حَانَ وقْتُ الحِكايَةِ | الحكايةُ28 | نصائحُ العصفورِ الشِّعْرِيةُ

08:46 صباحًا الأربعاء 19 أبريل 2023
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

د. إيمان بقاعي   (ثلاثون حوارية منقَّحة ومزيدة أبطالُها: حفيدٌ وجدّتُه وجدُّه)

 [إهداء: إلى كل من لم يتسنَّ له سماعها مُمَثَّلةً عبر أثير إذاعة القرآن الكريم- دار الفتوى في بيروت – 2019]

(أ)

سامي (ينادي): تيتا مهيبة، جدو عزيييييز!

(سامي يطرق البابَ ثلاثَ طرقات).

الجدّة (تنادي من المطبخ): المفتاحُ في القُفلِ،  ونحنُ في المطبخِ، تعالَ.

سامي (صوت فتح الباب بالمفتاح، ثم يدخل إلى المطبخ): السَّلامُ عليكُما!

الجدّ والجدّة معًا: وعليكَ السَّلامُ.

الجدّة (تزيح كرسيًّا): اغسلْ يديكَ وسمِّ باللهِ وافطرْ معَنا.

يزيح الكرسي ويجلس (سامي): غسلْتُ يديَّ قبلَ أن أنزلَ، وبسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ. [يخاطب جدته]: ناوليني شَقَفَةَ خبزٍ لآكلَ اللَّبَنَةَ!

الجدّة (ضاحكة): تفضلْ يا حبيبي!

الجدّ: بما أنني شبعْتُ والحمدُ لله، وبما أنَّك بدأتَ طعامَكَ للتَّوِّ، تذكرْتُ قصةً جميلةً قرأتُها بعنوانِ: (الهرُّ والبلبلُ).

الجدّة (بفرح): يا فتاحْ يا كريمْ! جدُّكَ يا سامي- على ما يبدو- فُتِحَتْ شهيتُهُ على قصِّ الحكاياتِ، صباحَ مساءَ. 

سامي (ضاحكًا): مِن حُسْنِ حظِّنا يا تيتا مهيبة، من حُسْنِ حظِّنا.

الجدّ (يمازح زوجتَهُ): ليعلِنْ كلُّ واحدٍ منكما إنْ كانَ الأمرُ من حُسْنِ حظِّهِ أو من سوئهِ.

سامي (يتحدث إلى جدته): أنا أعلنْتُ باسمي وباسمِ جدتي، إلا إذا كانَتْ لا تثقُ بما أُدلي بهِ.

الجدّة (مستنكرة): أنا؟ أعوذُ باللهِ! أنا أوافقُ على كلِّ حرفٍ تُدلي بهِ يا سمسومةَ قلبي على لساني، أكنتُ موجودةً أم لم أكنْ، أعرفْتُ ما هو أو لم أعرفْ.

سامي (بفخر): شكرًا  لمنحيَ كلّ هذه الثّقةِ يا أحلى تيتا بالعالمِ.

الجدّ (متذمرًا): ثم ماذا؟ ألا تريدانِ أن تسمعا؟ لنؤجلِ الحكايةَ إلى المساءِ، أو إلى الغدِ أو إلى الأسبوعِ القادمِ؟

الجدّة وسامي (معًا): بل نسمعُها.

الجدّ: طيبْ! سأقصُّها وأمري للهِ!

الجدّة (تهمسُ في أذنِ حفيدِها): أسمعتَ ما يقولُ؟ كأننا نجبرُهُ على روايتِها.

سامي (هامسًا): لا تعلّقي يا تيتا مهيبة، وإلا سيحرِدُ ولنْ يرويَها!

الجدّة (مستسلمةً بتأفف): لن أعلّقَ!

ولكنها علّقت: أمركَ لله!

(ب)

الجدّ: تقولُ الحكايةُ: عندما أطلَّ الصَّباحُ الجميلُ على الطَّبيعةِ، وقبَّلَتِ الشَّمسُ بأشعتِها النَّاعمةِ كلَّ الكائناتِ، كما أيقظتِ الطُّيورَ من أعشاشِها، إذ راحَت تزقزقُ فرحةً باستقبالِ فجرٍ جديدٍ، نهضَ البلبلُ الوسيمُ في خفةٍ ونشاطٍ، فرتَّبَ سريرَ القَشِّ الذي بناهُ قبلَ أيامٍ على الشَّجرةِ، ثم طارَ إلى غصنٍ منها مُشرفٍ على الشَّمسِ، وراحَ ينظفُ ريشَه النَّاعمَ اللامعَ البَرَّاقَ بمنقارِه.

الجدّة: أحببتُ وصفَهُ بالوسيمِ.

الجدّ: لأنه وسيمٌ فعلًا، بل من أجملِ مخلوقاتِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى.

الجدّة: يعني، يا سمسومةَ قلبِ جدتكَ: البلبلُ- بوسامتِهِ  وصفيرِهِ أو تغريدِهِ أو شدوِهِ- هو مَن يستحقُّ أنْ يقالَ عنه: إنه “صوتٌ وصورةٌ”.

سامي (يضحك): أكملْ يا جدي أكمل.

الجدّ: ثم انتقل البلبلُ إلى ساحةِ الدَّارِ، وبدأ يتناولُ فطورَه، وكانَ عبارةً عن شَقَفَةِ خبزٍ مُبتلَّةٍ بالماءِ.

سامي: من دونِ لَبَنةٍ…

الجدّة (تضحك): نعم، من دونِ لَبَنةٍ!

الجدّ:  وبينما كانَ هرُّ البيتِ الأبيضُ الكسولُ يتمطَّى بفتورٍ وقد نهضَ- كعادتِهِ- متأخرًا، رأى البُلبلَ الوسيمَ المجتهدَ يتناولُ فطورَه…

الجدة (تكمل): فأسرعَ إليه.

الجدُّ: قبلَ أن يغسلَ وجهَه.

سامي (بحماس): وحاولَ أن يقنعَهُ بجمالِ المشارَكةِ.

الجد (ضاحكًا): أحسنتَ يا حفيدي!

الجدة: ولكن كيف؟

الجد: من خلال ما يُسمى بالمُداهنةِ.

الجدة (تخاطب حفيدها): أي المُخادَعة، أو الغشّ.

الجد: وللمداهنةِ أو المخادعةِ أو الغشِّ أساليبُ كان أسهلها عليه: قصيدة مديحٍ قالَ له فيها:

أيُّها البُلبلُ، يا مَن

وهبَ العالمَ لحنَهْ

أعطِني من خبزِكَ المُبْتَلِّ

، يا فتانُ، حَفْنَهْ

الجدّة: الحَفْنَةُ تعني يا سامي: ملْءَ الكفِّ.

سامي (باهتمام): طلبَ- على ما أعتقدُ- ما يشبعُهُ.

الجدّة: أما انا، فأعتقدُ أنه طلبَ أقلّ مما يشبعُهُ.

سامي: ولماذا لم يطلبْ حاجتَهُ؟

الجد: لأنه يشاركُ عصفورًا.

سامي: آه! صحيح!

الجدّة: الكسولُ يكتفي بما يأتيهِ من غيرِ تعَبٍ، حتى لو كانَ أقلَّ مِن حاجتِهِ، والمهمُّ عندهُ ألا يبذلَ جهدًا للحصولِ على الطّعامِ.

سامي (يجادل): لكنهُ بذلَ جهدًا كلاميًّا: “يا مَنْ وهبَ العالمَ لحنَهْ”، ولا تنسي أنه ناداه بـ”الفَتَّانِ”!

الجدّة: بائعُ كلامٍ: مُداهِنٌ، مخادِعٌ، غشَّاشٌ.

الجدّ: كمعظمِ الكُسالى أو الكَسالى!

سامي: ها إننا نكتشفُ صفاتِ الكُسالى أو الكَسالى يا جدتي.

الجدّة (متحدية الجد): كلُّ حكايةٍ تضيفُ إلينا اكتشافاتٍ. بعضُها يقدم القليلَ من الاكتشافاتِ، كحكاياتِ جدو عزيز بكْ، وبعضُها- كحكاياتِ تيتا مهيبة- يقدم في كل حكايةٍ ألفَ اكتشافٍ واكتشافٍ.

سامي (يضحك): لا تراهني على حرَدِ جدو عزيز!

الجدة (تدّعي الجدية): أنا لا أُراهن، بل أقول حقائقَ، فإن آلمَتِ الحقائقُ أحدًا، فعليه أن يبذل جهودًا للوصول إلى الأفضلِ، فليسَ سهلًا أن تكونَ حَكواتيًّا.

الجدّ (مدعيًا الحرد): تفضلي إذن، يا مهيبة خانمْ، يا قمرَ الحكواتيّاتِ، وأكملي الحكايةَ شِعرًا، ولا تنسي أن تشيري إلى تسعمائةٍ وتسع وتسعين اكتشافًا تبهرينني وحفيديَ بها.

الجدة (متهربةً): أنا لا أجيدُ نظمَ الشّعرِ، وإلا…

سامي (يضحك): نعم يا جدو عزيز، أنا لم أسمعْها مرةً تحكي حكايةً فيها شعرٌ.

الجدة (تهلل لمساندة حفيدِها): أنا متخصصة بالنّثرِ، وأرى أن سمسومة قلبِ جدته منسجمٌ مع أجواءِ الشّعرِ فيها؛ لذا أتمنى عليكَ أن تكملَ.

الجد: لن أكملَ!

سامي: أرجوكَ يا جدو عزيز، فجمالُ هذه الحكايةِ يكمنُ في كونِها مُصاغَةٌ شعرًا.

الجد (يتنهد): طيبْ! (ويكمل الجدُّ): وقبلَ أن يجيبَ البلبلُ الوسيمُ الهرَّ الكسولَ بائعَ الكلامِ إلى طلبِهِ، أجابَهُ البلبلُ:

يا أبا الفئرانِ مهْلًا

استمِعْ نُصْحَ الصَّديقْ

قبلَ أنْ تطلُبَ مني

الخبزَ أو بعضَ الدَّقيقْ

اغتسلْ بالماءِ وامسَحْ

عنكَ أدرانَ الطَّريقْ

سامي: شرطُ العصفورِ يا جدي كشرطِ جدتي قبلَ تناولِ الطّعامِ!

الجدّة: طبعًا، فقد قالَ الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: “مَن غسلَ يديهِ قبلَ الطّعامِ، لم يزلْ في فُسْحةٍ من رزقِهِ”.

الجدّ: وطبعًا، خجلَ الهرُّ، وقالَ للعصفورِ: 

ــــ اعذرني قد تأخرْتُ في النَّومِ يا صديقي، فرأيتُك تتناولُ فطورَكَ، ولم يسمحْ لي الوقتُ أن أغسلَ وجهي وأنظِّفَ جسمي. فأجابَ البلبلُ مُغنيًا:

نَمْ باكرًا يا صديقي

تجدْ رقادَكَ أحلى

وانهضْ مع الشَّمسِ صبْحًا

يكنْ نهارُكَ فُلّا

سامي (يضحك): اكتشافٌ ثانٍ يا تيتا مهيبة: نمْ باكرًا وانهضْ باكرًا.

الجدّة: لا بأس باكتشافين شِعريينِ، المهم: خجلَ الهرُّ!

الجدّ: خجل الهرُّ فعلًا، واستأذنَ من صديقهِ البُلبلِ أن يذهبَ ليغسلَ وجهَه، بينما كفَّ البُلبلُ عن تناولِ طعامِهِ حتى عادَ الهرُّ نظيفَ الوجهِ، مصقولَ الفروِ، فجلسا معًا وتناولا فطورَهما بلذَّة.

(ت)

الجدّة: ومنذُ ذلكَ اليومِ، صارَ الهرُّ ينامُ باكرًا وينهضُ باكرًا، ويغسلُ يديهِ قبلَ تناولِ طعامِه، وبعدَهُ طبعًا.

سامي: طبعًا.

الجدّ: شكرًا لاستخلاصِكِ زبدةَ الحكايةِ يا جدةَ سامي!

الجدّة: استخلاصُ زبدة حكايةٍ فيها اكتشافان اثنان فقط ليس بالأمرِ الصّعبِ. ولكنكَ فتحتَ شهيتي وحفيدي على الشّعرِ.

(تلتفت إلى حفيدِها): آسفة إن تحدثْتُ باسمِكَ قبل استئذانكَ.

سامي (لجدته): تحدثي باسمي موجودًا كنتُ أو غائبًا.

ولجده: فتحتَ شهيتَنا على الشِّعرِ!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات