مهرجان دقة الدولي … عنوان لتونس السامية المسمية

05:27 مساءً الأحد 30 يوليو 2023
خالد سليمان

خالد سليمان

كاتب وناقد، ،مراسل صحفي، (آجا)، تونس

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
  • بعد حوالي 60 كيلو متر أو أقل و أنت تتجه من تونس العاصمة إلى الشمال الغربي يبدأ الطريق في الصعود تدريجا و بصورة غير ملحوظة خاصة إذا تجاوز الوقت موعد غروب الشمس ، لكن و بعد 108 كيلو متر تقريبا و عند معتمدية “تبرسق” في ولاية “باجة” يزادد الصعود صعوبة و تزداد المنحنيات حدة و المشهد إثارة و أنت تختلس النظر من “الهفهوف” حيث الحافة القريبة جدا و أنت ترى أضواء الديار البعيدة تتلاشى فيما تشبه السيارات البعيدة علب الثقاب في الطريق إلى “مدينة دڨة الأثرية” التي أصبحت تعرف بهذا الإسم المستقى من إسمها الأصلي البربري “توغا” و التي تعني الجبل الصخري .. هذه المدينة التي يرجع تاريخها إلى عام 500 قبل الميلاد يمكننا القول أنها تلخص تاريخ حضارة تونس إذ تعاقبت عليها الحضارات و الحقب فمن .. البربرية .. إلى البونية ، ثم جاء الرومان ، و الوندال ، و البيزنطين ، و العرب ، و الأندلسيين ، و الأتراك و غيرهم ممن مروا بتونس أو إستقروا فيها .. لكن ” مدينة دڨة الأثرية ” المعروفة اليوم هي المدينة الرومانية التي بنيت على أنقاض “دڨة” البونية ، و أهم معالم تلك المدينة الباقية حتي اليوم هي “الكابيتول” ، و “صهاريج المياه” ، و “الحمامات” ، و “المسرح” الذي إنشئ منذ حوالي 1832 عام بين عامي 165 و 168 م كان مخصصا للعروض المسرحية و الطقوس الدينية ..
    هذا المسرح البديع الذي كان وجهتنا لحضور إفتتاح مهرجان دقة الدولي ينقسم إلى ثلاث أقسام أساسية و هي : 1- المدرج الروماني نصف الدائري و الذي توجد به أماكن مخصصة لكبار الشخصيات في ذلك العصر الذي بني فيه ..
    2- المكان المخصص للأوركسترا ..
    3- خشبة المسرح أو بالأحرى منصته الحجرية .. و التي تتميز بقربها من مدرجات الجمهور مما يعطي للعروض المقامة عليه حميمية و حماسة محببة في التفاعل بين أبطال العروض و الجمهور ..
  • لم يكن من الممكن التطرق إلى تاريخ “دڨة” و تونس .. و الفن فيهما دون الرجوع إلى الصديق الغالي الكبير “د/محمد رضا الماجري” الذي تجري تونس في دمه مجرى الدم في العروق .. و تجول في نفسه مكان النفس ليفاجئني كعادته بأن “مهرجان دڨة” هو أقدم مهرجانات تونس في العصر الحديث إذ عاد نشاطه بعد قرون في 1920 م بعرض لفرقة “الكوميدي فرانسيز” التي أعادت إحياء النشاط المسرحي في هذا المكان و أقامت من جديد أعمدته التي كانت ملقاة على الأرض ، و كان المهرجان آنذاك مخصصا للعروض المسرحية الكلاسيكية ..
    و ربما من خلال التاريخ العريق للمكان .. بالإضافة لتلك المعلومات القيمة أدركنا لماذا تبدلت رؤيتنا من مجرد ملاحظة الصعود و الإرتفاع .. إلى شعور بالسمو و التسامي المفارق الشاهق إن جاز التعبير .. و كيف لا و أحساسك يزداد بالإقتراب من إحتواء المكان المعنوي بعظمته ، و توقع تميز المحتوى الذي لابد و أنه يليق بالمكان ..
  • الإفتتاح الضافي :

كان عرض إفتتاح مهرجان دڨة الدولي متكاملا مع المكان و تاريخه و كأن الأثنين معا يقولان هنا تونس حيث يكمل كل منا الأخر..
بالجبة التونسية التقليدية التي إرتداها الفنان التونسي الكبير “زياد غرسة” و كذلك فعلت فرقته مع تأثير المكان إحتوتنا عراقة تونس التاريخية و كأننا جميعا كنا مهيئين لذلك ، و بمهارة غير مستغربة من نجل فنان تونس الكبير الراحل “الطاهر غرسة” قدم “زياد” في الجزء الأول فاصلا محترما من “المألوف” التونسي الذي يعكس الرافد الأندلسي الهام في الحضارة التونسية لتشعر أن “تستور” الأندلسية الجارة القريبة “لتبرسق و دڨة” قد تماهت معهما و إندمجت بسلاسة و رفق لتتغلغل في نسيج تاريخ المنطقة بحقبه المختلفة لتخرج لنا تونس العريقة الثرية بروافدها ..
كانت محطة “المألوف” شجية شديدة التميز فقد ورث “زياد غرسة” عن أبيه منذ نعومة أظافره معرفة واسعة بأسرار ” الطبوع – المقامات ” التونسية .. فضلا عن حفظه التام ” لسفينة – أو سفاين ” ” المألوف ” و هي نصوص ” المألوف ” المتوارثة منذ القدم بالإضافة لما إزداد إليها عبر العصور ..
بمهارة إنتقل ” زياد غرسة ” من فاصل ” المألوف ” إلى مختلف أنواع الغناء التونسي القحة ذات الطابع الكلاسيكي المحكم وسط تفاعل رائع من جمهور “مهرجان دڨة” المتميز جدا .. بحيث يمكن القول أن إفتتاح ” مهرجان دڨة الدولي ” كان الأفضل و الأكثر توفيقا إلى جانب ” مهرجان الموسيقى السمفونية بالجم ” مقارنة ببقية المهرجانات ..

  • فايا يونان تقتسم الألق و النجاح مع جمهور “مهرجان دڨة الدولي” :

في ثاني عروض “مهرجان دڨة الدولي” توقع البعض أن لا يكون الإقبال كبيرا نظرا لتزامن الحفل مع حفلات هامة ضمن برمجة المهرجانات الأخرى القريبة جغرافيا .. ، فضلا عن بعد المسافة النسبي “لمهرجان دڨة الدولي” عن العاصمة تونس ، لكن المفاجأة كانت في الحضور الكبير لثاني حفلات المهرجان الأمر الذي الهب حماس نجمة الحفل “فايا يونان” و الفرقة التونسية المصاحبة بقيادة المايسترو “محمد الأسود”.. فقدموا عرضا متنوعا ضم الحان و أغان من مختلف المذاهب و المشارب الفنية لحنا و إيقاعا ضم الوانا من مصر ، و العراق ، و الخليج ، و سورية ، و أحتلت فيه تونس نصيب الأسد سواء بأغان خاصة بنجمة الحفل أو أغنيات معادة لأخرين ..
و كان تفاعل الجمهور مدهشا و بديعا إذ تبين أنه يحفظ كافة الأعمال بما في ذلك الحديثة جدا لحنا و كلمات ليشارك “فايا يونان” الأداء بمنتهى الحميمية حتى أنها عبرت بتأثر شديد عن فرحتها الغامرة متفاعلة مع الجمهور باللهجة التونسية ..
وبالفعل لعب الجمهور دورا أساسيا في نجاح الحفل الثاني تفاعلا و أداء

  • و بغض النظر حول إمكانيات “فايا يونان” التي قد يختلف عليها البعض .. إلا أنها فنانة ذكية تتمتع بإحساس ملحوظ في الأداء .. و تجيد التفاعل مع الجمهور و نسج علاقة حميمة جدا معه ..
  • ماذا بعد منتصف الطريق :

يمكن القول أن معظم المهرجانات الهامة قد قطعت ما يقرب من منتصف الطريق بالنسبة لعدد العروض المشاركة فيها .. ، لذا لابد من التنويه بجودة التنظيم و الإنضباط في مهرجان الموسيقى السيمفونية بالجم ، و مهرجان الحمامات الدولي ، و مهرجان دڨة الدولي .. وذلك حسب الترتيب الزمني لبدء هذه المهرجانات ..
و يلاحظ أيضا أن الهيئة المديرة لمهرجان دڨة الدولي قدمت برمجة مميزة لدورة هذا العام 2023 و ربما قد تحقق ذلك بعد أن حقق المهرجان إستقرارا و نشاطا ملحوظا بعد عدة دورات من إختيارها للسيد / مختار بلعاتق مديرا للمهرجان مما أتاح له تطوير التنظيم و إحكامه ..

  • البطل الحقيقي و الجنود المجهولين :

و يبقى التنويه بأن البطل الحقيقي لمهرجان دڨة هو الجمهور الرائع في التفاعل و التنظيم و التصرف بتحضر بالغ حتى عند الدخول و الخروج .. ، فضلا عن حفاوة المنظمين و أهالي “دڨة” و “تبرسڨ” بضيوف المهرجان ، .. الأمر الذي يدعو لمراجعة علاقة المركز بالأطراف في كافة البلدان النامية و السعي نحو تحقيق قدر أكبر من عدالة توزيع المنتج الثقافي لتلك الأطراف المتعطشة للتفاعل مع الإبداع .. ، و يكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر سعي صبي صغير من منطقة “تبرسڨ” يوميا سيرا على قدميه لعدة كيلومترات لمتابعة عروض المهرجان مما يعكس محبته للفنون و تعطشه لها .. و من يدري ربما رأينا هذا الصبي مبدعا كبيرا في المستقبل و هو ما يحدونا للسعي من أجل تفتح الزهور في أطراف كل بلداننا و ليس في المراكز فقط التي تحصل على نصيب الأسد ..

  • أما الجنود المجهولين الذي يستحقون منا جميعا وافر التحية و الإحترام هم من يحرصون يوميا على نظافة المسرح الروماني الرائع و ما حوله لكي يبقى المكان الساحر الجليل لائقا بأسم تونس المتحضرة السامية المسمية و المصطلح الأخير يعني بالعامية التونسية .. المشهورة ذائعة الصيت طيبة الذكر و هي كذلك بفضل أهلها المخلصين في كامل ترابها .. خاصة أهل الشمال الغربي في دڨة و تبرسڨ الذين شعرنا معهم أننا حللنا أهلا و نزلنا سهلا .. في ” توغا-دڨة ” التي تعني بالبربرية ” الجبل الصخري “.. لكن لاشك في كونه مسكون بالقلوب الرقيقة الطيبة

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات