حَانَ وقْتُ الحِكايَةِ | الحكايةُ 16| طبَخَ حَجَرًا

03:01 صباحًا الجمعة 7 أبريل 2023
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 د. إيمان بقاعي |ثلاثون حوارية منقَّحة ومزيدة أبطالُها: حفيدٌ وجدّتُه وجدُّه

[إهداء: إلى كل من لم يتسنَّ له سماعها مُمَثَّلةً عبر أثير إذاعة القرآن الكريم- دار الفتوى في بيروت – 2019]

(أ)

سامي: جدو عزيز، هل الطَّبخُ موهبةٌ؟

الجدّ (يسأله): نعم؟

الجدّة: يسألُكَ إذا كانَ الطَّبخُ موهبةً، فلا يُعَوَّلُ كثيرًا على مَن يريدُ أن يتعلمَهُ في المعاهدِ أو المدارسِ أو حتى الجامعاتِ…. (تقولُ بتحدٍّ): أو في الأنترنت مثلًا…

الجدّ (متنهدًا): في الأنترنتْ كوصفاتِ المفتَّقة مثلًا؟

الجدّة (بتحدٍ): نعم!

الجدّ: في الحقيقةِ يا سامي، الطَّبخُ، أولًا، موهبةٌ كأيِّ فنٍّ أو أدبٍ، ولكنْ…

سامي: ولكن؟

الجدّ: كلُّ المواهبِ، إنْ لم تَتعلمْ أصولَها، ظلَّتْ عشوائيّةً.

سامي: وإن تعلمَ الموهوبُ- يا جدي- أصولَ الطَّبخِ؟

الجدّة: ينتِجُ (زَلابِيَة) كزَلابِيَةِ جدِّكَ!

الجدّ (يفكر بدهشة): كزَلابِيتي؟

الجدّة (بتحدٍّ): لمَ لا؟

الجدّ (يفتخر ممازحًا): في الحقيقةِ يا سامي، أنا عندي موهبةُ زَلابِيَة مذ كنتُ صغيرًا. ثم طورْتُ نفسي، إذ درسْتُ من خلالِ كتابٍ قديمٍ لصنعِ الحلوياتِ الشَّرقيةِ طريقةَ صنعِها، وطبقتُها، ثم أضفتُ إليها من إبداعي الخاصِّ…وصرْتُ- كما تعلمُ زوجتي ويعلمُ الجميعُ من الجيرانِ والأقاربِ- وخاصةً بعد أن تقاعدتُ وقعدْتُ في البيتِ….متخصصًا في الزَّلابِيَة، بل ملكَ الزَّلابِيَةِ!

سامي (يضحك وهو يعلمُ أن جده يمزح): نعم يا جدي.

الجدّة (بقهر): يعطيكَ العافيةْ!

الجدّ (يخاطبها): الله يعافيكِ! (يتابع متحدثًا مع حفيدِه  ممازحًا): ولم أكتفِ- يا حفيدي الذي أتمنى أن يتعلمَ أصولَ هذه الصَّنعةِ يومًا لئلا تندثرَ بموتي- بإضافةِ مكوناتٍ جديدةٍ لها، بل صرْتُ أُصرُّ على معرفةِ مصدرِ الطَّحينِ والسّكرِ.

الجدّة (باهتمام مفاجئ): من أينَ تحصلُ مثلًا على الطّحينِ والسُّكرِ؟

الجدّ: من تحتِ المجلى على يمينِ رفِّ الطّناجرِ.

سامي (يقهقه): جدو عزيز!

الجدّة (تضحك): خفةُ دمِّ جدِّكَ عزيز وحدَها هي التي تغفرُ لهُ!

الجدّ (بلهجة جادة): الحمدُ لله!

الجدّ: أما إن أردتَ- يا سامي- الحقيقةَ بدونِ  مزاحٍ، فالطّبخُ موهبةٌ يجبُ فعلًا تنميتُها بدراسةِ قواعدِها إنْ أرادَ الموهوبُ أن يكونَ متخصصًا في فنِّ التغذيةِ، فيأكلُ- في هذه الحالةِ- من موهبتِهِ وعلمِهِ معًا.

سامي: أما لو لم يُرِدْ أنْ يكونَ الطَّبخُ مهنةً؟

الجدّة (بقهر): بل هوايةً يمارسُها المرءُ بعد أن يتقاعدَ…

الجدّ: يعني مثلي…

سامي: عندَها؟

الجدّ: تكونُ الزَّلابِيَة مَرةً هشَّةً ومَرةً قاسيةً، مرةً بقَطْرٍ سميكٍ، ومرةً قطرُها كالماءِ السَّلسبيلِ بلا سُكَّرٍ!

الجدّة: وفي كلِّ المراتِ، يكونُ الفرنُ والجدّارُ خلفَهُ كلاهما مغطّسيْن بالزّيتِ والقطرِ!

سامي (يضحك)، والجدّ يكمل: على أنَّكَ يا سامي، قد تضطَّرُ إلى أنْ تطبخَ، ووقتَها، ستطبخُ بموهبةٍ أو بغيرِ موهبةٍ، بعلْمٍ أو بغيرِ علْمٍ، فتجدُ نفسَكَ وقد صنعْتَ مثلًا: شَوْرَبَةُ حجَرٍ.

سامي وجدته معًا (بدهشة): شَوْرَبَةُ حجَرٍ؟

الجدّ: اسمعا هذه الحكايةَ الإسبانية إذن!

(ب)

الجدّ:كادَ رجلٌ فقيرٌ يقعُ أرضًا لشدةِ جوعِهِ وهو يسيرُ في طريق غابةٍ بعيدةٍ، فوقفَ أمام بابِ دارِ أحدِ الفلَّاحين، وطلبَ مِن أهلها حسنَةً يتقَوَّتُ بها، فلم يتكرَّموا عليه بشيءٍ؛ لذا قالَ لهم:

-هل تذوقتُمْ من قبلُ شَوربَةَ الحجَرِ اللّذيذَةَ؟

وقبلَ أن يقولوا: لا، قال:

-سترونَ بأعينِكُم الشَّوْرَبَةَ  التي سأعملُها من قطعةِ حجَرٍ.

وأمسكَ حجَرًا من الأرضِ،  وتأمّلَهُ ليرى إنْ كان صالحًا لعمل “شَوْرَبَة” منه أم لا، بينما وقفَ أهلُ الدّارِ ضاحكينَ، ودهشينَ معًا.

الجدّة: أكيدْ!

سامي: طبعًا!  

الجدّ: وغسلَ الرّجلُ الحجرَ، ثمَّ طلبَ منهم وعاءً ملأَهُ بالماءِ، ثم وضعَ فيه الحجرَ، ثم وضعَه على جمراتِ النَّارِ المشتعلةِ، ثم قالَ:

_ آه لو مع الحجرِ قطعةُ دهنٍ صغيرةٌ، إذن ستكونُ الشَّوْرَبَةُ  لذيذةً جدًّا!

سامي (ضاحكًا): وأحضروا له قطعةَ الدِّهنِ.

الجدّ: ولما ذابَت في الماءِ المغليّ، تذوقَها، ثم نظرَ  إليهم قائلًا:

-ستكونُ الشَّوْرَبَةُ  ألذَّ لو أضفْنا إليها بعضَ الملحِ.

الجدّة (ضاحكة): وبعد أن تذوقَها بالملحِ، فكَّر قليلًا وقال:

الجدّ: أعتقدُ أنها ستكونُ أطيبَ مع ملفوفةٍ نضرةٍ من حقلِكُم هذا. 

سامي: وبعدَ أن وضعَ الملفوفةَ في الوعاءِ، تذوقَها وفكَّر قليلًا وقال:

-آه.. نسيتُ شيئًا واحدًا: بَهَاراتِ مقانقَ ليصبحَ طعمُها أشهى!

الجدّة وسامي (يستنكران): يريدُ بهاراتِ مقانقَ؟

الجدّ: ولم يكنْ لديهمِ بَهَارات “مقانقَ”، فسألوهُ إذا ما كانتِ المقانقُ تصلحُ بدلًا عن البَهَاراتِ، فوافقَ، وأضافَها إلى الوعاءِ، ثم أخرج مِن الكيسِ الذي يحملُه على ظهرِه نصفَ رغيفِ خبزٍ، وراحَ يأكلُهُ مع الشَّوْربةِ، حتى شبعَ، فحمدَ اللهَ، وأخرجَ الحجَرَ وغسلَهُ  قائلًا لأهل الدَّار:

– اسمحوا لي أن آخذَ معي الحَجرَ كي أصنعَ منه شَوْرَبَةً في المرَّاتِ القادمةِ.

وتركَهم واقفينَ بدهشةٍ، وتابعَ طريقَهم شاكرًا إياهم على “حجَرِ الشَّوْرَبَة”.

(ت)

سامي: جائعٌ وذكيٌّ، ولكنني حزنْتُ عليه! فلو أطعموهُ، ما اضطرَ إلى أن يطبخَ شوْرَبَةَ الحجرِ.

الجدّة (بحزن): فعلًا يا سامي.

الجد: أتساءَلُ لو أحدنا تعرّضَ لما تعرّض له هذا الرّجلُ، هل كان سيفعلُ فعلَهُ؟

سامي: أكنتَ تفعلُ ما فعلَهُ يا جدو عزيز؟

الجد: بلا تردُّدٍ!

سامي: وأنا أفعلُ مثلَه أيضًا.

الجدة: أما أنا،  فربما فعلْتُ مثله حتى وصلْتُ إلى الشّبعِ، ولكن…

سامي والجد (معًا): ولكن؟

الجدة: كنتُ- بدلَ أن أغسلَ الحجرَ وآخذه- أضربُ زجاج بيتِهم ليتذكروا أن مَن يكسرْ قلبَ جائع كمن يكسر زجاجَ الشّباكِ الذي يحمي هذا البيتَ من البردِ والحرِّ وعيونِ الفضوليينَ.

سامي (يصفق): كيف لم يخطرْ ببالي هذا الحلُّ- الجميلُ؟

الجدة: عقابٌ أقلُّ بكثيرٍ مما يستحقونه!

سامي (بحماس): يستحقون تكسير كل الشّبابيكِ والأبوابِ! هيا يا جدتي إلى بيتِهم؟

الجد: خذاني معكم.

سامي: نأخذكَ!

الجد: أنا أعرفُ كل غاباتِ إسبانيا حتى إنني أتفوق في معرفتِها على خرائطِ غوغل.

الجدة: عظيم.

سامي: فلنذهب!

الجد والجدة: فلنذهب!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات