عرفتَ سببَ تهديدِ الجدّ الأكبرِ بمغادرةِ المائدة؟

سامي (ضاحكًا): عرفتُ.

الجدّ: وإذا عُرِفَ السَّببُ بطلَ العَجَبُ.

الجدّة: إذا عُرفَتِ الأسبابُ…

(ت)

الجدّة: الغريبُ يا سمسومةَ قلبِ جدتِكَ مُهيبة أنَّ تلكَ الزّيارةَ لم تكنِ الأخيرةَ إلى بيتِ جدِّهِ!

الجدّ (بدهشة): ولماذا تكونُ؟

سامي: صحيح يا جدتي، لماذا تكونُ؟  فجلسةٌ واحدةٌ إلى مائدةِ الغداءِ صوَّبَتْ كلمةً وعبارةً لغويًّا، وصوبَتْ فكرتينِ صحّيتينِ لا يعرفها كثيرٌ ممن يتبعون (ريجي….)، أقصد: (حِمْيَةً). 

الجدّ: أحسنتَ يا سامي!

سامي:  العلمُ في الصِّغَرِ كالنَّقشِ في الحجرِ.

الجدّ يردد متوجهُا إلى زوجته: أسمعتِ يا تيتا مُهيبة؟ العلمُ في الصِّغرِ كالنَّقشِ في الحجرِ.الجدّة: سمعتُ، وتأكدتُ أنَّ مورّثاتِ جدَّتِهِ كلَّها أخَذَها الصَّغيرُ سامي، وأنا فخورةٌ به!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات